Trending Events - Future Concepts

Cultural Security

مداخل نظرية وتطبيقية لتحليل الأمن الثقافي

-

مثلت ظاهرة الإرهاب العابر للحدود منعطفاً مهماً في تطور مفهوم الأمن الثقافي، خاصة في ظل تصاعد التركيز العالمي على أفكار الفرد ومعتقداته، وكيف تتحول هذه الأفكار من مجرد فكرة أو أيدلوجية يعتنقها الفرد إلى مصدر تهديد لمجتمعه ومن ورائه المجتمعات الأخرى، ومن ثم ظهر مفهوم الأمن الفكري، أو "الأمن الثقافي" (Cultural security) في مواجهة الفكر التخريبي، وما ينتج عنه من توجهات راديكالية تهدد المجتمع ككل.

ويتبادر إلى الذهن عند الحديث عن "الأمن الثقافي" أن المقصود من هذا المفهوم هو حماية الثقافة الخاصة بفرد أو مجتمع أو دولة، من تهديد سيطرة ثقافة أخرى عليها وطمس هويتها، غير أن هذا المفهوم يتسع ليشمل أمن الفرد والمجتمع والدولة من شيوع أي أفكار هدامة ومهددة للاستقرار، ليست بالضرورة مصدرة إليها من الخارج، وإنما أيضاً تلك النابعة من داخل الدولة. وذلك بعد أن ساد ظن لفترة طويلة مفاده أن مفهومي "الأمن" و"الثقافة" مفهومان يقفان على طرفي النقيض، حتى ظهرت تداعيات الحادي عشر من سبتمبر واستوجبت مع هذه التداعيات مراجعة هذا الظن.

وفي هذا الإطار، تطرح عدد من التساؤلات نفسها، مفادها: إلى أي مدى أصبح الأمن يرتبط في جانب منه ب "الأمن الثقافي"، وإلى أي مدى بات من الضروري تحقيق ما يمكن تسميته ب "المناعة الثقافية" (Cultural Immunity ؟) وما هي حدود تحقيق هذه المناعة من دون الدخول في دائرة المنع والإقصاء والكراهية للثقافات الأخرى؟ وتستلزم الإجابة عن هذه التساؤلات إلقاء نظرة على تجارب الأمن الفكري والثقافي العالمية في مواجهة التوجهات والمعتقدات المهددة

للاستقرار.

اأولً: الجدل النظري حول الأمن الثقافي

ظل البعد الثقافي الأقل استحواذاً على الاهتمام بين أبعاد الأمن المختلفة للمجتمع بالمقارنة بالأبعاد السياسية والاقتصادي­ة والاجتماعي­ة والخاصة بأمن الإنسان نفسه، وذلك حتى ميلاد ظاهرة العولمة في بداية تسعينيات القرن الماضي، وبروز أطروحة صامويل هانتنجتون حول "صدام الحضارات"، إذ جاء مفهوم "الأمن الثقافي" لاحقاً للجدل الذي أثارته ظاهرة العولمة ومقولة صراع الحضارات، ويشير هذا التتابع إلى دلالتين مهمتين، أولاهما: أن الثقافة – ثقافة المجتمع - قد عانت كثيراً من مشكلات أمنها الذاتي، لاسيما أن هذا الأمن قد ركز على النطاق القومي للثقافة داخل حدود المجتمع، وهو واقع تغير كثيراً بفعل العولمة، وظهور ثقافات عابرة الحدود.

أما الدلالة الثانية فتتمثل في أن ثمة علاقة وثيقة بين الثقافة والعولمة وتداعيات انتقال الثقافات عبر الحدود، ومن ضمن هذه التداعيات صراع هذه الثقافات وتصادمها، وبالتالي محاولة طمس ثقافة لصالح أخرى، ومن ثم تشير هاتان الدلالتان إلى حقيقة مفادها وجود حالة من التلازم بين العولمة والثقافة على نحو لا يقبل الانفصال، وبالتالي فإنه من غير المتوقع أن تكون وظيفة الأمن الثقافي هي ممارسة نوع من الغلق والانغلاق على الداخل في مواجهة الخارج( ).

1 يأتي ذلك التأكيد على العلاقة بين العولمة والثقافة، في

ظل ما يوحي به مفهوم "أمن الثقافة" بقدر من التناقض، حيث تعني "الثقافة" الإبداع والانفتاح والتفاعل، بينما يوحي لفظ "الأمن" بالدفاع والانكماش وربما التقوقع، وبهذا المعني قد يعني الأمن الثقافي العزلة المفروضة على ثقافة مجتمع معين عن غيرها من الثقافات.

في حين أن المعنى الإيجابي لمفهوم "الأمن الثقافي" يتضمن دلالة "الأمن" بمعنى القدرة على التراكم وإنتاج ثقافة قادرة على مواجهة مخاطر فقدان القيم الثقافية وطمس الهوية، وأن تكون في حالة دفاعية إيجابية، وينطبق في إطار هذا المعنى على "الأمن الثقافي" ما ينطبق على أنماط الأمن الأخرى التقليدية، والتي تفترض وجود استراتيجيا­ت قادرة على إدارة الموارد المتاحة مما يضمن تحقيق التنمية وإشباع الحاجات، من دون الوقوع في شرك التبعية وفقدان القدرة على اتخاذ قرار مستقل، بمعنى آخر أكثر وضوحاً، أنه في الوقت الذي لا يعد فيه التعاون الاقتصادي والاستثمار الأجنبي مهدداً للأمن الاقتصادي للدولة، فإن أمن ثقافة ما يعني حمايتها من التعبية في سياق الانفتاح على الثقافات الأخرى من دون الارتهان إليها.

وفي إطار الدلالة السابقة لمفهوم "الأمن الثقافي"، تبرز مسألة "الهوية" التي باتت تطرح نفسها بحدة في المجتمعات الغربية، ولم تعد حكراً على الدول النامية والتي هي في طور الصعود، حيث فرضتها وأوجبت الاهتمام بها موجة التدفقات السكانية عن طريق الهجرة، وما تثيره من قلق وتوترات للواقع الديمغرافي للدول المستقبلة لهذه الموجات من المهاجرين، وما ينتج عنها من آثار سلبية ناحية تنامي العنصرية والكراهية للمهاجرين، الأمر الذي يهدد الاستقرار المجتمعي. كما يبرز أيضاً "البعد الأيديولوج­ي" الذي يعني القدرة على الحفاظ على النسق العقائدي السائد وتأمين الفكر والعادات والتقاليد من الثقافات الدخيلة، لاسيما تلك الفاسدة منها.

ثانياً: الركائز الرئي�صية للأمن الثقافي

يمكن القول إن مفهوم "الأمن الثقافي" يعد مفهوماً ديناميكياً وليس جامداً، يختلف باختلاف المجتمعات، غير أن ثمة اتفاق حول أن "الأمن الثقافي" هو أحد أهم أنماط الأمن القومي في جانبه غير التقليدي، فيما يبرز اتجاه ذو اعتبار ينظر إلى الأمن الثقافي على أنه الأهم بين جوانب الأمن القومي، حيث يتقدم وفق هذا الاتجاه على الأمن الاجتماعي والعسكري والسياسي والاقتصادي.

ويقصد بالأمن الثقافي، وفق هذا الاتجاه، أنه ذلك النمط من الأمن الذي يحقق الحفاظ على الذاتية الثقافية في مواجهة الهيمنة على الشخصية القومية، وكذلك الحفاظ عليها من التيارات الثقافية المختلفة، مع حماية المؤسسات الثقافية من الانجراف مع الثقافات الأخرى، من خلال المحافظة على مقومات الثقافة وتأصيلها وتطويرها، بحيث تستطيع مسايرة المستجدات والتحولات التي يشهدها العالم، وذلك في إطار الشعور الذاتي بالانتماء القومي، والذي من شأنه إيجاد اطمئنان للوجود لدى الأفراد المنتمين إلى أمة واحدة، ومن ثم التمكن من المحافظة على الهوية والدفاع ضد من يحاول زعزعة ثقافة الأمة، ووفق هذا المفهوم يعتمد "الأمن الثقافي" على وجود عنصرين أساسيين، هما: 1- تقدير الذات الثقافية: تعرف الذاتية الثقافية بأنها "معرفة الفرد لذاته من خلال توحده مع السمات الثقافة المشتملة على جوهر العادات، والقيم والعقائد والسلوكيات، ونمط الحياة التي يتصف بها جماعة من الناس، ويظهر أثرها في سلوك الفرد، وتحدد طريقة تفكيره واختياراته وأهداف حياته"( ،( ويرى المنظرون أن الذات الثقافية لمجتمع ما تعد

2 بمنزلة الإطار الذي يحدد شخصية هذا المجتمع المتفردة والمختلفة عن غيره من المجتمعات، والتي تتكون – أي شخصية المجتمع – من مجموعة من الأفكار والمعتقدات والقيم.

في حين يعد تقدير هذه الشخصية المعبرة عن ثقافة المجتمع وقيمه بمنزلة الحصن الذي يعمل على صد الأفكار

الدخيلة المهددة لاستقرار المجتمع، بل ومنع نشأتها في بعض الأحيان، مع التأكيد على ضرورة ألا يتحول هذا التقدير إلى اتجاهات لكراهية الآخر تزدري ثقافات المجتمعات الأخرى أو الانغلاق على ما دون ثقافة الذات أو التوحد والتقوقع داخل هذه الثقافة، إذ إن النتيجة الحتمية لهذا التقوقع هي إفقار شخصية المجتمع وإضعافها، وذلك بسبب فقدان عوامل إثقالها وبلورتها المتمثلة في التناظر الفكري والثقافي مع المجتمعات الأخرى. 2- الانفتاح الثقافي: تتميز الثقافة بشكل عام بعدم وجود منفعة حدية لإنتاجها، وعدم وجود سقف معين يُكتفى ببلوغه، إذ إنها عملية مستمرة من الإبداع الذي تتزايد قدراته كلما انفتح على الجديد من الأفكار، وبالتالي فإن بلوغ، أو بالأحرى تحقيق الأمن الثقافي – في تطبيقه الأصح - إنما يتأتى من خلال أخذ الاعتزاز والتقدير للذات الثقافية للفرد والمجتمع كنقطة ارتكاز للانطلاق لفهم واستيعاب ثقافة الآخر، وعدم الوقوع في فخ التبعية والانسياق، أو الاختراق( ).

3

ثالثاً: خبرات تحقيق المناعة الثقافية عالمياً

يمكن القول إن تنامي دور الثقافة في النظام العالمي قد مثل على الأرجح أحد دوافع المنظرين للتأكيد على ضرورة وأهمية إيلاء المجتمعات المختلفة اهتماماً أكبر بالثقافة والتحصين الفكري في تعاملها مع المشكلات الداخلية والخارجية التي تواجهها على حد سواء، ويرتبط ذلك بتأكيد صامويل هنتنجتون أن العالم مقبل على "صراع حضارات"، وإشارته إلى أن الشعوب لم تعد تستمد هويتها الأساسية من انتمائها الأيدلوجي، كما كانت الحال قبل الحرب الباردة، بل باتت تستمده من إرثها الثقافي، قد جاء في هذا السياق.

ويرتبط ذلك بتطور تكتيكات واستراتيجي­ات الصراعات الدولية، وظهور أنماط الحرب الثقافية ومحاولة تغيير المعتقدات والأفكار، إذ لم يعد هذا النمط خطراً يواجه الدول النامية والفقيرة فقط، بل أضحت الدول المتقدمة عرضه له أيضاً، ومن دون استثناء، تلك الدول التي يصنفها الكاتب فرانسيس فوكوياما في الفصل الثالث من كتابة :Trust (The )Social Virtues and The Creation of Prosperity على أنها مجتمعات "الثقة العالية" في الذات والمقدرات التي يمتلكها الفرد والمجتمع، حيث ظهر في هذه الدول جدل وتنافس بين ما يمكن وصفة بالثقافة التقليدية في المجتمع وثقافات أخرى فرعية، وأفكار جديدة تولدت حول الانتماء للمجتمع وعلاقة الفرد بالعالم والمحيط خارج مجتمعه( ).

4 ومثل تصاعد ظاهرة "الإرهاب المحلي من دون قيادة" (Leaderless Homegrown Terrorism ) في العديد من الدول المتقدمة، وكذلك انضمام مقاتلين أجانب لصفوف التنظيمات الإرهابية، نقطة فاصلة في اتجاه بعض الدول المتقدمة إلى صياغة استراتيجيا­ت أمنية حديثة تضع ضمن أولوياتها الأمن الثقافي، ومواجهة التهديدات الفكرية الداخلية والخارجية.

وفي إطار رصد محاولات بعض الدول لتحقيق المناعة الثقافية، تبرز "التجربة الأسترالية" في بناء استراتيجية أمن ثقافي، نظراً للخصوصية التي تتمتع بها استراليا كدولة قارة، تجمع أطيافاً عدة من بقاع العالم، وتقع حدودها على حدود قوس عدم استقرار – إن جاز التعبير- حيث إندونيسيا، وتيمور الشرقية، وبابوا في غينيا الجديدة، وجزر سولومون، فضلاً عن وجود حقبة عنصرية في تاريخها والتي تعرف بسياسة استراليا البيضاء، والتي وضعت بموجبها قيوداً على الهجرة من غير الأوروبيين، بالإضافة إلى سيطرتها الاستعماري­ة على النصف الشرقي من بابوا غينيا الجديدة.

وقد صاغت أستراليا استراتيجية جديدة للأمن الوطني تبلورت ملامحها، وتم عرضها على الحكومة الأسترالية في يناير 2013، حددت هذه الاستراتيج­ية المخاطر التي تتعرض لها استراليا، وعددتها في خطر تعرض البلاد لعمليات التجسس، والتدخل الأجنبي، وعدم استقرار الدول النامية، والاستخدام السيئ لشبكة الانترنت، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب العابر للحدود، والتطرف الفكري. فيما تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الأسترالية قد عملت على تخفيض ميزانية الدفاع التقليدية في مقابل تحقيق الاستراتيج­ية الأمنية الجديدة.

أولت أستراليا للجانب الثقافي وفق هذه الإستراتيج­ية اهتماماً خاصاً، حيث عملت على التركيز على تطوير برامجها التدريبية والتثقيفية للطلاب، واعتمدت على عدد من المراكز الفكرية لرسم سياسات جديدة للتعامل مع الثقافات الفرعية المنتشرة في الداخل الأسترالي، نظراً لتعدد أصول وأعراق مواطنيه، وكذلك تغيير الفهم الجامد للأمن القومي، والتركيز على التهديدات غير التقليدية لاستقرار المجتمع، ومحاولة تنشئة نخبة جديدة بعيدة بأسلوب تفكيرها عن مثيله من النخبة العسكرية والسياسية التي تتبنى المعنى التقليدي للأمن القومي، وترى أن تحالف استراليا مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، لاسيما فيما يخص التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" يمكن أن يشكل وحده حائط صد لعبور الإرهاب إلى أستراليا، كما أنتجت مراكز الفكر الاسترالية عدداً من الدراسات التي تؤكد أهمية الاعتماد على الذات في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية معاً، إلى جانب سياسات التحالف التي تدخلها أستراليا لتحقيق أمنها ومصالحها( ).

5 وعلى جانب آخر، من محاولات تحقيق المناعة الفكرية أو "الأمن الثقافي" تأتي تجربة الولايات المتحدة الأمريكية التي شكل حضورها الدائم في أغلب مشكلات وملفات العالم تهديداً لأمنها على أكثر من صعيد، ولعل التفاتها للبعد الثقافي في أمنها القومي قد جاء متأخراً عن جهودها العسكرية، حيث اختصرت جهودها لفترة طويلة في تحقيق الأمن غير التقليدي، في الأمن التقني، حيث أعلنت، على سبيل المثال، وزارة الدفاع الأمريكية عام 2011 أنها قامت بشن 231 عملية هجومية على شبكة الإنترنت ضد جهات حكومية وغير حكومية حول العالم، في الصين وروسيا وإيران وغيرها( ).

6 ويمكن القول إن تفجيرات بوسطن التي قام بها أخوان من أصل شيشاني، ويحمل أحدهما الجنسية الأمريكية، خلال شهر أبريل 2013، ومن بعدها انضمام عدد من الشباب للتنظيمات الجهادية في سوريا، قد أسهمت في بلورة إستراتيجية فكرية، حيث أعلن المدعي العام الأمريكي إريك هولدر خلال شهر سبتمبر 2014 إطلاق وزارة العدل الأمريكية برنامجاً من شأنه مكافحة توغل وانتشار الفكر المتطرف واستباق وجودها، من خلال تقديم تأهيل نفسي واجتماعي للفئات المتوقع انضمامها للتنظيمات الإرهابية، اتخذ هذا البرنامج من مدينة مينيابوليس منطلقاً له، نظراً لكونها نقطة الصفر فيما يخص تجنيد الشباب للانضمام للجماعات الإرهابية، حيث كان يتم تجنيد هؤلاء الشباب للانضمام لتنظيم الشباب الصومالي، أما حالياً فيتم تجنيدهم لتنظيم "داعش" نظراً لوجود العديد من الأصول العرقية في

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ?? رانيا مكرم ?? باحثة بمركز الأهرام للدراسات
السياسية والاستراتي­جية
رانيا مكرم باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتي­جية
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates