Trending Events - Future Concepts

‪Deal Politics‬

تصاعد الاعتماد على “سياسة الصفقات“ في العلاقات الدولية

- عمرو عبدالعاطي

باحث في العلاقات الدولية بمجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام

شهدت الآونة الأخيرة تردد مصطلح "الصفقات" في وصف تسوية الصراعات المعقدة، وهو ما يرتبط بعقيدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تعتمد على مبادئ إدارة الأعمال والتجارة في العلاقات الدولية، ضمن اتجاهات إدارة التفاعلات السياسية كمشروعات اقتصادية هادفة للربح، والنظر للصراعات باعتبارها خلافات تجارية يمكن معالجتها بمنطق مقايضة المكاسب وتقاسم الخسائر مع استبعاد تعقيدات التاريخ وإرث الصراع والتناقضات الأيديولوج­ية، والتركيز على الحلول وليس التفاوض في حد ذاته.

وقد أصبح مصطلح "الصفقة" ضمن المفاهيم الأكثر رواجاً في الكتابات الغربية والأمريكية منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة، وإعلانه في 20 يناير 2017 طرح مبادرة سلام في الشرق الأوسط تتجاوز تعقيدات الصراع الممتد بين الإسرائيلي­ين والفلسطيني­ين فيما اصطلح على تسميته إعلامياً "صفقة القرن".

اأولاً: مفهوم ال�سفقة في اإدارة الاأعمال

يظهر مفهوم "الصفقة" في أدبيات العلاقات الدولية، والأعمال التجارية، والعلاقات الإنسانية، حيث يمكن من خلالها تنظيم تضارب المصالح مع تجنب تأثير التحيزات الأيديولوج­ية بشكل بناء، وأحياناً تحقيق المنفعة المتبادلة، والتي من خلالها يتم تعزيز الرخاء الاقتصادي، والاستقرار المجتمعي، وكذلك الحد من الصراع) .)

1

ويعد مفهوم الصفقة بالأساس ذو أبعاد تجارية، ويقصد به التوصل إلى اتفاق ثنائي أو اتصال بين طرفين يرغبان في القيام

بأعمال تجارية. وعادة ما تتم الصفقة بين البائع والمشتري لتبادل العناصر ذات القيمة، مثل: السلع والخدمات والمعلومات والمال. وتعقد الصفقة بين طرفين، أو أكثر، إذا توصلا إلى اتفاق بشأن شروطها وأحكامها التي قد يرون أنها ضرورية لحماية مصالحهما وحقوقهما، ثم يوقعان على الأوراق رسمياً ويختتمان الصفقة في النهاية) .)

2 وتختلف صفقات تسوية الصراعات عن الأشكال الأخرى لعمليات التسوية السياسية في أنها لا يمكن أن تكون معبرة عن مصالح جانب واحد، بالإضافة إلى أنها تتطلب التزام الطرفين بالتفاوض وتقاسم التكلفة، واستبعاد العناصر كافة والأبعاد غير الملموسة Intangible() من عملية التفاوض، مثل التاريخ والأيديولو­جيا والاعتبارا­ت الثقافية والاجتماعي­ة والقيمية والتركيز على المكاسب المادية وتقاسم التكلفة) .)

3 ويلجأ طرفا النزاع إلى مرحلة التفاوض من أجل التوصل إلى صفقة لتسوية الصراع لجملة من الأسباب. يتمثل أولها في الهروب من مأزق التصعيد الذي يحدث عندما يدرك أحد طرفي النزاع المستمر أنه لن يستطيع هزيمة الطرف الآخر، وأن استمرار النزاع ضار ومكلف للغاية. وهذا ما حدث عندما تفاوض الجيش الجمهوري الإيرلندي والحكومة البريطانية على إنهاء عقود من الاقتتال والهجمات الإرهابية في أيرلندا الشمالية، حيث تم تجاوز إرث الصراع والعداء التاريخي والتعقيدات الثقافية من أجل إنهاء الصراع ووقف التكلفة المتزايدة مما يعد مثالاً للسياقات الدافعة لعقد الصفقات في عملية التسوية.

ويتمثل ثاني دوافع عقد الصفقات في لجوء طرفي الصراع

للتفاوض حول صفقة سريعة لتجنب وقوع كارثة وشيكة لا يمكنهما تجنبها من دون مساعدة من الطرف الآخر. ومثال على ذلك المفاوضات التجارية المكثفة في عام 1984 بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة بعد فترة من الجفاف الشديد والدمار الذي أصاب المحاصيل الزراعية في الاتحاد السوفييتي مما أنذر بحدوث أزمة غذائية واسعة النطاق.

وينصرف الدافع الثالث إلى إدراك أطراف الصراع أن التوصل إلى صفقة تنهي الصراع ستحقق مكاسب أكبر للأطراف أكثر من الاستمرار فيه. بعبارة أخرى يشرع الطرفان في التفاوض عندما يعتقدان أن الصفقة يمكن أن تحسن وضعهما الحالي ويتوصلون إلى أن الاتفاق أفضل من عدم وجود اتفاق) .)

4

ثانياً: مراحل "�سفقات الت�سوية"

تكشف مراجعة سياقات عقد الصفقات التجارية وكيفية إسهامها في تسوية نزاعات الأعمال عن أن أهم شروط ومتطلبات نجاح الصفقات في تسوية التناقضات بين أطراف الصراعات، وتتمثل أهم مراحل “صفقات التسوية” فيما يلي: 1- معرفة دوافع أطراف الصراع: تكون دوافع الأطراف المنخرطة في الصراع عادة هي السبب الرئيسي لتعقد مساراته وصعوبة إيجاد تسويه له. والصفقة الناجحة هي التي تراعي دافع كل أطراف الصراع، وكيف ينظرون له، ومصالحهم والقضايا المركزية في هذا الصراع. ويرتبط بذلك أيضاً فهم عمليات صنع القرار داخل كل طرف من أطراف الصراع، وذلك لتحديد صانعي القرار الرئيسيين الذين تكون لديهم صلاحيات تقديم تعهدات ملزمة، بمعنى من يملك صلاحيات التفاوض وتقديم تنازلات في المفاوضات ومن يمكن الضغط عليه كي يقبل بتسوية للصراع الممتد. 2- تحليل ديناميات الصراع: يقصد بذلك مراجعة ملفات الصراع السابقة وإجراء ما يشبه دراسات "خلفية الصراع" ورسم خرائط الفاعلين والقوى المحركة والقواعد الاجتماعية الداعمة لأطراف الصراع والعوامل الدافعة لاستمراره في مقابل الدوافع المحفزة لقبول التسوية، والسياقات المحيطة بعقد الصفقة) .)

5 3- تقييم السياق الدولي للصفقة: ينبغي على الوسطاء قبيل طرح الصفقات تحليل السياقات الدولية المؤثرة على أطراف الصراع الفاعلة، وكيف تؤدي إلى أدوار محتملة للقوى الخارجية في الصراع. وهو الأمر الذي يفرض تحديد القوى الإقليمية والدولية التي تنخرط في الصراع بصورة مباشرة وغير مباشرة، وتقييم أدوارها المحتملة في تعظيم علاقاتها مع أطراف الصراع ومدى قبولها أو اعتراضها على الصفقة. 4- مراجعة المبادرات الحالية: ينبغي دراسة المبادرات وجهود الوساطة الراهنة لتسوية الصراع وأسباب تعثرها وإخفاقها في إنهاء مسببات الصراع، ودوافع ارتداد أطراف الصراع للتصعيد، على الرغم من تلك الجهود والثغرات التي تستغلها الأطراف الرافضة للتسوية في إفشالها والعودة للتصعيد. 5- إجراءات التمهيد للصفقة: يقصد بذلك إجراءات التمهيد لوضع صفقة مستقرة ودائمة لأطول فترة، وذلك من خلال تنظيم منتديات متعددة الأطراف تضم خبراء وممارسين حكوميين ومنظمات دولية ومنظمات المجتمع المدني للتحليل المشترك وتطوير صفقة أكثر تماسكاً وفعالية. 6- تحديد مصادر النفوذ: دراسة المحفزات التي يمكن تقديمها وأوراق الضغط التي يمكن توظيفها وتقييم مدى فاعلية العقوبات في تشجيع أطراف الصراع على قبول الصفقة والمبادرة في تنفيذها، بحيث يصبح واضحاً أن عدم القبول بالصفقة يساوي تحمل خسائر ضخمة لا يمكن التعايش معها) .)

6 7- صياغة وطرح الصفقة: يقوم الطرف الوسيط في الصراع أو أحد الأطراف بصياغة الصفقة وطرحها على الأطراف الأخرى مع مراعاة أن تكون قابلة للحياة وتتضمن مكاسب متبادلة للأطراف وتقاسماً للتكلفة بصورة متوازنة، بالإضافة إلى التركيز على الحلول وليس تعقيدات الصراع مع تشجيع الحوار وبناء قنوات الاتصال بين أطراف الصراع وتوفير ما يلزم لانخراط الأطراف كافة في عملية شاملة للوصول إلى صفقة نهائية، ومتابعة مراحل التفاوض كافة وعملية التنفيذ والوفاء بالالتزاما­ت) .)

7

ثالثاً: "عقيدة ال�سفقات" لدى ترامب

مع تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدة الحكم في العشرين من يناير 2017، أصبح مصطلح "الصفقة" الأكثر شيوعاً في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بحيث تحولت للمحرك الأساسي لعلاقاتها مع خصومها وحلفائها على حد سواء، وذلك لاقتناع الرئيس بفعالية الضغط على قادة الدول المنافسة والخصوم والحصول على تنازلات خلال القمم الثنائية؛ لإيمانه بقدراته التفاوضية، وإنجاز الصفقات كتلك التي كان يحققها في مجال العقارات.

ولقد دفعت رؤية الرئيس الأمريكي نفسه كرائد في عقد الصفقات، إلى القيام بتجميد أو إنهاء الاتفاقات التي أبرمها سلفه )باراك أوباما(، حيث يرى أنه قد جرى التفاوض عليها بشكل رديء، أو أنها مجحفة بشكل مفرط لدولته ولا تراعي المصالح الأمريكية، أو أصبحت عتيقة وغير مناسبة لظروف اقتصادية وأمنية متغيرة، على عكس رؤية الرؤساء الجمهوريين والديمقراط­يين السابقين الذين كانوا ينظرون للاتفاقات السابقة باعتبارها التزامات قانونية ينبغي الالتزام بها.

ومن أجل الوصول إلى صفقة جديدة تخدم مصالح الولايات المتحدة مع خصومها ومنافسيها وحتى الحلفاء، تبنى الرئيس استراتيجية "التصعيد من أجل الحوار" والتي تتضمن إطلاق تهديدات وتصعيد الخطاب ضد الرؤساء والمسؤولين السياسيين بالطرف الآخر، ثم فرض عقوبات اقتصادية صارمة على هذه الدول، ما سيدفع قادتهم إلى اللجوء للتفاوض) .)

8 ويرجع ذلك إلى اعتقاد ترامب أنه بارع في عقد الصفقات الناجحة، وهو المفاوض الرئيسي الذي يمكنه نقل نجاحاته في عالم

الأعمال إلى عالم السياسية والدبلوماس­ية، وهو ما دفع عدداً من الباحثين للتعرف على أسلوب الرئيس الأمريكي في عقد صفقات استناداً إلى ما ورد فيه كتابه “فن الصفقة”- وتصريحاته المتعددة، إذ توجد عدة ملامح أساسية لأسلوب الرئيس الأمريكي في التوصل إلى صفقة، وهي) :)

9 1- تقييم نقاط القوة والضعف: يقوم أسلوب ترامب في عقد الصفقات على تقييم نقاط قوة وضعف الطرف الآخر ضمن عمليات الإعداد قبل التفاوض، حيث يصفها ترامب بأنها "حجر الزاوية للتفاوض الناجح". ويرتبط ذلك بالوقوف على الخصائص المشتركة والمتعارضة بين أطراف التفاوض والتي لا تسهل من عملية حل النزاع بالتراضي.

ويشير الباحثون من دراستهم لأسلوب ترامب لعقد الصفقة إلى إن البحث عن المكاسب المتبادلة ليس النهج الذي يفكر فيه عندما يستعد للمفاوضات، حيث ينظر ترامب لنظرائه في عملية التفاوض على الصفقة باعتبارهم أعداء. وبعبارة أخرى تعد عملية التفاوض على صفقة بالنسبة للرئيس ترامب عملية تنافسية. ولهذا فإن ترامب لا يتعاطف مع خصومه. 2- التظاهر بعدم الاهتمام: يستهدف ذلك تحديد مدى يأس الطرف الآخر للتوصل إلى اتفاق. وقد كتب ترامب "لتسريع التفاوض كن غير مبال. وبهذه الطريقة ستكتشف ما إذا كان الطرف الآخر حريص على المضي قدماً أم لا في عقد الصفقة") .)

10 وبالإضافة إلى ذلك، فقد ذكر ترامب في كتابة "فن الصفقة" أن أسلوبه في إبرام الصفقات بسيط ومباشر، وأنه يهدف إلى تحقيق هدف مرتفع للغاية، ثم يستمر في الضغط والدفع لتحقيق ما يريد، وفي أحيان يكون ما يحققه أقل مما خطط له، ولكنه كتب أنه في معظم الأوقات يحقق ما يريد. 3- القيادة من أعلى لأسفل: ويقصد بذلك أن يكون القائد هو المسؤول عن كل من صنع القرار والمعلومات. ويمنح صنع القرار من أعلى إلى أسفل ترامب شعوراً بالقوة، وهو بالنسبة له حافز للنجاح، ويمكنه من التصرف بشكل أسرع بكثير من منافسيه في العديد من الصفقات، نظراً لاعتقاده أن "القيادة ليست مجهوداً جماعياً") .)

11 4- منطق الحزمة الكاملة: يتعامل ترامب مع الصراعات والتوترات عبر طرح حزمة متكاملة على الأطراف ودفعهم لقبولها كاملة أو رفضها دون التفاوض على أركانها مع وضع عقوبات وتكلفة باهظة للرفض الكامل لما يطرحه من حلول، وهو ما يجبر أطراف الصراع على قبول مبدأ الصفقة والسعي لتحسين شروطها. 5- التركيز على الحل: استفاد ترامب من خبرته في سوق المطورين العقاريين في الولايات المتحدة أن يتجنب التعامل مع القضايا المعقدة ويتجاهلها ويركز على نظيرتها الأقل تعقيداً بالإضافة للتركيز على الحلول وليس التفاوض في حد ذاته، ويعني ذلك تجاهل تاريخ التفاوض الممتد ضمن عملية التسوية وتعقيدات الصراع وعدم الاعتراف بالاستحقاق­ات التاريخية أو مرجعيات السلام والاتفاقات السابقة والبدء من "نقطة الصفر") .)

12 6- تحجيم سقف التوقعات: يقصد بذلك وضع حدود لتوقعات الأطراف الأخرى خلال عملية التفاوض ومنعهم من التطلع لطرح القضايا الشائكة والمعقدة التي لا يمكن حلها بسهولة، وعلى سبيل المثال، فإن تجنب طرح الولايات المتحدة قضايا الحل النهائي في المفاوضات بين الفلسطينيي­ن والإسرائيل­يين ضمن خطة السلام التي عارضتها على الطرفين الفلسطيني والإسرائيل­ي وتركيزها على القضايا الاقتصادية، يعد محاولة لخفض سقف توقعات طرفي الصراع بصورة كبيرة وإخراج بعض القضايا من معادلة التسوية) .)

13

رابعاً: اإ�سكاليات "�سيا�سة ال�سفقات"

تواجه محاولات تطبيق منطق الصفقات في تسوية الصراعات والتوترات الدولية عدة تحديات رئيسية، يتمثل أهمها في استبعاد حقائق وتعقيدات الصراعات والتركيز على المحفزات من دون فهم دوافع ومصالح القوى المنخرطة في الصراعات وعدم التعامل مع الحقائق على أرض الواقع على أنها أولوية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تعثر التوصل لتسويات مستدامة تعكس مصالح القوى المتحاربة وتطلعات الشعوب، فالصفقات لا تعكس سوى رؤية من يطرح الصفقة ورغبته في تحقيق مكاسب وليس مصالح أطراف الصراع ذاتهم.

وترتبط سياسات الصفقة بالرغبة في تحقيق الربح السريع عبر التلاعب بمدركات الأطراف الأخرى، وهو ما يؤدي لتجاهل تأثيرات معقدة ضمن الصراعات مثل العوامل الثقافية والسياسية السابقة على الصراعات والتي أثرت على مسارها، كما أن صياغة الصفقة ينبغي أن تنبع من رغبة أطراف الصراعات في التسوية وتحقيق مكاسب مشتركة وليس فرضها من جانب الوسطاء) .)

14 وفي السياق ذاته، تعبر سياسة الصفقات عن إدراك وتقديرات القيادة ضمن تجليات صعود “الفاعل الفرد” في العلاقات الدولية، وهو ما يعني أن تأثير الإدراك الخاطئ )Mispercept­ion( وجمود الأنساق العقيدية قد يحكم مواقف الأطراف خلال عملية التفاوض.

وعلى سبيل المثال، تشير بعض المصادر الأمريكية إلى أن مركزية رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيما يتعلق بالصفقة مع كوريا الشمالية والتفاوض حول تقليص قدراتها النووية قد تسببت في تغييرات متتابعة في فترات زمنية متقاربة لسياسات واشنطن ما بين التصعيد وإطلاق التهديدات العسكرية، والميل للتهدئة والتقارب والتفاوض مع الرئيس الكوري كيم جونج أون، مما يزيد من عدم التوقع Unpredicta­bility() في السياسة الأمريكية) .)

15 ويتصل ذلك بأن استبعاد الكوابح المؤسسية على أدوار صانعي القرار خلال عمليات عقد الصفقات وتشكيل هياكل صنع القرار من مجموعات متماثلة في التوجهات السياسية يؤدي

لسيطرة نمط “تفكير الجماعة” Groupthink() على عمليات صياغة الصفقات وتطبيقها، وهو ما يؤثر على فاعليتها وقدرتها على إحداث تغييرات في الواقع.

وعلى مستوى آخر، تؤدي الرغبة في عقد صفقة تتضمن مكاسب سريعة للانتقائية والتحيز في التعامل مع الواقع نتيجةً للتدفقات الضخمة للمعلومات والعجز عن ملاحقة التحولات والتغيرات السريعة للواقع، وهو ما يجعل الصفقات المقترحة تعكس رؤى جزئية تغفل تعقيدات الواقع، مما يجعلها غير قابلة للاستدامة في حالات متعددة) .)

16 "

وتتأثر فاعلية الصفقات في العلاقات الدولية بالقدرة على المناورة وتحقيق التوازن بين التصعيد والتهدئة وامتلاك أدوات كافية للضغط على الطرف الآخر. وعلى سبيل المثال تعرضت مسارعة الرئيس الأمريكي للتقارب مع كوريا الشمالية وبدء عمليات التفاوض حول التهدئة لانتقادات حادة في الولايات المتحدة بسبب عدم صياغة اتفاق متكامل الأركان قبل البدء في التقارب مع بيونج يانج ووجود احتمالات للارتداد بيونج يانج لسياسات التصعيد وتمسكها بقدراتها النووية والصاروخية بسبب المسارعة الأمريكية للتقارب معها من دون وجود ضمانات كافية لتغيير سياساتها الإقليمية) .)

17

ويعزز التركيز على المكاسب السريعة من هيمنة “قصر النظر السياسي” ‪Political Myopia(‬ ) على السياسة الخارجية للدول، وهو ما يتعارض مع مشروطيات استقرار العلاقات الدولية

والالتزاما­ت الممتدة ضمن التحالفات الدولية على سبيل المثال. وتسبب اتجاهات “الأمد القصير” Short-Termism() في التغيرات السريعة لسياسات ومواقف الدول وتجنب تحمل التكلفة في التفاعلات الدولية، مما يزيد من أزمات الثقة في مصداقية تعهدات الدول وقدرتها على تحمل الالتزامات.

وتعد الولايات المتحدة نموذجاً على كيفية تأثير سياسة الصفقات على العلاقات الدولية في ظل تركيز الرئيس ترامب على المكاسب السريعة وتحميل الأطراف الأخرى بالتكلفة والتخلي عن أعباء القيادة العالمية والقيام بدور أشبه بالوسيط التجاري في عالم الأعمال والمطالبة بتلقي مقابل مادي مجزٍ على الأدوار الأمنية التي تقوم بها الولايات المتحدة في أقاليم العالم بحيث تحولت “الأرباح” إلى المحرك الأساسي للسياسة الأمريكية، وهو ما تسبب في اتساع الهوة الفاصلة بين واشنطن وحلفائها التقليديين في أوروبا وتراجع الثقة في مصداقية الالتزامات الأمريكية) .)

18 ختاماً، على الرغم من جاذبية سياسة الصفقات وإمكانية توظيفها في التعامل مع الصراعات المعقدة، فإن التعامل مع العلاقات الدولية بمنطق إدارة الأعمال قد يواجه صعوبات متعددة بسبب اختلاف السياقات والقضايا والفاعلين، فالربح وتجنب الخسارة ليسا الدافعين الوحيدين أو الأهم في عالم السياسة، وتبقى ثوابت أيديولوجية وثقافية وتاريخية وسياسية شديدة التأثير على خيارات الأطراف، وهو ما يعزز الحاجة إلى إعادة هيكلة مفهوم الصفقات وآليات تطبيقها لتصبح ملائمة لتعقيدات عالم السياسة.

تعر سياسة الصفقات عن إدراك وتقديرات القيادة ضمن تجليات صعود الفاعل الفرد" في العلاقات الدولية، وهو ما يعني أن تأثر الإدراك الخاطئ وجمود الأنساق العقيدية قد يحكمها مواقف الأطراف خلال عملية التفاوض.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates