Trending Events - Future Concepts

‪Invisible Actors‬

تزايد توظيف ”الفواعل الخفية“ في الخطاب السياسي

- محمد عبدالله يونس

مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

لم تكن التفاعلات السياسية في أي وقت مجرد علاقات خطية واضحة بين عدد محدود من الفاعلين المعلنين، إذ ظلت الأبعاد الخفية وغير المعلنة جزءاً مهماً من الظواهر السياسية على الرغم من صعوبة تتبعها أو اعتبارها تفسيراً منطقياً مقبولاً للأحداث، بيد أن الآونة الأخيرة قد شهدت تزايداً في توظيف تلك الفواعل غير المعلنة في الخطاب السياسي للنخب السياسية، باعتبارهم محركين للأحداث ومسؤولين عن تفاقم بعض الأزمات.

اأولاً: الجدل حول "الطرف الخفي"

تجنبت العلوم السياسية منذ نشأتها التعامل مع الظواهر التي لا يمكن ملاحظتها أو إدراكها من جانب الباحثين، وهو ما جعل استبعادها بصورة تحكمية من البداية أحد أهم الثوابت والمسلمات المتوافق عليها، وبمعنى آخر فإن كل ما لا يمكن ملاحظته أو إدراكه ومتابعته من جانب الباحثين يعد بالتبعية خارج نطاق الدراسة العلمية المنضبطة.

وعلى الرغم من الالتزام بقطعية دلالة هذه القاعدة، فإن الأطراف الخفية ظلت حاضرة بقوة في التحليلات السياسية، خاصةً تلك التي اعتمدت على تحليل الروايات التاريخية للأحداث واعتبرتها مصادر أساسية في تفسير التطورات السياسية( .(

1 ومن ثم ترددت سرديات متعددة في تفسير التحولات السياسية، مثل التحريض على اتخاذ قرارات معينة ودور انقلابات القصر والعلاقات العائلية في تحديد مسارات السياسة في فترات تاريخية، كما أن اعتبار الدبلوماسي­ة السرية أحد أهم مسببات تفجر الحرب العالمية الأولى وتحميل "فلاديمير لينين" البنوك والمؤسسات المالية في الدول الغربية مسؤولية النزعة الاستعماري­ة قبيل الحرب العالمية الأولى كان ضمن أهم تجليات الاهتمام بالجوانب الخفية للسياسة( .(

2 وبعيداً عن الدوائر الأكاديمية، تصاعد خلال الآونة الأخيرة اتهام أطراف ثالثة خفية بالمسؤولية عن بعض التطورات، مثل اتهام "طرف ثالث" بالمسؤولية عن تفجير أعمال العنف والاشتباكا­ت خلال الثورات العربية، وهو ما تكرر في الاحتجاجات العنيفة التي شهدها العراق، حيث اتهمت الحكومة العراقية في نوفمبر 2019 طرفاً ثالثاً بالقيام بقتل المتظاهرين( )، وهو ما تكرر في حالات الاحتجاجات في

3 السودان ولبنان. ويعد "الطرف الخفي" أيضاً ضمن الحجج المتداولة لتفسير حدوث الاشتباكات غير المقصودة في بؤر الصراعات الأكثر احتداماً والتي تتدخل بها عدة قوى دولية مثل سوريا وليبيا.

ففي الحالة الليبية، حذر مجلس حكماء وأعيان ليبيا من وجود أطراف ثالثة خفية متدخلة في الصراع الليبي تقوم بنشر الشائعات وتحريض القوى القبلية وتأجيج اتجاهات الكراهية والعنف( )، وهو

4 ما كرره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكثر من مناسبة حينما ادعى وجود أطراف ثالثة تسعى لتهديد الاستقرار الداخلي وتحفيز الاضطرابات في تركيا( )، وتتسبب في توتر علاقات تركيا

5 مع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

وقد تبدو هذه التفسيرات أقرب إلى توجيه اتهامات غير مباشرة لأطراف مشكوك في تورطها في التطورات إلا أن بعض الاعتبارات تدفع للإحجام عن إعلان هويتها، مثل حماية المصالح ودرء تهديدات أكثر خطورة أو بسبب عدم امتلاك براهين قاطعة على مسؤولية هذه الأطراف عن الأحداث.

ثانياً: خريطة الفاعلين "مجهولي الهوية"

على الرغم من تشابه سياقات توظيف أطروحة "الطرف الخفي" في إطار الخطاب السياسي في الحالات المختلفة فإن أنماطاً متعددة لهؤلاء الأطراف يمكن استخلاصها من تحليل التصورات المعلنة حول حدود دور تلك الأطراف مجهولة الهوية يتمثل أهمها فيما يلي:

1- الفاعل المُتحكم: يهيمن بعض الفاعلين على التطورات من خلال وضع القواعد الحاكمة للتفاعلات. فعلى الرغم من عدم كونهم طرفاً مباشراً فإنهم يحددون مساحات الاشتباك والقواعد الضابطة للعلاقات مما يجعلهم طرفاً في المعادلة، ففي فترة الحرب البادرة كان الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يتحكمون في وتيرة الصراعات الداخلية والإقليمية بالوكالة بين القوى التابعة لهم وينطبق الأمر ذاته على الدور المهيمن للولايات المتحدة في ظل الأحادية القطبية وقدرتها على صياغة وفرض القواعد الحاكمة للتفاعلات الدولية( .(

6 2- الطرف المُدبر: يقوم الطرف الثالث ضمن هذه الفئة بأدوار التخطيط ووضع مسارات الحركة ليقوم الوكلاء بتنفيذ هذه الخطط من دون أن تنسب إليه مسؤولية مباشرة عن التطورات التي تقع في مرحلة لاحقة، حتى وإن تم توجيه اتهامات لهذا الطرف بالمسؤولية على غرار الاتهامات الموجهة لروسيا بالتخطيط لعمليات التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016 أو اتهام بعض الدول بالوقوف خلف هجمات مجموعات الاختراق السيبراني التي تستهدف المرافق العامة في دول أخرى( .(

7 3- الفاعل المُنفذ: يتأسس دور هذا الفاعل على قيامه بتنفيذ أعمال فعلية على الأرض ولكن بصورة خفية وغير معلنة، بحيث يصعب أن يتم الاستدلال على تورطه في الأحداث وتصبح علاقته بالحدث ظنية وغير مؤكدة، مثل عمليات الاغتيالات للمعارضين السياسيين والعمليات التخريبية التي تقف وراءها بعض المؤسسات الاستخبارا­تية وبعض الجماعات التخريبية التي تعمل بالوكالة. 4- القوى المُحرضة: يقصد بها الأطراف التي تقوم بتحريض الفاعلين المنخرطين في الأزمات وتدفعهم باتجاه التصعيد من دون أن تكون طرفاً مباشراً معلناً في التفاعلات، وعلى سبيل المثال، فإن الكشف عن دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في سبتمبر 2019 للتحقيق في اتهامات فساد ترتبط بالأنشطة الاقتصادية بنائب الرئيس الأمريكي السابق والمرشح للانتخابات التمهيدية بالحزب الديمقراطي "جو بايدن" ونجله يعد أحد أنماط التحريض السياسي( .(

8

ثالثاً: دوافع الا�صتعانة بالطرف الخفي

يرتبط تزايد الاستعانة بالأطراف الخفية كتفسير لتطورات الأحداث بعدة دوافع، يتمثل أهمها فيما يلي: 1- التفكير التآمري: يعد التفكير التآمري ضمن محفزات اللجوء لاتهام أطراف ثالثة غير محددة بالمسؤولية عن الأحداث، بحيث يتم تجاوز علاقات السببية الموضوعية ويتم اللجوء لتفسيرات عاطفية

غير متماسكة وقد تفتقد للمنطقية. ويتم توظيف المؤامرة في هذا السياق كأداة خطابية هدفها تأجيج المشاعر الغاضبة وتوجيه اللوم لأطراف خارجية وتأجيج العداء تجاه قوى أخرى باعتبارها مسؤولة عن الوضع الراهن( .(

9 2- الإفلات من المسؤولية: يرجع السبب الرئيسي لتوجيه الاتهام للطرف الخفي بالمسؤولية عن تردي الأوضاع إلى محاولة أحد الأطراف المشتبكة مع الوضع الراهن نفي مسؤوليته بصورة تامة وتحويل الانتباه نحو طرف خارجي مجهول الهوية فيما يمكن أن يندرج في إطار "سياسة كبش الفداء" ‪Scapegoat Policy)‬ .( ونظراً لكون الطرف المتهم في هذه الحالة خفياً فإنه لن يتمكن من درء الاتهام أو الخضوع للمساءلة. 3- غياب اليقين وعدم التوقع: تعني حالة عدم اليقين "عدم القدرة على تخيل مسار التطور والتغير في العالم"، وتنشأ هذه الحالة نتيجة عدم توافر المعلومات عن أبعاد المواقف، وعدم وضوح الفاعلين المؤثرين، وغياب الأنماط المنتظمة للتفاعلات والآليات والمحفزات والضوابط التي تحدد سلوك الفاعلين، فضلاً عن تسارع التغيرات في المواقف وتعقد أبعادها، وهو ما يجعل توظيف الطرف الخفي التسوية المؤقتة لعدم الإلمام بالمعطيات الراهنة.

وتقع أغلب التحولات السياسية والاجتماعي­ة المعقدة ضمن فئة التطورات غير المعروفة ‪(Unkown Unknowns)‬ في ظل السيولة والغموض وعوامل المفاجأة التي تحيط بتفجر هذه التحولات، وهو ما دفع البعض إلى إطلاق اسم "عصر اللامتخيل" على الأوضاع الراهنة( .(

10 4- القصور الإدراكي: يعتبر التسليم بوجود قوى خفية محركة للأحداث اعترافاً ضمنياً بعدم القدرة على التعامل مع التدفقات الضخمة للمعلومات والعجز عن ملاحقة التحولات والتغيرات السريعة للواقع وهو يعني وجود جوانب وأبعاد مجهولة في الموقف الراهن لا يمكن الحصول على معلومات كافية عنها، إلا أن الإقرار بوجود طرف خفي يعد حكماً تفسيرياً للأحداث، وهو ما قد يستند إلى بعض المعلومات غير المؤكدة أو الحدس والتخمين أو الخبرات السابقة( .(

11 إجمالاً، يمكن اعتبار الطرف الخفي أحد أهم التكتيكات الخطابية الهادفة لتقديم تفسير ما للموقف الراهن وصياغة سردية تنفي المسؤولية عن الأطراف المباشرة، وتدفع المتابعين لتوجيه انتباههم للفاعلين غير المعروفين في التفاعلات الحاكمة لتطور الأحداث.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates