Okaz

ﻫﻞ أﺷفﺘﻪ مﻦ «الّسﻜﺘة الﺸﻌرّية» ؟

- حياة الرايﺲ - كاتبة تونسية مقيمة بفريبورغ بسويسرا

فــي الــتــاسـ­ـع عــشــر مــن تــشــريــ­ن الــثــانـ­ـي 19( نـوفـمـبـر )1910 ﻏادر الشاعر املــدلــل «رايــنــر مـاريـا ريلكه» ( 1875 – )1926 النمساوي األصل، األملاني اللغة، ميناء مرسيليا الفرنسي، متجهًا إلى شمال إفريقيا ومصر، إلى الشرق حيث ينبغي (توسيع الحلم) كما كان يأمل. في رحلة مولتها له امرأة ثرية، متزوجة من تاجر فراء كبير، هي السيدة (جيني اولتيرسدور­ف) وساهم فيها أصحابه األثرياء أيـضـا حـسـب طـلـبـه، مــؤكــدا أهـمـيـة هــذه الــرحــلـ­ـة، بالنسبة لحياته الـروحـيـة واإلبـداعـ­يـة والفكرية، كما لـو أنـهـا رحلة عــاج. وهــي ما سماه بعض النقاد وخصوصا منهم (رالف فريدمان) صاحب كتاب (حياة شاعر: راينر ماريا ريلكه) بـ(االحتباس الشعري)، وأحب أن اسميها بـ (السكتة الشعرية). زد على ذلك النسخة التي بعثتها له زوجته (كارا) من ترجمة كتاب (ألف ليلة وليلة)، من مصر. فأﻏوته هذه األجـواء وشدته مناخاتها الشرقية. ورأى أن رحلة إلى الشرق يمكن أن تكون العاج الذي يعيد الحيوية إلى نفسه املضطربة. ويمكن أن تكون وثبة روحـيـة نحو (املجهول الفاتن) الــذي أخــذ الـشـرق يمثله فـي وجــدانــه. وإن استكشاف الشرق سوف يشكل نقلة نوعية وطفرة إبداعية في حياته الشخصية واإلبداعية. هكذا كتب إلى صديقه الروائي الفرنسي (أندري جيد) يرجوه النصح واإلرشاد والعون في تنفيذ مغامرته الشرقية. فشجعه (أندري جيد) وتحمس كثيرًا إلى هذه الرحلة، التي بدأها بالجزائر. وسيعود للكتابة إليه بما وصفه بـ«صدمة الواقع املــادي، الحاضر دائما بشكل جديد وال نهائي»، وقد كان كأي سائح أوروبي لم ير في الجزائر إال أرضًا فرنسية أوال.. فغادر إلى تونس ومر على أثار قرطاج وروما قبل أن يصل إلى العاصمة، فاحت له تونس أقرب إلى مناخات (ألف ليلة وليلة) من الجزائر، بل اعتبر أنها شرقية حقًا. هو الذي ال يعرف الشرق إال من خال فلوبار ونرفال وحكايات شهرزاد... وفي رسالة إلى زوجته (كــارا) بتاريخ 17 ديسمبر وعلى سبيل وصفه وانطباعاته كتب يقول: «فــي األســـواق تقع أحيانًا بـرهـة خاطفة يستطيع فيها املــرء أن يتخيل عيد املياد: املنصات الصغيرة ممتلئة بأشياء ملونة.. واألقمشة وافرة ومدهشة والذهب يلمع جذابا. وكأن املرء سوف يتلقاه هدية ﻏدًا. وحني يحل الليل وبعيدًا عن هذا كله يضيء مصباح واحد ويتمايل، مهتاجًا بحضور كل شيء يقع عليه الضوء. عندها فإن (ألف ليلة وليلة) تحول كل ما اعتقد املرء أنه أمل ورﻏبة وإثارة.. ويصبح عيد املياد ﻏير عصي على املخيلة في نهاية األمر». يبدو السوق طافحًا باألشياء املادية التي يمكن أن تكون طقسًا مائمًا لعيد املياد املسيحي. كـأن الشاعر يحمل طقسه الغربي معه. ولم يتخلص مـن وعيه الغربي وإيمانه املسيحي، فـي بحثه عـن إطار جديد ﻏرائبي ومثير مستوحى من (ألف ليلة وليلة)، مناسبًا لعيد املياد، خصوصًا أنهم على أبواب رأس السنة حسب تاريخ الرسالة التي ذكرنا 17( ديسمبر)، ثم ال ننسى من ناحية أخـرى أن ريلكه كـان في ذلـك الطور من حياته ما زال متأثرًا بـاألجـواء الصوفية/ املسيحية التي دفعته إلى كتابة سلسلة قصائد (رؤى املسيح) حسب ما يرى كتاب سيرته الذاتية والشعرية. وفـي رسالة أخــرى وعـن مدينة القيروان، يقول: «تمامًا مثل رؤيا، تنبسط هذه املدينة املسطحة، البيضاء، في أسوارها ذات الشرفات املـفـرجـة. وال شـيء فيها سـوى السهل والقبور املحيطة به وكأنها محتلة من موتاها الذين يرقدون هنا وهناك خـارج الـجـدران. وال تكف أعدادهم عن االزديــاد. وهنا يدرك املرء على نحو مبهﺞ، بساطة وحياة هذه املنطقة والنبي فيها كأنه كان هنا باألمس واملدينة ملكه وكأنها مملكة». فـي هــذه الرسالة أيـضـًا، تتكرر أكثر مـن ذي قبل مناخات (ألــف ليلة وليلة) وصورة الـشـرق الـغـارق فـي املـاضـي وحــده، املقيم فـي كنف األمـــوات واألوابـــ­د الصامتة، حيث األمس هو اليوم واملدينة مملكة. دون أية محاولة لاقتراب العميق أو حتى السطحي، من الثراء اإلنساني والتاريخي والديني واملعمار اإلسامي ملدينة مثل القيروان. في مقابل هذا (الفشل اإلبداعي) كما سماه بعض النقاد وكتاب سيرته الذاتية الذي أسـفـرت عنه رحـلـة ريلكه الـوحـيـدة إلــى الــشــرق: أن مصر وتـونـس والـجـزائـ­ر لـم يفلح أي منها فــي حــث ريـلـكـه عـلـى كـتـابـة قـصـيـدة واحـــدة تستلهم معطيات هــذه األرض الحضارية، في حني أن الشاعر األملاني كان قد حقق نجاحًا مذها في رحلة إلى حديقة حيوانات باريس، وهي حديقة حيوانات ونباتات معًا. أسفرت تلك الرحلة عن سلسلة قصائد تعرف باسم قصائد الحيوانات وقصائد األشياء بينها ثاث شهيرة: النمر، وطيور البشروش، والغزالن. مفارقة ﻏريبة أن تنجح حديقة حيوانات ونباتات في إثارة قريحته الشعرية وتفشل حضارة عربية/ فرعونية في تحريكها. ﻏير أن هذه (العطالة) املذهلة في رؤية اﻵخر، لم تكن سوى واحدة من سلسلة خصال إبداعية وسلوكية أخرى، مثيرة للعجب، في شخصية ريلكه حسب كتاب رالف فريدمان الذي سبقت اإلشارة إليه حياة شاعر/ راينر ماريا ريلكه. فهل هي عطالة فعلية في رؤية اﻵخر؟ أم هي صدمة حضارية أحدثتها مفارقة (ألف ليلة وليلة) للواقع؟

 ?? ??
 ?? ?? راينر ماريا ريلكﻪ
راينر ماريا ريلكﻪ

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia