النبوغ في رواية القصة

كاسبار هيرزبرج رئيس شركة Schneider Electric( ) لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ليس مجرد خبيرٍ في القطاع أو قائدٍ للأعمال أو رائدٍ في مجال المدن الذكية، ففي قلب كل ما يقدمه جوهرٌ من الإبداع.

مع أكثر من 20 عامًا من الخبرة، يُعد كاسبار هيرزبرج رئيس شركة Schneider( )Electric لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا واحدًا من الآباء المؤسسين لمفهوم المدن الذكية، حيث حصل على الكثير من المناصب وتلقَّى العديد من الألقاب المختلفة، من ضمنها "الكاتب المرموق"، ففي كتابه )المدن الذكية والدول الرقمية: بناء المدن الذكية في الدول الناشئة وخارجها - Smart Cities, Digital Nations: Building Smart Cities )in Emerging Countries and Beyond الذي نشرته دار Roundtree Press( ) عام 2017، يتناول هيرزبرج أهم الموضوعات الرئيسية المتعلقة بكيفية إدارة الابتكار وتبنِّي ريادة الأعمال ومواجهة الفشل، داخل إطار رحلته في تطوير البنية التحتية الرقمية دائمة التغيُّر في المناطق الحضرية.

وعبر سرده خطواته التي اتخذها في اكتشاف إمكانيات المدن المترابطة، وتوجهه إلى العالم أثناء عمله السابق لدى شركة Cisco(،) يأخذ هيرزبرج القارئ معه في رحلته منذ بداية نشأة المدن الذكية في المملكة العربية السعودية إلى مختلف المشاريع في الصين وكوريا والهند، قبل استكشافه الفرص المتاحة في مصر. لكن الكتاب الأشبه بالسيرة الذاتية ليس مشروعًا للفخر أو التباهي، فرغم أن القصة تُروى بأكملها من واقع خبراته وتجاربه، إلا أن الكاتب يتحدث بصدقٍ وشفافيةٍ مطلقةٍ فيما يتعلق بفشله ونجاحه طوال مسيرته.

يقول هيرزبرج: "أعتقد أن الفشل في شيءٍ كبيرٍ في البداية أمرٌ جيد، يمكِّنك من النمو والتعلم. والآن بعد أن أصبحتُ أدير شركةً ليست صغيرة، يراودني القلق بشأن القادة الذين يعملون لديَّ ولم يفشلوا مرةً واحدةً على الأقل في حياتهم".

ودون الكشف عن الكثير مما يتناوله الكتاب، يمكننا القول: إن رحلة هيرزبرج بدأت عندما كان يعمل لدى مجموعة )Internet Business Strategy Group( التابعة لشركة Cisco(،) الشركة التي عمل بها لمدة 10 سنواتٍ بدءًا من عام 2005.

وخلال عمله، اكتشف لأول مرةٍ خطط المملكة العربية السعودية لإنشاء المدن الاقتصادية الجديدة بها، ومنها استوحى الفكرة الرائدة. عمل هيرزبرج مع فريقه على تطوير مفهوم إنشاء شبكةٍ قائمةٍ على نطاق مدينةٍ بأكملها، تربط بين كل شيءٍ فيها، من خدماتٍ ومبانٍ، ثم سعى لإثبات كيفية الاستفادة من ذلك في مختلف

الجهات. يقول موضحًا: "تتمثل الفكرة في القدرة على الربط بين العقارات، ووسائل النقل جميعها، وكل شيءٍ آخر في المدينة، ووضع كل ذلك على منصةٍ واحدة".

وبعد أن استطاع إقناع هيئة الاستثمار العامة المعنية ببناء المدن الاقتصادية لتقديم عطاءٍ لإحدى شركات الخدمات الاستشارية لتصميم الشبكة وتنفيذها، خسرت شركة Cisco() في النهاية أمام شركة Ericsson() التي قدمت عرضًا بسعرٍ أقل. إلا أن هيرزبرج لم يدع ذلك الفشل يقف عائقًا أمامه. حيث نما إلى علمه أن كوريا تُنفِّذ أفكارًا مشابهةً لفكرته، لذلك حزم حقائبه وتوجه إلى سول. وهناك، قابل مجموعة )SK Telecom( الكورية العملاقة، بجانب العديد من شركات الاتصالات الأخرى، والشركة الأمريكية المسؤولة عن تطوير مدينة "سونغدو"، المدينة الكورية الذكية الجديدة.

يقول هيرزبرج: "عقدنا هناك العديد من الصفقات. وكان هناك تركيزٌ كبيرٌ على عاملَي الفيديو والحضور عن بعد، واستخدام عامل الحضور عن بعد في عددٍ من الخدمات المختلفة، بدءًا من التعلم عن بعد، وصولًا إلى استخدام خدمات المدينة من داخل الشقق السكنية".

وجذب النجاح المُحقق انتباه العالم مع إطلاق المشروع الذي تلقَّى الكثير من الضجة الإعلامية. وبذلك، حزم هيرزبرج حقائبه مرةً أخرى وتوجه إلى الصين لتجربة مفهوم المدن المترابطة، محققًا النجاح في مدينة تشونغتشينغ حيث كان هناك تركيزٌ كبيرٌ على كاميرات المراقبة. ويعترف بأن هذه التجربة طرحت أمامه بعض المسائل الأخلاقية، مع اتخاذ شركة Cisco() قرارها بعدم الاستمرار في العمل في هذا المجال. ويتابع قائلًا: "أعتقد أن على المرء الشعور بالارتياح فيما يفعله. وأعتقد أن هناك الكثير من البيئات التي لن تتمكن من تحقيق ذلك فيها، حيث لن ترغب في العمل معها بصفتك قائدًا مستقلًا".

وتتناول الفصول الأخرى في الكتاب أعمال شركة Cisco() في الهند، والإمكانيات المتاحة التي يمكن استكشافها في مصر التي تكاد المدن الكبرى بها تنفجر من الكثافة السكانية. والأمر الذي يتجلى في الكتاب بأكمله هو الروح الريادية والعزيمة القوية لتحقيق النجاح.

يقول هيرزبرج: "عادةً ما يخشى الناس كل شيءٍ جديدٍ ويرفضونه. واعتقد أن الدروس المستفادة من الكتاب مهمةٌ لكل شخصٍ يرغب في فعل شيءٍ جديد"، وهو الأمر الذي يمكننا رؤيته في كل مكان. ويتابع: "هناك رواد أعمالٍ في الشركات الضخمة متعددة الجنسية وفي الحكومات وفي المدارس، فرواد الأعمال موجودون في كل مكان".

الأمر المهم الآخر الذي يمكننا استخلاصه من الكتاب هو أن ريادة الأعمال ليست مقتصرةً فقط على الولايات المتحدة، أو الثقافة الغربية بشكلٍ عام. وربما ستصبح المدن الذكية منتشرةً في كل مكانٍ في العالم في يومٍ ما، إلا أن نشأتها وبدايتها دائمًا ما ستكون في منطقة الشرق الأوسط وآسيا، وهي الحقيقة التي ستظل متواجدةً دائمًا. والوصل بين الشرق والغرب لا يقتصر فقط على تجارة السلع، ولكن يمتد أيضًا إلى تبادل الأفكار. وقد رُسِّخت بالفعل فكرة المدن الذكية في العالم الآن، بفضل رواد الأعمال مثل هيرزبيرج، أحد الخبراء القليلين الذين كانوا متواجدين منذ البداية.

يقول هيرزبيرج: "المدن الذكية هي المدن التي ترغب في العيش بها، وتجعلك تشعر بالسعادة، وهذه السعادة تأتي من استخدام التكنولوجيا لمواجهة مختلف التحديات. إذا كانت التحديات التي تعاني منها تتعلق بكيفية ذهابك إلى العمل وما يحدث لك أثناء طريقك إلى العمل، فكيف بمقدور التكنولوجيا مساعدتك على مواجهتها؟ وإذا كانت التحديات التي تعاني منها تتمثل في الجرائم المنتشرة، فكيف بمقدور كاميرات المراقبة واستخدام إستراتيجيات الحماية مواجهة ذلك؟ وإذا كانت التحديات التي تعاني منها تتعلق بالبنية التحتية الأساسية، مثل المياه أو الكهرباء، فكيف بإمكان التكنولوجيا مساعدتك في إيجاد حلٍّ لذلك؟ تتمثل الإجابة على كل هذه الأسئلة وأكثر في أن التكنولوجيا تستطيع تقديم الكثير لك، طالما يرتكز استخدام المنتجات الجديدة على احتياجات المستخدمين لا رغبات الشركات. وهو ما يعني أن الحكومات والشركات تحتاج إلى التركيز على اتخاذ الإجراءات التي من شأنها التأثير مباشرةً على المشاكل المهمة التي تحتاج إلى حلٍّ، بدلًا من محاولتها بيع الأفكار التي استثمرت فيها بالفعل".

ومن أفضل الأمثلة على ذلك، رحلة هيرزبيرج التي بدأت من كونه رائدًا إلى أن أصبح قائدًا ذا خبرةٍ كبيرة، والتي يتجلى لنا من خلالها أن غرضه لم يكن تجاريًا، كما أنه ليس خبيرًا تقنيًا في مهمةٍ لجعل اسمه يسطع في الساحة.

يقول هيرزبيرج: "على المرء التركيز بدقةٍ في كل ما يفعله وما يعنيه ذلك، وكيف بإمكانك الاستفادة مما حققتَه، وتحدي الطرق المتبعة على نطاقٍ واسع. فأنا أركِّز على ما تحتاج التكنولوجيا تحقيقه، ثم على كيفية استخدام الأدوات المتاحة لتحقيق ذلك".

وبعد أن ترك شركة )Cisco( عام ،2015 متقلدًا منصب رئيس شركة )Schneider Electric( لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، يفكر هيرزبيرج في نشر كتابٍ آخرٍ يتابع فيه رحلته مع المدن الذكية والأمور الأخرى ذات الصلة، رغم أن كتابه Smart Cities, Digital Nations( ) سيظل ذا قيمةٍ كبيرةٍ لفترةٍ طويلة.

ويؤكد هيرزبيرج على ذلك قائلًا: "في النهاية يتعلق الأمر بالتغلب على المقاومة، واستجماع قوانا بعد نهاية كل معركةٍ خسرناها، والتعلم من أخطاء الماضي، ثم التحرك مرةً أخرى وفعل ذلك بشكلٍ أفضل. هذا هو الأمر الذي يفضله الناس بشأن ذلك، وهو ما آمل أن يظل الناس يفضلونه حتى بعد مرور عشر سنوات".