Trending Events - Future Concepts

Strategic Culture

الاتجاهات الجديدة في دراسة الثقافة الاستراتيج­ية

-

يعد مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية من المفاهيم الحديثة نسبياً، حيث كانت بدايات ظهوره في سبعينيات القرن العشرين على يد عالم السياسة الأمريكي، جاك سنايدر، عندما حاول تفسير الاستراتيج­ية النووية السوفييتية إبان الحرب الباردة من منظور المعتقدات السائدة لدى النخبة السوفييتية حول الجغرافيا السياسية( ).

1 وعقب ذلك ظهرت محاولات متتالية لتطوير هذا المفهوم، حيث بات يركز أكثر على أهمية الثقافة السائدة والتوجهات الشعبية في صياغة سياسات الأمن القومي، وتخطى الفهم التقليدي لسياسات الأمن والدفاع التي كانت تنتهجها الدول، كما تجاوز المفهوم التركيز على مدركات النخبة للجغرافيا السياسية وارتباطها باعتبارات الأمن القومي لتركز على التوجهات العامة والرؤى المجتمعية السائدة حول المصالح القومية للدولة.

والإحاطة بمفهوم الثقافة الاستراتيج­ية له أهمية قصوى بالنسبة لصانعي السياسة والباحثين والمحللين في أي دولة، لأنها تقدم تفسيرات سببية للأنماط المتكررة لسلوك الدول، حيث إنها تساعد على فهم تصورات الرأي العام وإدراكه للعالم والنظام الإقليمي والسياسة الخارجية والدفاعية للدولة، ومفهوم الثقافة الاستراتيج­ية يعد بمنزلة حلقة وصل بين التفسيرات المادية لسلوك الدول، وتلك التي تركز على العناصر غير المادية لذلك السلوك.

اأولً: التطور النظري لمفهوم الثقافة ال�صتراتيجية

يجد مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية جذوره في دراسات الثقافة السياسية والاجتماعي­ة والتاريخ الدبلوماسي والعسكري، حيث كانت دراسات الشخصية القومية التي ظهرت في الفترة من 1940 إلى 1950، أولى المحاولات الجادة لتوضيح العلاقة بين مفهوم الثقافة بإطاره الشامل لكل من اللغة، والدين، والعادات، والتقاليد، ومدى تأثير كل ذلك على سلوك الدولة، ولكن هذه الدراسات لم تتناول العلاقة بين الثقافة وسلوك الدولة من الناحية السياسية، بل من الناحية الأنثروبول­وجية، حيث عرف عالم الأنثروبول­وجيا كليفورد جيرتز الثقافة على أنها "نمط تاريخي لنقل المعاني في صورة مجموعة من المفاهيم الموروثة، والتي يتم على أساسها التواصل وتطوير المعارف والمواقف عن الحياة".

وفي عام 1977، قام جاك سنايدر، بتطوير هذا المفهوم ليوسع من هذه الأفكار السابقة، ليؤسس للجيل الأول من نظريات الثقافة الاستراتيج­ية من أجل تفسير الاستراتيج­ية النووية السوفييتية، وقد نشرت تلك الدراسة في تقرير مؤسسة راند( ،( حيث سعى سنايدر لتفسير السبب الكامن

2 وراء اختلاف سلوك الاتحاد السوفييتي تجاه امتلاك المقدرات النووية عن توقعات الولايات المتحدة الأمريكية، معتمداً في ذلك على مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية، حيث رأى أن الاختلاف في تطور القدرات النووية الأمريكية والسوفييتي­ة، يرجع بشكل أساسي إلى اختلاف السياقات التنظيمية والتاريخية والسياسية جنباً إلى جنب مع القيود التكنولوجي­ة.

وتحدى سنايدر النماذج الواقعية السائدة آنذاك، والتي كانت تركز على معايير القوة المادية فقط، حيث أدرك أن التحليل يجب أن ينصب على فهم البيئة الثقافية الوطنية

لتفسير كيفية صياغة الاستراتيج­ية النووية، مما أعاد مسألة الأهمية المركزية للثقافة السائدة في دولة أو منطقة ما، إلى صلب البحث والتحليل الاستراتيج­ي، ومن هنا فقد عرف سنايدر الثقافة الاستراتيج­ية على أنها "مجموعة من الأفكار والاستجابا­ت العاطفية، وأنماط السلوك المعتادة والتي يأخذها أعضاء المجتمع في دولة ما بعين الاعتبار عند وضع الاستراتيج­ية النووية".

وقد رأى بعض مفكري الجيل الأول أمثال، ديفيد جونز وكولين جراي، أن الاختلافات في السياسات الأمنية والعسكرية بين الدولة تكمن في متغيرات البيئة الكلية المتنوعة، مثل الخبرة الجغرافية والثقافية والسياسية والتاريخية العميقة، حيث أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن أي استخدام للقوة النووية تجاه الاتحاد السوفييتي أو من قِبله، سوف يقود إلى خسائر فادحة للبشرية لا تستطيع التصدي لها من خلال قدراتها التكنولوجي­ة وهو ما انعكس في تبني سياسات الاحتواء وتوازن الرعب التي سعت لتجنب مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي( ).

3 ومن ثم اعتبر جونز، أن هناك ثلاثة مستويات مختلفة للثقافة الاستراتيج­ية، الأول؛ هو مستوى البيئة الكلية والذي يتكون من الجغرافيا والتاريخ والخصائص الإثنية والثقافية، والثاني؛ هو المستوى المجتمعي، وهو بدوره يتكون من الهياكل السياسية والاقتصادي­ة للمجتمع، وأخيراً؛ المستوى العسكري التنظيمي، ويتكون من المؤسسات العسكرية وسمات العلاقات المدنية–العسكرية، وخلص إلى نتيجة مفادها أن مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية ليس مجرد تعيين أو توضيح للخيارات الاستراتيج­ية المتاحة، ولكنه مفهوم متجذر في كل المستويات ابتداءً من تحديد التكتيكات وصولاً إلى تبني الاستراتيج­ية الكبرى للدولة، ووفقاً لجراي؛ فإن الثقافة الاستراتيج­ية توفر الوسط المناسب الذي يمكن من خلاله معرفة مدى تأثير الاستراتيج­ية على السياسة الأمنية للدولة.

وقد عرف كين بوث الثقافة الاستراتيج­ية على أنها "مجموعة من القيم والتقاليد والمواقف، وأنماط السلوك والعادات والرموز والإنجازات، والطرق المعينة للتكيف مع البيئة وحل المشكلات الخاصة بالأمة، مع الأخذ في الاعتبار مصادر التهديد والقدرة على استخدام القوة".

وعلى الرغم من أن الجيل الأول حاول إدخال العوامل غير المادية لتوضيح مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية، فإنه كانت هناك بعض أوجه القصور في تناول هذا المفهوم، كانت منها مشكلة تعريف الثقافة الاستراتيج­ية كمفهوم حديث، حيث ظهر المفهوم وكأنه مفهوم غير عملي كنتيجة منطقية لتوسيع المفهوم ليشمل التقاليد والثقافة التنظيمية والجغرافية والتكنولوج­يا، والممارسات الاستراتيج­ية والتاريخية، والثقافة السياسية والشخصية القومية، والأيديولو­جيا، وحتى بنية النظام الدولي، والتي اعتبرت جميعها مُدخلات لمفهوم الثقافة الاستراتيج­ية.

أما الجيل الثاني؛ فقد ظهر في منتصف ثمانينيات القرن العشرين؛ وقد نظر للثقافة الاستراتيج­ية على أنها أداة للهيمنة السياسية عند صناعة القرار الاستراتيج­ي( ،( وقد ركز هذا

4 الجيل على دور النخب في تشكيل الاستراتيج­ية العليا للدولة، من خلال استخدام الإكراه لتحقيق الهيمنة، ومن هنا يرى كلاين أن الثقافة الاستراتيج­ية هي نتاج للتجربة التاريخية، ولذلك فإن الدول تتبع ثقافات استراتيجية مختلفة نتيجة لاختلاف السياقات التاريخية فيما بينها، ولقد كان هذا الجيل يسعى للتأكيد على الاتجاه المعياري في العلاقات الدولية، وذلك من نظرته للدراسات النقدية لسياسات الأمن في تلك الفترة( ).

5 ويعتبر الجيل الثالث الذي ظهر في تسعينيات القرن العشرين، محاولة لإحياء مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية من أجل التوصل لنظرية تفسيرية جديدة بعد نهاية الحرب الباردة، خاصة مع ظهور التيارات البنائية في العلاقات الدولية، والتي سعت لتفسير السلوكيات والظواهر الدولية، فتم هنا التركيز أكثر على دراسة دور الهوية والثقافة والقيم والتي أضحت تلعب دوراً محورياً في عالم ما بعد الحرب الباردة.

ويعتبر جونستون أن الثقافة الاستراتيج­ية هي البيئة الفكرية التي تضع حداً للخيارات السلوكية، وأن هذه البيئة مكونة من المعتقدات والقواعد المشتركة التي تبنى على أساسها القرارات والتي تفرض قدراً من النظام في تصورات الأفراد أو المجموعات فيما يخص علاقتهم بالبيئة الاجتماعية والتنظيمية والسياسية، كما يرى أن للعقيدة الاستراتيج­ية العسكرية تأثيراً مهماً على الثقافة بشكل عام.

ويعرف بالتالي الثقافة الاستراتيج­ية على أنها "نسق من الرموز" التي تتفاعل لتثبيت أولويات دائمة ومستقرة على المدى البعيد وتؤدي إلى تطوير مفاهيم حول دور وفعالية القوة العسكرية في العلاقات ما بين الدول في ضوء المعطيات الواقعية، حتى تظهر تلك الخيارات وكأنها في منتهى الواقعية والفاعلية، مما يعني أن لدى الثقافة الاستراتيج­ية شقين: الأول له علاقة بالتصورات حول النظام السائد في البيئة الاستراتيج­ية؛ مما يشمل طبيعة العدو والخطر والتهديد الصادر عنه، والثاني: له علاقة بالتصورات حول فعالية استخدام القوة والقدرة على إزالة التهديدات والتحكم بالنتائج والظروف التي تجعل استخدام القوة ذا فائدة.

كما حدد كارنز لورد ستة عوامل تشكل حسب رأيه "الثقافة الاستراتيج­ية" وهي: المركز الجغرافي، والتاريخ العسكري، والعلاقات الدولية، والأيديولو­جيا السياسية والعلاقات المدنية العسكرية، والتكنولوج­يا العسكرية، وقد أدخل الجيل الثالث العديد من المتغيرات والثقافات الفرعية التي تلعب دوراً محورياً في تفسير القرارات الاستراتيج­ية، ويمكن القول في هذا الإطار إنه قد تم توجيه عدد من الانتقادات لهذا المفهوم على النحو التالي: 1- إن هذا المفهوم لا يمكن أن يفسر جميع القضايا الاستراتيج­ية، كما أنه يمثل فرصة انتهازية لتحقيق بعض المكاسب لبعض النخب السياسية والعسكرية.

2- هذا المفهوم غير متجانس ومتغير من حيث المُدخلات التي تساهم في تكوينه، ومن الممكن أن نجد عدداً من الثقافات الاستراتيج­ية في آن واحد داخل الدولة ذاتها. 3- يمكن للأحداث الكبرى على المستوى الدولي أن تحدث تحولات سريعة في الثقافة الاستراتيج­ية، وذلك نظراً لحساسيتها لتحولات القوة في النظام الدولي، كما حدث إبان نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي.

ثانياً: م�صادر الثقافة ال�صتراتيجية

تساهم بعض العوامل في تشكيل الثقافة الاستراتيج­ية للدولة، تشمل الاعتبارات الجيوسياسي­ة والجغرافية والتاريخية والتكنولوج­ية والسياسية، وتتمثل أهم تلك المصادر فيما يلي: 1- الاعتبارات الجيوسياسي­ة: ويرتبط هذا المصدر بالأوضاع الجيواسترا­تيجية التي تحدد الخيارات المتاحة للدولة في التعامل مع التهديدات الخارجية باعتبارها تمثل محددات السلوك الخارجي للدولة وإدراك النخب والجماهير للدور الإقليمي والدولي الذي يمكن للدولة القيام به. 2- العوامل الجغرافية: تؤثر العوامل الجغرافية المرتبطة بالموقع والمناخ والموارد على عملية تطوير السياسات الأمنية للدولة، فعلى سبيل المثال، تمثل الظروف الجغرافية مفتاحاً لفهم تكيف بعض الدول مع سياسات استراتيجية معينة دون غيرها، إذ كانت العوامل الجغرافية وإرث الصراع في شبه الجزيرة الكورية، ذات تأثير مركزي على الثقافة الاستراتيج­ية في كوريا الجنوبية، كما أن الدول التي تشترك في حدودها مع أكثر من دولة، كالصين وتايلاند، تواجه العديد من المعضلات الأمنية، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الدول التي تتكون من العديد من الجزر مثل الفلبين والتي تتكون من 700 جزيرة، مما جعلها عرضة للتهديدات الأمنية من قبل القوى الكبرى، وبالتالي يؤثر ذلك على تكوين الثقافة الاستراتيج­ية لهذه الدول. 3- الخبرة التاريخية: تؤثر الخبرة التاريخية على السياسة الأمنية، فوفقاً لماريجيك بروننج، يعتبر تاريخ مكانة الدولة في النظام الدولي والخبرات المتراكمة لعلاقاتها الخارجية بمنزلة محدد أساسي للثقافة الاستراتيج­ية السائدة، حيث تكون بمنزلة ذاكرة تاريخية تحدد المعتقدات السائدة عن العالم وإدراك النخب والمواطنين لتحولات النظام الدولي والإقليمي وخيارات سياسة الدولة لمواجهة التهديدات. 4- طبيعة النظام السياسي: ويرتبط ذلك بالأجهزة المسؤولة عن صياغة وتنفيذ سياسات الدفاع في الدولة، وهنا تلعب المتغيرات الثقافية مثل الهوية والشخصية القومية والمواطنة والانتماءا­ت الأولية القبلية والدينية والعرقية، دوراً في تحديد عمق الترابط الداخلي في كل دولة عند وضع السياسات الأمنية، وبالمثل يعتبر الكثيرون أن الأجهزة المسؤولة عن سياسات الدفاع في الدولة تتمتع بأهمية بالغة عن الحديث عن الثقافة الاستراتيج­ية، فالعقائد العسكرية والعلاقات المدنية – العسكرية تمثل أبعاداً مهمة للثقافة الاستراتيج­ية. 5- التطور التكنولوجي: تؤثر مستويات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات السائدة في الدولة محدداً محورياً للثقافة الاستراتيج­ية، بالنظر إلى أهمية التكنولوجي­ا في تشكيل إدراك المواطنين للواقع وتوفير معطيات دقيقة لقطاعات مجتمعية واسعة عن التهديدات المحيطة بالدولة وكيفية مواجهتها، فضلاً عن اتساع نطاق تأثير وسائل الإعلام وقادة الرأي وشبكات التواصل الاجتماعي في تشكيل توجهات وتفضيلات المواطنين تجاه سياسات الدولة التي تتبعها لمواجهة

التهديدات.

ثالثاً: الفاعلون الموؤثرون في تكوين الثقافة ال�صتراتيجية

يرى توماس بيرجر أن الثقافة الاستراتيج­ية هي عبارة عن مجموعة من المعتقدات والمدركات والقواعد التي تتولى تشكيلها وصياغتها مجموعة من المؤسسات السياسية، التي تربطها علاقات متداخلة مع بعضها البعض، وهذا يدفع إلى الحديث عن مجموعة الفاعلين والمؤسسات التي تشكل الوعاء الحاضن للثقافة الاستراتيج­ية للدولة، ويتمثل أهمها فيما يلي( ):

6 1- النخب: حيث إن النخب الفاعلة في أي مجتمع تمثل مجموعة من اللاعبين الأساسيين الذين يساهمون في تشكيل الخبرة التاريخية المشتركة، وفي هذا الإطار يرى بيرجر، من خلال عمله على تحليل الخطاب السياسي للنخب، أن أفضل وصف للثقافة الاستراتيج­ية يتمثل في كونها واقعاً تفاوضياً بين النخب المختلفة، أي أن تشكيلها يتم من خلال عملية تفاوضية حقيقية بين النخب المختلفة داخل المجتمع الواحد، وهنا يأخذ القادة بعين الاعتبار عند تشكيلها القناعات الراسخة في الذاكرة الجمعية للشعب، التي لا يمكن تحديها بخيارات راديكالية، وهذا يؤثر بدوره على تشكيل توجهات السياسة الخارجية، وكذلك توجهات وأدوات السياسة الدفاعية والأمنية للدولة. 2- المؤسسات السياسية: حيث تشير أدبيات الثقافة التنظيمية، إلى أن سلوك الدولة يعكس مجموعة من التوجهات المؤسسية المحددة، فعلى سبيل المثال؛ دراسة القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية اليابانية والألمانية في التسعينيات، يشير إلى وجود مظاهر دائمة للثقافة المؤسسية الاستراتيج­ية، ولكن هذا لا يمنع في بعض الأحيان من أن تكون البيروقراط­ية والمؤسسات العسكرية هي الجهات التي

الثقافة الاستراتيج­ية وفق كين بوث هي مجموعة من القيم والتقاليد والمواقف، وأنماط السلوك والعادات والرموز والإنجازات، والطرق المعينة للتكيف مع البيئة وحل المشكلات الخاصة بالأمة، مع الأخذ في الاعتبار مصادر التهديد والقدرة على استخدام القوة.

تحافظ على خصائص الثقافة الاستراتيج­ية.

وهو ما حدث في اليابان، حيث تقاسمت المؤسسات السياسية والمؤسسة العسكرية الالتزامات المتعلقة بضبط النفس على الساحة الدولية، وظهر هذا بجلاء في سلوك السياسة الخارجية اليابانية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتبني توجهات الاعتدال في السلوك الخارجي، وأيا كان الأمر، سواء تعلق بتأثير البيروقراط­ية العسكرية على الثقافة الاستراتيج­ية أم لا، يظل تأثير الثقافة التنظيمية على سلوك الدولة من خلال المؤسسات وعملية صنع القرار في الدول الديمقراطي­ة. 3- جماعات المصالح: تسيطر جماعات الأعمال والأسر الكبرى، وشبكات المصالح في بعض الدول الآسيوية على صياغة الخطاب المتعلق بالشؤون العسكرية والسياسية، ففي كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، أثرت مجموعة "الشيبول" (Chaebol) التي تمثل الشركات الصناعية الكبرى والاحتكارا­ت الاقتصادية العائلية على السياسة الخارجية الكورية لتدفعها باتجاه المهادنة واحتواء أي تصعيد مع كوريا الشمالية بهدف الحفاظ على الاستقرار الداعم لنمو الاقتصاد الكوري بالتوازي مع دفع الحكومة الكورية لرفع إنفاقها العسكري للإفادة من التعاقدات لتوريد الأسلحة والمعدات للمؤسسة العسكرية.

رابعاً: نماذج تطبيقية للثقافة ال�صتراتيجية

يعتبر مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية مفهوماً نسبياً تختلف أركانه وأسسه من دولة لأخرى، ومن زمان لآخر، لذلك نجد أن لكل دولة ثقافة استراتيجية خاصة بها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وإيران وغيرها من الدول، وكذلك في كل إقليم قواسم مشتركة بين الثقافات الاستراتيج­ية للدول الواقعة في إطاره مثل منطقة الباسفيك والمنطقة الاسكندناف­ية، وتؤدي التحالفات والمنظمات الإقليمية دوراً مهماً في هذا الصدد خاصةً حلف الناتو، سواء في صياغة الجوانب الأساسية للسياسات الأمنية، أو تحديد مصادر التهديد، وتقييم مدى الاستمراري­ة والتغير في السياسات الأمنية القومية لكل دولة.

فالثقافة الاستراتيج­ية للصين على سبيل المثال؛ لها جذورها التاريخية والتي ترجع إلى بناء سور الصين العظيم واتخاذه مصدراً لتحقيق الردع والدفاع عن الإمبراطور­ية الصينية القديمة، وقد تطورت تلك الثقافة كثيراً حتى أصبح الوعاء الحاضن لتلك الثقافة لا يقتصر فقط على النخب بل المجتمع ككل، حيث أضحى القادة السياسيون والعسكريون والمفكرون الاستراتيج­يون لاعبين أساسيين عند الحديث عن الثقافة الاستراتيج­ية الصينية، وهذا ما دفع الصين لامتلاك القنبلة النووية لتحقيق الردع المتبادل مع القوى الكبرى( ).

7 وفي هذا الصدد كشف إقرار اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي الصيني والوكالة العسكرية المركزية لاستراتيجي­ة الحروب الثلاث (Three Warfares ) قبيل نهاية عام 2013، عن إدراك النخبة الحاكمة في الصين للتحولات المتلاحقة التي أدت لجعل الأسلحة النووية غير قابلة للاستخدام وقيدت من توظيف القوة العسكرية في العلاقات الدولية ومن ثم سعت الصين للإفادة من تطبيقات الحروب غير المتماثلة (Asymmetric Wars ) في مواجهة الوجود العسكري الأمريكي في شرق وجنوب شرق آسيا( ).

8 وفي هذا الصدد تمثل "استراتيجية الحروب الثلاث"

مواجهة غير عسكرية ذات ثلاثة أبعاد مرنة وديناميكية تتضمن تكاملاً بين الدبلوماسي­ة العامة ومنظور كسب العقول والقلوب (Winning Hearts and Minds Paradigm ) وتغيير السياق الإقليمي الذي توجد به القوات الأمريكية بحيث يصبح ضاغطاً لرفع تكلفة الاختراق الأمريكي للعمق الاستراتيج­ي للصين، إذ ترتكز الاستراتيج­ية الصينية على ثلاثة أبعاد رئيسية: أولها يتمثل في الحرب النفسية من خلال إيجاد شكوك لدى الولايات المتحدة حول قدرتها على حسم المواجهة وتقويض إرادة الانخراط في صدام مباشر.

أما البعد الثاني فيتمثل في الحرب الإعلامية من خلال وصم الولايات المتحدة بالغطرسة والهيمنة والميل للاستعمار، ويتمثل البعد الثالث في الحرب القانونية من خلال صياغة قوانين محلية تؤكد السيطرة الصينية على الأقاليم المتنازع عليها مع دول الجوار، وتوظيف الخرائط لدعم هذه الادعاءات بالإضافة لتوظيف الحكومة الصينية الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لإدانة التمدد الأمريكي بالقارة الآسيوية، ونزع الشرعية عن التحالفات الأمريكية مع دول القارة الآسيوية.

ويمكن الحديث عن نموذج آخر للثقافة الاستراتيج­ية وهو النموذج الإيراني باعتباره نموذجاً شرق أوسطي، حيث كان للثقافة الاستراتيج­ية لجمهورية إيران الإسلامية أثر عميق على توجهات سياستها الخارجية والعسكرية في محيطها الإقليمي( ).

9 وتنظر إيران لنفسها على أنها أمة عظيمة، لذلك عندما قامت الثورة الإسلامية بها سعت بكل قوة إلى تصدير نموذجها في الثورة والحكم، ولذلك بلورت نموذج للثقافة الاستراتيج­ية القائم على ثلاثة مرتكزات رئيسية، أولها يتمثل في الحاجة إلى أن تصبح قوة إقليمية قوية في منطقة الشرق الأوسط، وثانيها يرتبط بالحاجة إلى ردع التهديدات المحتملة في المستقبل وتجنب ما حدث في الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيا­ت، وأخيراً، الرغبة في تحقيق الاعتماد على الذات في شتى مجالات الحياة.

وقد دفعها ذلك إلى إدراك مصادر التهديد المحتملة لسياستها المستقبلية، فلم تتوان في السعي لامتلاك القدرات النووية، وفي استخدام وسائل قوتها المادية والناعمة، لتوسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، والتصدي للتهديدات الأمريكية. ويمكننا القول إن مكونات الثقافة الاستراتيج­ية الإيرانية، تدفع إيران إلى السعي نحو حيازة الأسلحة النووية.

وعلى الرغم من إدراك النخب الإيرانية لعدم قابلية استخدام الأسلحة النووية لأغراض هجومية؛ بسبب الخوف من الانتقام وإعاقة المصالح السياسية داخل النظام، فإن هناك اعتقاداً سائداً بأن امتلاك أسلحة نووية سيزود إيران بأداة قوية للردع الدفاعي، مما يمكنها من تحقيق تطلعاتها، مثل أحقيتها في الزعامة والهيمنة الإقليمية، والتقليل من معضلة الأمن وهواجس التهديدات الإقليمية والدولية المحيطة بالنموذج الإيراني الذي يسيطر على النخب الإيرانية.

وفي المجُمل؛ يمكن القول إن مفهوم الثقافة الاستراتيج­ية، أصبح من المحددات الأساسية في صياغة الاستراتيج­ية الأمنية والعسكرية للدولة، لأنه يرتبط بالتفاعل بين الذاكرة الجمعية للشعوب والمعتقدات السائدة لدى النخب حول تحديد مصادر التهديد الموجهة إلى الأمن القومي لكل دولة، وحدود الدور الخارجي للدولة ومكانتها الإقليمية والدولية، والخيارات المتاحة لمواجهة التهديدات وأدوات تنفيذ السياسة الخارجية والدفاعية.

تمثل "استراتيجية الحروب الثلاث" الصينية تكاملًا بين الدبلوماسي­ة العامة وتكتيكات الحروب غير المتماثلة وتغيير السياق الإقليمي الذي توجد به القوات الأمريكية في شرق وجنوب شرق آسيا، بحيث يصبح ضاغط لرفع تكلفة الاختراق الأمريكي للعمق الاستراتيج­ي للصين، إذ ترتكز الاستراتيج­ية الصينية على ثلاثة أبعاد رئيسية: هي الحرب النفسية والحرب الإعلامية والحرب القانونية.

 ??  ??
 ??  ??
 ?? إبراهيم المنشاوي ?? مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم
السياسية بجامعة القاهرة
إبراهيم المنشاوي مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates