Trending Events - Future Concepts

‪Trust Building‬

مداخل “بناء الثقة“ في بؤر الاضطرابات المسلحة

- يوسف صابر

باحث دكتوراه بمعهد الدراسات السياسية في باريس - فرنسا

يرتبط تعثر تسوية الصراعات بتزايد إشكاليات بناء الثقة بين أطراف الصراعات، مما يؤدي للانهيار السريع لاتفاقات التسوية، إذ تعد الثقة شرطاً رئيسياً لتجاوز مرحلة الصراع وإعادة بناء الدول والمجتمعات، وهو ما يزيد من هشاشة التسويات السياسية في دول الصراعات.

وتتسبب "فجوة الثقة" بين الأطراف المتصارعة في تتابع تفجر الأزمات وتصاعد التوترات والاحتقان بين أطراف الصراع، مما يقوض من عملية التسوية ويقلص من جدوى استمرار التفاوض) .)

1

اأولاً: تطور مفهوم "بناء الثقة"

يرجع تطور تدابير بناء الثقة إلى مرحلة الانفراج في العلاقات بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية في سبعينيات القرن العشرين وفقاً لبعض الأدبيات، حيث تم إدراج تدابير الثقة ضمن وثيقة هلسنكي الختامية الموقعة في أغسطس 1975 من جانب 33 دولة أوروبية والولايات المتحدة وكندا تتويجاً لأعمال المؤتمر الأول للأمن والتعاون في أوروبا) .)

2 وتضمنت الوثيقة تدابير خاصة بالحد من مخاطر الهجوم المفاجئ نتيجة للإدراك الخاطئ Mispercept­ion() وسوء تقدير نوايا الدول الأعضاء في كل من حلف الناتو وحلف وارسو للتهديدات المتبادلة، بالإضافة لإجراءات مراجعة ترسانة الأسلحة التقليدية والنووية لدى الطرفين.

وتشير الأدبيات إلى أن عمليات بناء الثقة تستهدف تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، وهي منع تصعيد الصراع، وبدء مفاوضات السلام، وأخيراً توطيد عملية السلام ونتائجها) (، ويعد كل من "جيه هولست"

3 J.Holst() و"كيه ميلاندر" K.Melander() في صدارة الباحثين الذين طرحوا تعريفاً لمفهوم بناء الثقة، حيث أشاروا إلى أنه "وضع دليل عملي وذا مصداقية عن كيفية مواجهة التهديدات التي من شأنها

إثارة مخاوف الطرف الآخر؛ مما يقلص مساحة عدم اليقين باستبعاد توظيف الطرفين القوة العسكرية في حال حدوث خلافات بينهما") .)

4 ولا ينفصل بناء الثقة عن مفهوم "رأس المال الاجتماعي" ‪Social Capital(‬ ) الذي يركز على فاعلية العلاقات الاجتماعية والتعاون والثقة في المجتمعات وتشكل شبكات اجتماعية وتفعيل المشاركة المدنية والأعراف القائمة على الثقة المتبادلة، والتي يؤدي غيابها لتصدع المجتمعات وانتشار الصراعات بين المجموعات المختلفة، وفي هذا الصدد يمكن التفرقة بين عدة أنماط من إجراءات بناء الثقة في خضم الصراعات وفقاً للمدى الزمني: 1- إجراءات المدى القصير: تهدف إلى وقف التصعيد ومنع اندلاع أعمال العنف وتحقيق الاستقرار، وعادة ما تصاحبها إجراءات لمراقبة وقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة. 2- إجراءات المدى المتوسط: تركز إجراءات هذه المرحلة على بناء قنوات للاتصال المباشر بين أطراف النزاع وترتيبات لإدارة الأزمات بهدف منع حدوث سوء الإدراك أو التفسير الخاطئ لبعض الإجراءات على أنها عودة للتصعيد. 3- إجراءات المدى البعيد: تتضمن بناء علاقات اعتماد متبادل وثيقة بين أطراف الصراع وتعزيز التعاون والتكامل بينهم بهدف الحفاظ على استدامة التسوية) .)

5

ثانياً: اأركان عملية "بناء الثقة"

لا تكتمل التسوية بقيام الوسطاء بالتوصل لاتفاقات لوقف إطلاق النار والتهدئة وبدء التفاوض على القضايا الخلافية بين أطراف الصراعات، إذ إن إرث الصراع وعدم الثقة يؤدي لعرقلة التفاوض وتعثر التسوية، وتتمثل أهم أركان "بناء الثقة" فيما يلي:

1- صياغة القواعد: يقصد بذلك صياغة قواعد فض الاشتباك ومبادئ تنظيم العلاقات، ومن بينها احترام الحدود والخطوط الفاصلة والالتزام بالتسوية السلمية للنزاعات، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وإدانة العنف والأنشطة التخريبية واحترام حقوق الإنسان. 2- تبادل المعلومات: يكفل تبادل المعلومات بين أطراف التسوية بصورة متواصلة ووجود قنوات مفتوحة ومباشرة للاتصال، وتوضيح النوايا، وتقليل الشكوك المتبادلة وتجنب التصورات الخاطئة بصورة متبادلة؛ تعزز من الثقة في الالتزام بمقتضيات التسوية) .)

6 3- آليات التواصل: يرتبط بناء الثقة بين أطراف الصراعات بتأسيس آليات للتواصل والحوار تسهم في التقريب بين وجهات النظر والمدركات وتجاوز الصور الذهنية السلبية المتبادلة، وذلك بالتوازي مع عملية التفاوض. وتندرج عمليات الإخطار المسبق بتحركات القوات أو التغيرات الميدانية ضمن عمليات التواصل التي تستهدف بناء الثقة بين أطراف الصراع) .)

7 4- نزع السلاح: تكفل عملية بناء الثقة تهيئة ظروف مواتية لتعزيز نزع السلاح والحفاظ على السلم والأمن لأطراف الصراعات؛ مما يترتب عليه خفض حدة التوترات، إذ يؤدي لتراجع وتيرة سباق التسلح ويقلص احتمالات اللجوء للقوة العسكرية في حال حدوث سوء الإدراك، وعادة ما يوفر الوسطاء والمنظمات الدولية والإقليمية ضمانات تنفيذ تدابير النزع المتبادل للسلاح. 5- توازي المسارات: ينبغي أن تتزامن إجراءات بناء الثقة على المستوى الرسمي وغير الرسمي، بحيث تشمل التفاعلات بين الحكومات والمجتمعات لترسيخ التسوية وتغيير ثقافة العداء والاستقطاب ونشر قيم الحوار والتسامح، وفي هذا الصدد يمكن أن يكون التعاون في مجالات التعليم والتجارة والثقافة والرياضة والسياحة ضمن أهم إجراءات بناء الثقة على المستوى المجتمعي؛ لأنه يخلق قنوات للتواصل بين المجتمعات والأفراد تتجاوز إرث الصراع) .)

8

ثالثاً: تف�سيرات " انعدام الثقة"

يرتبط مناخ فقدان الثقة في إطار عملية التسوية بالانفصال بين التفاوض على المستوى الرسمي وحالة الاحتقان الداخلي والعداء المتبادل على المستوى الشعبي، بالإضافة لهيمنة منطق "المباراة الصفرية" على أطراف الصراع، خاصة على المستوى الاقتصادي واعتبار مكسب أحد الأطراف خسارة مطلقة للطرف الآخر.

وتعد الصراعات الإثنية والطائفية في صدارة الحالات التي تستعصي على إجراءات بناء الثقة بسبب الصدام بين الهويات وتعارض دوائر الانتماء، بالإضافة لترجيح بقاء الجماعة ومصالحها على حساب الجماعات الأخرى، وفي هذا الإطار تتسبب الأزمات الاقتصادية في زيادة حدة الصراعات نتيجة للسعي للهيمنة على الموارد بين الجماعات المختلفة، حيث يتسبب التصحر والجفاف في بعض الدول الأفريقية في احتدام الصراع بين الجماعات الرعوية والقبائل التي تعتمد على الزراعة، كما يتسبب وجود ثروات نفطية في مناطق متنازع عليها في تفجر الصراعات الداخلية) .)

9 ولا ينفصل تعثر تسوية الصراعات عن وجود مصالح لبعض الجماعات في استمرار الحرب وعدم التوصل لتسوية، مما يدفعهم لتأجيج حالة انعدام الثقة بين الأطراف المختلفة، مثل دور القوى الخارجية المتدخلة في الصراعات ووجود "أمراء الحرب" )Warlords( من المستفيدين من مبيعات الأسلحة وعصابات التهريب المستفيدة من تصدع مؤسسات الدولة وتراجع سيطرتها على إقليمها.

وفي هذا السياق، تؤكد بعض الأدبيات أن بناء الثقة في الصراعات الداخلية يتصل بوضع خطط التنمية الاقتصادية وتأكيد أن الصراعات تستنزف الموارد وتتسبب في خسائر مطلقة لأطراف الصراع أكثر من المكاسب التي يمكنهم تحقيقها نتيجة استمرارها .)

10) ولا ينفصل ذلك عن تجنب وضع شروط مسبقة خلال عملية بناء الثقة بين أطراف الصراع، بحيث يتم التركيز على ترسيخ ثقافة التعايش والتعاون وتسوية الخلافات بالطرق السلمية، ويكون دور الوسطاء هو طرح أفكار حول كيفية تعزيز التواصل المباشر والحوار بين أطراف الصراع، بحيث يمكنهم في مرحلة لاحقة إدارة التفاعلات المتبادلة بينهم بصورة مباشرة ومن دون وسطاء.

إجمالاً، يعد بناء الثقة العملية الأطول والأكثر تعقيداً ضمن تسوية الصراعات، في ظل تأثيرات إرث الصراع وتناقضات المصالح والأطراف المستفيدة من استمرار الصراعات، إلا أن غياب الثقة يؤدي لتعثر التسوية وتزايد احتمالات تفجر الصراعات مجدداً، في ظل استمرار حالة الاستقطاب والعداء على المستوى الشعبي، واقتصار التسوية على الإجراءات المتبادلة على مستوى النخب السياسية؛ مما يمنع تجذر التسوية وثقافة السلام في المجتمعات.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates