Trending Events - Future Concepts

‪Post- Settlement‬

تحديات متزايدة لمراحل تنفيذ اتفاقات السلام

- محمد بسيوني عبدالحليم

باحث متخصص في العلاقات الإقليمية، مصر

قد لا يكون التوصل إلى اتفاقية لتسوية الصراع كافياً لإرساء سلام دائم، إذ يتطلب التزاماً وإدراكاً ثابتياً من جانب الفاعلين بضرورة الاستمرار في الخيار السلمي وتجنب الارتداد للصراع المسلح مجدداً، وهو ما يصفه ويليام زارتمان، باستمرارية "حالة النضج" Ripeness() التي دفعت الأطراف إلى الانخراط في التسوية لاعتقادهم بأن المزيد من العنف لن يحقق لهم مكاسب إضافية.

وتواجه مرحلة ما بعد التسوية إشكاليات جوهرية ناجمة عن ميراث عدم الثقة بين الأطراف المختلفة، وإدراك البعض بأن ما أنتجته التسوية لم يحقق ما يصبو إليه من مكاسب، وبالتالي تتبلور معضلة الالتزام ‪Commitment Dilemma(‬ ) التي يُقصد بها تراجع بعض الأطراف عن الوفاء بالالتزاما­ت المنصوص عليها في اتفاق التسوية، ناهيك عن الأدوار الملتبسة للقوى الخارجية، والتي ربما لا تضطلع بدور الوسيط المحايد من خلال الانحياز لطرف ما على حساب الأطراف الأخرى، وهو ما يؤدي إلى الإخلال بالتوازنات الداخلية في مرحلة ما بعد التسوية) .)

1

اأولاً: جدليات مراحل ما بعد «اتفاقات ال�سلام»

يعتقد "بيتر فالنستين" أن معضلات مرحلة ما بعد التسوية تتزايد كلما زاد أمد الصراع وتنامت تعقيداته، وبالتبعية يتزايد عدد القضايا التي يتعين تسويتها، وفي مقدمتها قضايا العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، ونزع السلاح، ودمج المسلحين، والبناء المؤسسي، وتقاسم السلطة) .)

2 وعلى مستوى آخر يفترض "جون داربي" أن التسوية السلمية للصراع تستند إلى التفاوض بين الأطراف الرئيسية بحسن نية والتزام بعملية سلام مستدامة) (. وعلى النقيض يكشف واقع ما بعد

3 التسوية عن تناقضات رئيسية حول كيفية تطبيق الاتفاق وتوزيع القيم الناتجة عنه.

وتشكل مرحلة ما بعد التسوية امتداداً لاتفاق السلام، فهي مرحلة تستهدف تنفيذ وتفعيل مضمون اتفاق التسوية. وفي هذا الإطار يفترض "جوناس جيتنجر" وآخرون أن مرحلة ما بعد التسوية ينبغي أن تخلق إطاراً لإنتاج قيم )سياسية واقتصادية واجتماعية( بالاستناد إلى اتفاق التسوية، وهذه القيم تكون أداة للتغلب على مواضع الضعف الكامنة في اتفاق التسوية.

ويكون الإطار التفاوضي لمرحلة ما بعد التسوية محكوماً بعدد من المحددات، أهمها اقتناع الأطراف الفاعلة بضرورة التفاوض لتنفيذ ما جاء في الاتفاق وإمكانية تطوير هذا الاتفاق وتحسين جودته، كما تكون المفاوضات في هذه المرحلة أكثر وتنظيماً وتنطلق من مرجعية اتفاق التسوية وأطروحاته) .)

4

ثانياً: م�سارات التعامل مع اتفاقات الت�سوية

تتعدد مقاربات التعاطي مع تنفيذ اتفاقات التسوية وتتراوح بين ثلاث مقاربات رئيسية) :) 5 -1 الإلزام والامتثال :)Compliance( يقصد بذلك وفاء الأطراف الفاعلة بالالتزاما­ت المنصوص عليها في اتفاق التسوية، وتفترض هذه المقاربة أن ثمة إشكاليات يمكن أن تعترض مسار الامتثال، حيث إن الاتفاق يعكس الوضع العسكري القائم وتوازنات القوى بين الفاعلين المختلفين. وفي هذا الصدد، قد يجد بعض الفاعلين أثناء مرحلة ما بعد التسوية أن المكاسب المتحققة لهم، أو حتى للأطراف الأخرى

المنافسة، لا تتطابق مع توقعاتهم، وهو ما يدفعهم إلى المراوغة في تنفيذ الالتزامات.

وفي هذا الإطار، تستدعي مقاربة الامتثال سمتين رئيسيتين لمرحلة ما بعد التسوية. فمن جهة، يستمر إرث عدم الثقة كمحدد للعلاقة بين أطراف الصراع؛ وهو ما يجعل كل طرف يميل إلى توقع وتفسير أعمال الطرف الآخر بشكل سلبي، وربما يؤدي ذلك إلى تردد كل طرف في التخلي عن ترسانته العسكرية التي حصل عليها أثناء الصراع. ومن جهة ثانية، ليس من المرجح أن تنتهي عمليات العنف بشكل نهائي أثناء مرحلة ما بعد التسوية، فالعنف يستمر، ولو على نطاق أضيق، كمحاولة من بعض الأطراف لتحسين وضعه في السياق الجديد، ناهيك عن حدوث بعض الانشقاقات داخل أطراف الصراع بعد اتفاق التسوية وتراجع قدرة القادة على السيطرة على الأتباع. 2- إدارة عملية التسوية: تتضمن مرحلة ما بعد التسوية الالتزام بمواصلة التفاوض حول الاختلافات الجوهرية بين الأطراف، ويكون الهدف الرئيسي هو إيجاد قنوات وأطر مؤسسية للتعبير عن أصوات الفاعلين المختلفين. أو بمعنى آخر، إنتاج "ولاء قائم على العملية" ‪Process Based Loyality(‬ ،) إذ يظل ارتباط الفاعلين بمسار التسوية مرهوناً بالقدرة على تأمين المشاركة في مؤسسات دولة ما بعد الصراع. وفي هكذا سياق، تبدو هناك أهمية للمؤسسات المرنة القادرة على الاستجابة لمتغيرات ما بعد التسوية واستيعابها، علاوة على الحفاظ على صيغة مقبولة للمشاركة وتقاسم السلطة. 3- مداخل بناء السلام Peacebuild­ing(:) يُقصد بذلك تأسيس علاقات مستقرة طويلة الأمد بين الأعداء السابقين، ويرفض هذا المدخل تجنب القضايا المعقدة، مثل المصالحة والعدالة والمساءلة، وهكذا يبدو تنفيذ اتفاق السلام عملية وليس نتيجة في حد ذاته، ومن ثم تكون الأولوية لإحداث تغيير وتحول أبعد من المستوى النخبوي ليشمل المجتمع ككل؛ فالتحول المجتمعي المطلوب هنا هو ظاهرة متعددة المستويات تعتمد على مداخل مختلفة للتغيير الهيكلي والاستقرار والتقدم الاجتماعي القائم على مبادئ العدالة والمشاركة) .)

6

ثالثاً: اإ�سكاليات ما بعد الت�سوية

" "

بقدر ما تقدم المقاربات السابقة إطاراً لفهم ديناميات التفاعلات في مرحلة ما بعد التسوية، فإنها تطرح مدخلاً لتفسير المعضلات التي تعترض مسار ما بعد تسوية الصراع. فعملية السلام يمكن أن تتعرض للإخفاق نتيجة لعدد من العوامل، مثل التغيرات في البيئة الدولية ومصالح القوى الخارجية، كما قد تعاني عيوباً في تصميم اتفاق التسوية وإجراءات تنفيذ الاتفاق. فضلاً عن ذلك، فإن واحداً من عوامل إخفاق مرحلة ما بعد التسوية يتصل ب"الديناميات الذاتية للصراع"، ووفقاً لها فإن معالجة القضايا الرئيسية للصراع

يجب أن تتزامن مع البحث عن آلية للتوفيق بين مصالح الفاعلين المتعارضة) (، وفي هذا الصدد تتمثل أهم إشكاليات مراحل ما بعد

7 التسوية فيما يلي:

1- قصور التسوية: ثمة رابط بين القصور في اتفاقات التسوية وطبيعة الصراعات التي شهدتها الدول خلال العقود الأخيرة، فالكثير من هذه الصراعات يوصف بأنه صراعات مستعصية ‪Intractabl­e Conflicts(‬ ) تتسم بدرجة من اللاتماثل مع إضفاء صبغة عرقية وإثنية على هذه الصراعات. وعادة ما يصاحب هذه الصراعات انهيار في الدولة ومؤسساتها وإقامة جماعات مسلحة وأمراء للحرب يسعون إلى فرض سيطرتهم على مناطق محددة والتحكم في موارد هذه المناطق، وهو ما ينتج عنه نمط من اقتصاد الحرب والذي يعرفه "تيم إيتون" بأنه "الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على وجود العنف وإدارته أو إطالة أمده") .)

8

وتنعكس هذه المعطيات على مسار ما بعد التسوية، إذ تكشف الخبرة التاريخية للصراعات خلال العقود الأخيرة أن احتمالات انتكاس تسوية الصراعات والارتداد إلى العنف مجدداً تتزايد كلما كانت اتفاقات التسوية تعاني من مكامن ضعف لا يمكن التغاضي عنها، مثل عدم دمج الفاعلين كافة في عملية التسوية، وهو ما يطلق عليه "جون داربي" الدمج الكافي ‪Sufficient Inclusion(‬ ) كشرط أولي لنجاح التسوية؛ لأن استبعاد البعض سيمنحهم المبرر للاستمرار في العنف وتوصيف اتفاق التسوية بأنه يفتقر للعدالة والشرعية) .)

9

Spoilers(

ويمكن أن يكون القصور كامناً في مضمون اتفاق التسوية ونصوصه، فالاتفاق في هذه الحالة يتم تصميمه بشكل متعجل من دون التطرق للقضايا والمبادئ وتدابير بناء الثقة والضمانات الرئيسية الحاكمة لمستقبل العلاقة بين أطراف الصراع، ويلجأ البعض إلى إضفاء قدر من الغموض على الاتفاق كوسيلة لتفادي الجمود ومحاولة تحريك الأوضاع، ولكن مثل هذا الغموض قد يتحول بمرور الوقت إلى أداة لتفجير الأوضاع مجدداً، خصوصاً مع هيمنة الشك وعدم الثقة بين أطراف الصراع. وقد ينتج قصور اتفاق التسوية من عدم تضمنه لنصوص تفرض قيوداً، أو حتى عقوبات، على الأطراف التي لا تلتزم بتنفيذ تعهداتها بقصد تقويض العملية السلمية والعودة لوضع الصراع العنيف.

2- التدخل الإكراهي: قد يضفي تدخل طرف ثالث في التسوية المزيد من القصور على التسوية، لاسيما إذا كان هذا التدخل مصحوباً بدرجة ملحوظة من الإكراه على أطراف الصراع لإنجاز التسوية، حيث يعتقد "ستيفن ستيدمان" أن أحد "محددات نجاح التسوية يتمثل في توقيع اتفاق التسوية وبأقل قدر من الإكراه الخارجي" (، فالاعتماد المتزايد على الإكراه لإرغام أطراف

10) الصراع على التوقيع على اتفاق السلام يعني أن "اللحظة المواتية" ‪،)Ripe Moment(‬ التي تحدث عنها "ويليام زارتمان"، لم

يعرف ستيفن ستيدمان" مفسديالتسو­ية ) بأنهم القادة والحركات الذين يعتقدون أن السلام المنبثق عن مفاوضات واتفاق التسوية يهدد قوتهم ومصالحهم ضمن الصراع، ومن ثم يلجؤون إلى العنف لتقويض محاولات إنجاز وتنفيذ التسوية"

تتحقق بشكل فعلي ولكنها كانت مصطنعة بفعل الضغوط الخارجية لأن أطراف الصراع لم يتجهوا إلى التسوية وفقاً لحساباتهم الذاتية والإدراكية أو ما يطلق عليه البعض "التحول المعرفي" ‪Cognitive Shift(‬ ) والذي يقصد به الاعتراف بإمكانية تشكيل موقف مربح لجميع الأطراف) .)

11

3- مفسدو التسوية: يعرف "ستيفن ستيدمان" مفسدي التسوية Spoilers() بأنهم "القادة والحركات الذين يعتقدون أن السلام المنبثق عن مفاوضات واتفاق التسوية يهدد قوتهم ومصالحهم ضمن الصراع، ومن ثم يلجؤون إلى العنف لتقويض محاولات إنجاز وتنفيذ التسوية") (، ووفقاً لهذا التعريف، فإن تبنى سياسة

12 التقويض والإفساد Spoiling() يرتهن بوجود اتفاق تسوية يسعى البعض )سواء كان مدرجاً في اتفاق التسوية أو مستبعداً منها( إلى القضاء عليه لأنه لا يحقق ما يصبو إليه، وبوجه عام تستدعى ظاهرة مفسدي التسوية عدداً من الدلالات الأساسية المتمثلة فيما يلي:

أ-تعقيد ظاهرة "إفساد التسوية": يعد تعمد إفساد التسوية ظاهرة معقدة يشتبك ضمنها الفاعلون الداخليون المنخرطون بشكل مباشر في الصراع، والفاعلون الخارجيون، فالعديد من الصراعات باتت تنطوي على امتدادات خارجية، حيث يسعى كل طرف إلى الحصول على الدعم الخارجي من فاعلين يبحثون عن مصالحهم الإقليمية، وهذا التداخل يفرض عدداً من التحديات على مسار ما بعد التسوية لأن القوى الإقليمية قد لا تتقبل اتفاق التسوية طالما لا يحقق مصالحها المتصورة، وبالتالي ستلجأ إلى الضغط على حلفائها الداخليين، وتقدم الدعم لهم، للاستمرار في استخدام العنف وتقويض خيار التسوية السلمية.

ب- ظهور المفسدين الخارجيين :)Outsiders( ويقصد بهم المستبعدون من عملية التسوية، إذ إن هناك عدداً من المفسدين يكونون جزءاً من مشهد التسوية Insiders() ومشاركين في عملية المفاوضات والتوقيع على اتفاقية التسوية، بيد أن هذا الانخراط في عملية التسوية لم يكن بهدف التوصل إلى سلام دائم ومستقر، ولكنه كان مدفوعاً بالحصول على مكاسب أخرى تعزز نفوذهم الداخلي، وتنطوي هذه المكاسب على استخدام المفاوضات لاكتساب الدعاية والاهتمام الدوليين والحصول على الشرعية والاعتراف، كما يمكن استخدام المفاوضات والتسوية للتحضير لاستخدام القوة أو لإعادة التسلح أو جمع المزيد من المعلومات الاستخبارا­تية عن الأطراف الأخرى وتوجهاتها .)

13)

ج- تعدد أهداف الإفساد: يختلف المفسدون من حيث أهدافهم وأبعاد تقويضهم لمسار ما بعد التسوية ويعبر عن هذا الاختلاف التصنيف الذي طرحه "ستيفن ستيدمان" للمفسدين، ويضم هذا التصنيف ثلاثة أنماط وهي "المفسد المقيد" ‪Limited Spoiler(‬ ،) الذي يتبنى مجموعة من الأهداف المحدودة، مثل الاعتراف بالظلم ومعالجته، أو حصة من السلطة أو حتى ممارسة سلطة مقيدة بالدستور وإعطاء مساحة للمعارضة. وعلى الرغم من محدودية أهدافه فإن هذا لا يعني التزاماً محدوداً بتنفيذ هذه الأهداف، بل قد تكون هذه الأهداف والمطالب غير قابلة للمساومة والتفاوض.

ويتمثل النوع الثاني في "المفسد الكلي" ‪Total Spoiler(‬ ) الذي يسعى إلى الحصول على السلطة الكاملة والاعتراف الحصري بسلطته، وعادة ما تكون أهدافه ثابتة وغير قابلة للتغيير ويتم تحقيق هذه الأهداف من خلال القوة الكاملة، ومن ثم يتعاطى هذا النمط من المفسدين مع العالم بعبارات من قبيل "كل شيء أو لا شيء" والمعادلات الصفرية.

وينصرف النوع الثالث إلى "المفسد الجشع" Greedy( Spoiler،) وهو ذلك النمط الذي يقع في منطقة وسط بين المفسد المحدود والمفسد الكلي، ويحمل هذا النمط أهدافاً غير ثابتة تتوسع وتتقلص بناءً على حسابات التكلفة والمخاطر. وبالتالي قد تكون للمفسد الجشع أهداف محدودة ولكنها تتوسع عندما يواجه تكاليف ومخاطر منخفضة، وبالعكس تتقلص الأهداف مع ارتفاع التكاليف والمخاطر) .)

14

رابعاً: متطلبات مواجهة التحديات

يتطلب إنجاز مرحلة ما بعد التسوية، معالجة أوجه القصور الكامنة في اتفاق التسوية وخلق إطار لاستيعاب الأطراف المنخرطة كافة في الصراع. وتشكل تدابير بناء الثقة عاملاً مهماً كمحاولة لتقويض ميراث الشك والصراع بين الأطراف المختلفة، وفي هذا السياق، قد تتبنى السلطة الحاكمة الخطوة الأولى لإقناع الأطراف الأخرى بجدوى التسوية وهذه الخطوة يمكن أن تشمل ترتيبات

مؤسسية جديدة وعمليات دمج تضمن لتلك الأطراف مشاركة في السلطة وقدرة للتعبير عن آرائها.

وعلى الجانب الآخر، يكتسب دور الوسطاء الخارجيين أهمية مركزية، خصوصاً مع انهيار مؤسسات الدولة والتحول إلى دولة منهارة، ففي هذه الحالة تكون ثمة حاجة إلى سلطة إلزامية من الخارج تتسم بدرجة من الحيادية، وعدم الانحياز لأي من أطراف الصراع، لتُحدث تقارباً بين أطراف الصراع وتمهد الطريق للتوصل إلى تسوية. ويجب أن يستمر إشراف الوسطاء على مسار ما بعد التسوية لفترة زمنية ممتدة وتجنب التسرع في وضع استراتيجية للخروج.

ولقد عبر عن هذه الإشكالية الدبلوماسي الأمريكي السابق "ريتشارد هولبروك" حينما قال "يجب أن نكون حذرين للغاية عندما نتحدث عن استراتيجيا­ت الخروج ‪Exit Strategies(‬ ) وعدم الخلط بينها وبين المواعيد النهائية للخروج Exit( Deadlines.) صحيح أنه من الأفضل أن تكون لعمليات حفظ السلام مدة زمنية نهائية وألا تكون مدة مفتوحة، لكن يجب أن تكون استراتيجية الخروج محكومة بهدف عام محدد وليس موعداً نهائياً تعسفياً أو مصطنعاً، فالمواعيد النهائية المصطنعة تشجع الأطراف المتحاربة على المراوغة وتقويض أدوار الوسطاء) .)

15

ويرتبط نجاح الوسطاء في إدارة مرحلة ما بعد التسوية أيضاً بقدرتهم على صياغة استراتيجية للتعامل مع مفسدي التسوية، وقد بلورت الخبرة التاريخية للوسطاء ثلاث استراتيجيا­ت رئيسية) ،)

16 وهي استراتيجيه الإغراء Inducement() عبر تقديم حزمة من الحوافز التي تلبي مطالب الطرف الطامح إلى تقويض التسوية. والاستراتي­جية الثانية هي الإكراه Coercion(،) بحيث تتم معاقبة المفسد أو تقييد قدرته على تدمير عملية السلام، وعادة ما

يلجأ الوسيط هنا إلى التأكيد على أن مطالب الطرف المعارض غير شرعية وأن عملية السلام ستستمر بصرف النظر عن انضمام هذا الطرف للعملية أو رفضه، وفي حالات أخرى يتم التهديد بالانسحاب من العملية ‪Withdrawal Strategy(‬ ) لإرغام الطرف المعارض على الامتثال.

وتتمثل الاستراتيج­ية الثالثة في التنشئة الاجتماعية Socializat­ion(،) والتي تتضمن وضع مجموعة من القواعد للسلوك المقبول من جانب الأطراف الداخلية التي تلتزم بعملية السلام، أو الأطراف الخارجية التي تسعى إلى الانضمام إلى عملية السلام، ومن ثم تصبح هذه القواعد والمعايير الأساس للحكم على مطالب الأطراف وسلوكيات الأطراف. وتعتمد هذه الاستراتيج­ية على عدد من الآليات منها سياسة "العصا والجزرة" لمكافأة الأطراف أو معاقبتها، والتأكيد الدائم على قيمة السلوك المرغوب فيه، وصياغة برامج لغرس القيم وتثقيف الأفراد بقضايا المشاركة وقواعد الحكم الرشيد والمساءلة) .)

17 ختاماً، فإن القدرة على إدارة مرحلة ما بعد التسوية وتجاوز إشكالياتها تستدعي صياغة إطار متوازن يعالج مطالب الأطراف الفاعلة في الصراع بكافة توجهاتها ومصالحها السياسية، فضلاً عن مصالحها الاقتصادية التي تشكلت بفعل سنوات الصراع وإنتاجها لنمط اقتصاد الحرب المعقد. وفي الوقت ذاته، وضع أسس معالجة القضايا الرئيسية للصراع والتسوية، والتي من دون معالجتها لن يكون من الممكن بناء سلام مستقر ودائم، ولعل في مقدمة هذه القضايا هي إصلاح أجهزة ومؤسسات الدولة، وآلية تقاسم السلطة والمشاركة في نظام ما بعد التسوية، وقضايا المصالحة والمظالم المجتمعية وإعادة توزيع الثروة، فضلاً عن كيفية نزع أسلحة الفصائل المختلفة ومسارات الدمج العسكري والمدني للمقاتلين السابقين.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates