Future Studies

Smart Cities

التحول نحو ”المدن الذكية“في العالم.. الدوافع التنموية والتهديدات األمنية

- إيهاب خليفة*

تصاعـد اتجـاه دول العـامل إلنشـاء “مـدن ذكيـة” تتميز باعتادهـا بصورة رئيسـية عى تكنولوجيـا املعلومات واالتصـاال­ت إلدارة متطلبـات الحيـاة اليوميـة كافـة، فاملنـازل التـي يسـكنها األفـراد، والبنية التحتيـة وأنظمة النقـل واالتصـاال­ت والخدمـات الحكوميـة والتجاريـة والصناعيـة والقطاعـات كافـة بهـذه املـدن، تديرهـا نظـم ذكيـة، تعتمـد عـى الـذكاء االصطناعـي وإنرتنـت األشـياء، وتحـدث بداخلهـا أمنـاط مختلفـة مـن “التفاعـالت الذكيـة” بـن البـر وبعضهـم البعـض، وبـن البـر واآلالت، وبـن اآلالت وبعضهـا، تنتـج عن هـذه التفاعـالت مليـارات مـن البيانـات املتولـدة يوميـاً، والتـي يشـار إليهـا مبفهـوم “البيانـات العمالقـة” ‪)Big Data(‬ وتكـون محصلـة تحليـل هـذه البيانـات قـرارات وسياسـات تسـاعد يف تحسـن منـط الحيـاة داخـل هـذه املدينـة الذكيـة.

ويـأيت هـذا التوجـه نحـو تبنـي مناذج املـدن الذكيـة مدفوعاً مبجموعـة من القـوى املُحركـة التكنولوجي­ة ‪)Driving Forces(‬ ، تـأيت يف صدارتهـا مواقـع التواصـل االجتاعـي وتطبيقـات املوبايـل ‪)Mobile Apps(‬ والطائـرات مـن دون طيـار )Drones( والطابعـات ثالثيـة األبعـاد ‪)3D Printers(‬ وإنرتنت األشـياء Inter�( ‪)net Of Things‬ ، والـذكاء االصطناعـي ‪)Artificial Intelligen­ce(‬ والسـيارات ذاتيـة القيـادة والروبوتـا­ت والعمـالت الرقمية.)1(

وعـى الرغـم مـن وصـول عـدد املـدن الذكيـة يف العـامل إىل حـوايل 21 مدينـة يف عـام 2013، فإنـه مـن املتوقـع أن يصـل عـدد املـدن الذكيـة حـول العـامل عـام 2025 إىل 88 مدينـة ذكيـة، منهـا 32 مدينـة يف منطقـة آسـيا والباسـيفي­ك، و31 مدينـة يف أوروبـا، و25 مدينـة يف القـارة األمريكية ، وذلك حسـب املعاير

)2( التـي وضعتهـا رشكـة “خدمـات التعامـل مـع املعلومـات” ‪)Informatio­n Handling Services(‬ ملفهـوم املدينـة الذكيـة ، ويف عـام 2020 سـيصل حجـم سـوق تلـك املـدن إىل 1.56 تريليـون دوالر وفـق تقديـرات

)3( رشكـة “فروسـت آنـد سـوليفانز” العامليـة ، وحـددت التقديـرات مثانيـة قطاعـات رئيسـية لالسـتثار الذيك

)4( يف العـامل، وهـي: الصناعـة، وإمـدادات الطاقـة، واألمـن، والتعليـم، والبنـاء، والرعايـة الصحيـة، والنقـل، واملياه .)5(

ويف هـذا اإلطـار، تسـعى الدراسـة لتحليـل دوافـع انتشـار املـدن الذكيـة والفـرص والعوائـد التـي تنتـج عــن التحــوالت الهيكليــة يف بنيــة املــدن، وخصائــص وأمنــاط املراكــز الحريــة املتطــورة والتهديــد­ات والتحديـات األمنيـة التـي يطرحهـا هـذا النمـوذج، سـواء كانـت تحديـات تقليديـة، مثـل األمـن اإللكـرتوي­ن، أو غـر تقليديـة، مثـل التاسـك املجتمعـي، وكيفيـة مواجهـة هـذه التهديـدات والتحديـات.

أوًال: األبعاد النظرية لمفهوم ”المدن الذكية“

ترجـع بدايـة ظهـور مفهـوم “املدينـة الذكيـة” إىل تسـعينيات القـرن املـايض وتحديـداً مـع اتجاهـات النمـو الـذيك ‪)Smart Growth(‬ التـي شـهدتها هـذه الفـرتة، ومـن ثـم فهـو مفهـوم حديـث نسـبياً ظهـر داخـل األوسـاط األكادمييـ­ة املعنيـة بالسياسـات الحديثـة للتخطيـط الحـري، وكان يهـدف إىل وصـف حركـة تحديـث البنـى التحتيـة للمـدن عـرب دمـج تكنولوجيـا املعلومـات واالتصـاال­ت بهـا، وهـو مـا جعـل األبعـاد الفنيــة تغلــب عــى املفه ـوم نتيجــة الرتكي ـز عــى دراســة أفضــل الط ـرق لتخطي ـط املــدن ودمجه ـا مــع تكنولوجيـا­ت االتصـاالت واملعلومـا­ت.

وعـى الرغـم مـن أن مفهـوم “املدينـة الذكيـة” أحـد املفاهيـم واسـعة االنتشـار يف اآلونـة األخـرة، فـال يوجـد تعريـف واضـح ومحـدد للمقصـود بهـا حتـى اآلن، كـا تتعـدد تصنيفـات هـذه املـدن وتختلـف يف املعايـر التـي تتضمنهـا بحيـث يعتمـد بعضهـا عـى مـؤرشات صارمـة تركـز عـى املـدن التـي بـدأت بالتحـول بالفعـل، ويتوسـع بعضهـا اآلخـر ويشـمل حتـى الـدول التـي تخطـط يف املسـتقبل القريـب للتحـول إىل مدينـة ذكيـة.

ويرتبـط ذلـك بالخلـط بـن بعـض املفاهيـم التكنولوجي­ـة التـي يتـم توظيفهـا لوصـف املدينـة الذكيـة، مثــل املــدن الذكيــة )Smart( و)Intelligen­t( واملــدن الرقميــة )Digital( واملــدن االفرتاضيـ­ـة )Virtual(، ويرجــع اســتخدام وصــف “الذكيــة” )Smart( يف هــذا التعريــف إىل شــمولية املفهــوم لألبعــاد الفنيــة واالجتاعيـ­ـة واملعاريــ­ة واالقتصادي­ــة.

ويرتكـز الـذكاء )Smartness( عـى التكامـل بـن األبعـاد الفنية املتمثلـة يف األجهزة والنظم واالستشـعا­ر والـذكاء االصطناعـي، واألبعـاد االجتاعيـة املتمثلـة يف العالقـات اإلنسـانية والتخطيـط العمـراين وعالقتـه باملكـون التكنولوجـ­ي، يف حـن يقتـرص الـذكاء بتعريفـه )Intelligen­t( عـى الجانـب الفنـي، الـذي يهـدف إىل تطويـر النظـم وتعليـم اآلالت ‪)Machine Learning(‬ ، لـي تكـون قـادرة عـى اتخـاذ قراراتهـا بصـورة ذاتيـة ومسـتقلة، ولذلـك نطلق عـى “الـذكاء االصطناعـي” مصطلـح ‪.)Artificial Intelligen­ce(‬

بينــا يشــر مصطلــح “املدينــة الرقميــة” ‪)Digital City(‬ إىل خدمــات االتصــاال­ت ذات النطــاق العريـض ‪)Broadband Communicat­ions(‬ املدمجـة يف البنيـة التحتيـة والتـي تسـهل عمليـة التواصـل بـن املواطنـن والحكومـة واألعـال، ولذلـك فـإن كل النظـم الذكيـة )Intelligen­t( هـي بالـرورة رقميـة .)Digital(

أمـا املدينـة االفرتاضيـ­ة ‪)Virtual City(‬ ، فهـو مصطلـح يقـوم عـى تقسـيم املدينـة إىل قسـمن، قسـم مـادي، يتمثـل يف النظـم واألجهـزة والبنـى التحتيـة، وقسـم افـرتايض، يتمثـل يف الفضـاء اإللكـرتوي­ن باعتبـاره الوسـيط الـذي يضـم جميـع هـذه العنـارص مـع بعضهـا البعـض، ويف املقابـل يشـمل مصطلـح “املـدن ذكيـة” ‪)Smart Cities(‬ جميـع هـذه املفاهيـم والعنـارص السـابقة، مـن نظـم وبنـى تحتيـة وإنرتنـت باإلضافـة إىل البعـد األهـم وهـو األفـراد أنفسـهم، الذيـن يعتـربون جوهـر املدينـة الذكيـة، فضـالً عـن البعـد الحـري واالجتاعـي.)6(

وتعـد املـدن السـابقة مراحـل يف تطـور املدينـة الذكيـة حتـى تنضج وتصـل إىل أعـى مسـتويات التقدم، فقــد تبــدأ املدينــة باملرحلــة الرقميــة ‪)Digital City(‬ والتــي تشــهد نــر نظــم االتصــاال­ت يف املدينــة، ثـم مرحلـة املدينـة الذكيـة ‪)Intelligen­t City(‬ عـرب تطويـر قـدرة اآلالت عـى جمـع املعلومـات واتخـاذ القـرارات، ثـم تصبـح املدينـة افرتاضيـة ‪)Virtual City(‬ ، حينـا يتصـل البـر مـع اآلالت عـرب الفضـاء اإللكـرتوي­ن، وعندمـا تبـدأ مرحلـة العمـران وتحسـن جـودة الخدمـات وحيـاة األفـراد تصـل املدينـة الذكية إىل أعـى مسـتوياتها ‪)Smart City(‬ يف ظـل تحقيـق االسـتدامة وحسـن إدارة املـوارد.

وتتميـز املدينـة الذكيـة ببعـض السـات االجتاعيـة الفريـدة، مثـل البنيـة التحتيـة االجتاعيـة، التـي تتكـون مـن رأس مـال اجتاعـي وفكـري، فضـالً عـن البيئة املحفـزة لالبتـكار القامئة عـى التعليـم والتعلم والثقاف ـة واملعرف ـة والعالق ـات اإلنس ـانية والسياس ـات والقوان ـن، والت ـي تدع ـم عملي ـة ال ـذكاء اإلنس ـاين والتطـور الحـري بصـورة عامـة، ويف هـذا اإلطـار تتمثـل أهـم معايـر املدينـة الذكيـة فيـا يـي: -1 التكنولوجي­ـا فائقـة التقـدم: تعتمـد املدينـة الذكيـة عـى التكنولوجي­ـا فائقـة التقـدم )High�Tech(، التـي تجعـل كالً مـن األفـراد واملعلومـا­ت ومكونـات املدينـة، متصلـون ببعضهـم البعـض، مـا يجعـل منهـا مدينـة تتسـم باالسـتدام­ة، وذات تجـارة تنافسـية وابتكاريـة، ودرجـة عاليـة مـن جـودة الحيـاة بداخلهـا.)7(

-2 التوظيــف األمثــل للمــوارد: تصبــح املدينــة ذكيــة حينـا يتــم اسـتخدام املــوارد والتكنولوج­يــات املمكنــة كافــة، بطريقــة منظمــة، لتطويــر املراكــز الحريــة، بحيــث تصبــح متكاملــة وقابلــة للســكن ومســتدامة .)8( -3 التوسـع يف الخدمـات الرقميـة: يتـم تجهيـز املدينـة الذكيـة بتكنولوجيـ­ا املعلومـات واالتصـاال­ت، والتـي تقـدم خدماتهـا للمواطنـن بصـورة رقميـة وإلكرتونيـ­ة.)9( -4 التنميــة متعــددة األبعــاد: تقــوم املدينــة الذكيــة عــى مفهــوم التنميــة متعــددة األبعــاد، وتعتــرب تكنولوجيــ­ا املعلومــا­ت واالتصــاا­لت مجــرد آليــة أو وســيلة لتســهيل عمليــة التنميــة داخــل الدولــة.)10( -5 االرتقـاء بجـودة الحيـاة: ال يجـب أن تكـون املدينـة الذكيـة “قامئـة فقط عـى التكنولوجي­ـا الحديثة، بـل يجـب أيضـاً أن تقـدم مسـتوى أعـى مـن جـودة الحيـاة لألفـراد بداخلهـا، وأن تخلـق مزيـداً مـن الفـرص لجعـل أمنـاط الحيـاة أكـر تناغـاً مبـا يحقـق تنميـة أفرادهـا.)11(” -6 التـوازن االقتصـادي واملجتمعـي: تُعـرف املدينـة بأنهـا “ذكيـة” عندمـا تسـاهم االسـتثارا­ت يف رأس املـال البـري واالجتاعـي والبنيـة األساسـية لوسـائل االتصـال التقليديـة (النقـل) والحديثـة (تكنولوجيـا املعلومـات واالتصـاال­ت) يف دعـم التنميـة االقتصاديـ­ة املسـتدامة ويف إيجـاد نوعيـة راقيـة مـن الحيـاة، مـع اإلدارة الحكيمـة للمـوارد الطبيعيـة، مـن خـالل العمــل الجاعــي وااللتــزا­م واإلدارة القامئــة عــى املشـاركة .)12( -7 دعــم االبتــكار والتطويــر: املدينــة الذكيــة هــي مدينــة تعمــل بأســلوب طمــوح وابتــكاري، يغطــي مجــاالت االقتصــاد والســكان والحوكمــة وقابليــة التحــرك والبيئــة واملعيشــة، ويعتمــد ذلــك عــى الدعــم واملشــارك­ة الفعالــة مــن املواطنــن الواعـن القادريـن عـى املشـاركة يف عمليـة اتخـاذ القــرار ، ويف هــذا الصــدد ميكــن اإلشــارة إىل

)13( عـدة مداخـل أساسـية يف تعريـف املدينـة الذكيـة: أ- املدخـل املفاهيمـي: يركـز هـذا املدخـل عـى النهـج االسـرتاتي­جي الـذي يربـط مختلـف جوانـب التنمية الحريـة يف نظـام واحـد، وذلـك مـن خـالل االعتـاد عـى الـذكاء االصطناعـي وتكنولوجيـ­ا املعلومات، ومراعـاة األبعـاد االجتاعيـة والبيئيـة لتحقيـق تنميـة املدينـة وزيادة قدرتهـا التنافسـية.)14( ب- املدخــل التكامــي: يهتــم هــذا املدخــل مبســتوى كفــاءة املدينــة الذكيــة، وكيفيــة عمــل النــاذج االجتاعيــ­ة والتكنولوج­يــة املعقــدة، والتوظيــف الجيــد للمــوارد التكنولوجي­ــة، مــع األخــذ يف االعتبــار املعايــر البيئيــة والســلوكي­ة، ودرجــة االســتعدا­د التكنولوجـ­ـي ‪)Technologi­cal Readiness(‬ للمدينــة وانتشــار الخدمــات الرقميــة بداخلهــا.)15( ج- املدخـل املؤسـي ‪:)Institutio­nal Approach(‬ يتنـاول هـذا املدخـل مجموعـة من القوانـن واإلجراءات والتفاعـال­ت املؤسسـية التـي تحكـم عمليـة اسـتخدام املعلومـات وتكنولوجيا االتصـاالت.)16( د- املدخـل التشـغيي: ويقصـد بهـذا املدخـل كفـاءة إدارة الشـبكات الذكيـة، بحيـث تسـهم يف تعزيـز جــودة الحيــاة مــن خــالل اســتخدام االبتــكار­ات التكنولوجي­ــة، التــي ينتــج عنهــا االســتخدا­م الكــفء للنظــم الحريــة بيئيــاً أو اقتصاديــاً .

)17(

تُوصــف املدينــة بأنهــا “ذكيــة” عندمــا تســاهم االسـتثامر­ات يف رأس املـال البـري واالجتامعـ­ي والبنيـة األساسـية لوسـائل االتصـال التقليديـة (النقــل) والحديثــة (تكنولوجيــ­ا املعلومــا­ت واالتصــاا­لت) يف دعــم التنميــة االقتصاديـ­ـة املســتدام­ة وإيجــاد نوعيــة راقيــة مــن الحيــاة، مــع اإلدارة الحكيمــة للمــوارد الطبيعيــة، مــن خــال العمــل الجامعــي وااللتــزا­م واإلدارة القامئــة عــى املشــاركة.

ثانيًا: المقومات األساسية للمدن الذكية

وضــع الربوفيســ­ور “نيكــوس كومنينــوس” ‪)Nicos Komninos(‬ منوذجــاً للمــدن الذكيــة، يقــوم عــى أربعـة عنـارص تتمثـل يف أوالً: بنيـة تحتيـة مـن شـبكات كهربائيـة وشـبكات إنرتنـت متهـد لعمليـة إنشـاء مدينـة قامئـة عـى املعلومـات واملعرفـة، وثانيـاً: اسـتخدام شـبكة اإلنرتنـت والتكنولوج­يـا الرقميـة يف تغيـر منـط العمـل والحيـاة داخـل املدينـة، وثالثـاً: دمـج تكنولوجيـا املعلومـات واالتصـاال­ت يف البنيـة التحتيـة للمدينـة، ورابعـاً: ربـط العنـرص البـري بتكنولوجيـ­ا املعلومـات واالتصـاال­ت لتحسـن عمليـة اإلبـداع والتعلـم واملعرفـة.)18(

وركــز “ردولــف جيفيــر” Rudolf( )Giffinger عــى أربعــة عنــارص أخــرى هــي: الصناعــة والتعليــم واملشــارك­ة والبنيــة التحتيـة ، كـا قـام “مركـز العلـوم اإلقليمية”

)19( ‪)Center of Regional Science(‬ بجامعــة فيينــا للتكنولوجي­ــا بتحديــد ســتة عنــارص رئيسـية للمـدن الذكيـة هـي: االقتصـاد الـذيك، والتنقــل الــذيك املتمثــل يف البنيــة التحتيــة والخدمـات اللوجيسـتي­ة، والبيئـة الذكيـة التـي تســتند إىل حســن إدارة املــوارد وتحقيــق االسـتدامة، والشـعب الـذيك الـذي يعتمـد عـى التعلـم، والحيـاة الذكيـة القامئـة عـى تحقيـق عنــرصي الجــودة واألمــن، والحوكمــة الذكيــة التــي ترتبــط بالدميقراط­يــة الرقميــة.)20(

ويعـد اإلطـار الـذي نـره “بويـد كوهـن” هـو األكـر شـموالً لعنـارص املدينـة الذكيـة، ففـي دراسـته املعنونـة “مـا هـي املدينـة الذكيـة تحديـداً؟” واملنشـورة يف سـبتمرب 2012، طـرح الكاتـب منوذجـاً يجمـع عنـارص املـدن الذكيـة أطلـق عليـه “عجلـة بويـد كوهـن” ‪)Boyd Cohen Wheel(‬ ، وقـد القـى هـذا االقـرتاب قبـوالً أكادمييـاً واسـعاً لدراسـة

)21( املــدن الذكيــة، حيــث متــت ترجمتــه إىل عــدة لغــات غــر اإلنجليزيـ­ـة، مثــل الفرنســية والســويدي­ة والهولنديـ­ة واألسـباني­ة، وتتمثـل أهـم عنـارص املـدن الذكيـة، وفقـاً لهـذا النمـوذج فيـا يـأيت: -1 االقتصــاد الــذيك: يقــوم االقتصــاد الــذيك عــى االبتــكار مــن خــالل االعتــاد عــى تكنولوجيــ­ات متقدمـة تسـاهم يف تصنيـع منتجـات جديـدة، وتحديـث الخدمـات القامئـة، وترسيـع اإلنتـاج والتصنيـع عـرب االعتـاد عـى اآلالت، باإلضافـة إىل االندمـاج بـن االقتصـاد القومـي واالقتصـاد العاملـي، وجعـل اقتصـاد املدينـة أكـر حيويـة وقـدرة عـى املنافسـة، وتتمثـل أهـم متطلبـات االقتصـاد الـذيك يف ريـادة األعـال واالبتـكار، واإلنتاجيـ­ة، والتواصـل بـن املسـتويات املحليـة والدوليـة. -2 التنقـل الـذيك: يقصـد بـه تحسـن درجـة كفـاءة وجـودة خدمـات التنقـل داخـل املدينـة، وتحسـن عمليـة مراقبـة قطـاع املـرور وتحسـينه، وذلـك مـن خـالل االعتـاد عـى التكنولوجي­ـات الحديثـة، مثـل اسـتخدام كامـرات املسـح واملراقبـة، وتقنيـات الرصـد اآليل لألخطـاء واألشـخاص، واالعتاد عـى برامج التحليـل الفـوري للمعلومـات، مبـا يسـاعد عـى اتخـاذ القـرار السـليم يف الوقـت املناسـب، باإلضافـة إلتاحــة وســائل متعــددة للتنقــل داخــل املدينــة تشــمل وســائل نقــل تابعــة للقطــاع العــام والخــاص والسـيارات صديقـة البيئـة، والسـيارات ذاتيـة القيـادة والدراجـات.

-3 البيئـة الذكيـة: تبـدأ مراعـاة املعايـر البيئيـة بالتخطيـط الحـري النظيـف للمدينـة، القائـم عـى تكنولوجيـا االتصـاالت واملعلومـا­ت وتقنيـات املراقبـة عـن بعـد، مبـا يسـاهم يف عمليـة توزيـع األماكـن العامـة واملسـاحات الخـراء حـول املدينـة، واألخـذ يف االعتبـار طـرق وأسـاليب البنـاء داخلهـا لتحقيـق أكـرب قـدر مـن الكفـاءة، وحسـن اسـتخدام املـوارد الطبيعيـة، وتقليـل انبعاثـات الغـازات، وتنظيـف القنوات املائيـة وتنشـيطها لتحقيـق التنميـة املسـتدامة، وتتمثل مـؤرشات البيئـة الذكيـة يف املباين الخـراء والطاقة النظيفـة والتخطيـط الحـري املتـوازن. -4 الشـعب الـذيك: يعتـرب املواطـن أحـد أهـم العنـارص يف عمليـة التنميـة يف املدينـة، فهـو الغايـة النهائية منهـا، فالهـدف هـو االرتقـاء مبعيشـة املواطنـن وتحسـن جـودة الحيـاة، ويتميـز شـعب املدينـة الذكيـة بخصائـص منهـا التعليـم املتقـدم، واالنفتـاح عـى اآلخـر وتقبلـه، والقبـول بالتعدديـة، واملرونـة الشـخصية، مـع تشـجيع األفـراد داخـل املجتمـع عـى املشـاركة يف عمليـة صنـع القـرار داخـل املدينـة، عـرب املنصـات االجتاعيـة والقنـوات املختلفـة بداخلهـا، وتتمثـل معايـر دمـج املواطنـن يف املـدن الذكيـة يف: التعليـم املتميــز الــذي يعــزز االبتــكار واإلبــداع، واملجتمــع الشــامل لجميــع األفــراد، ورعايــة اإلبــداع واالبتــكا­ر والتميـز .)22(

-5 الحيـاة الذكيـة: تسـتهدف املـدن الذكيـة تحسـن البيئـة املحيطـة باألفـراد وجـودة الحيـاة الخاصـة بهم مـن خـالل االعتـاد عـى تقنيـات إنرتنـت األشـياء، واملنصــات االجتاعيــ­ة عــرب اإلنرتنــت، كمحفــز لألفـراد عـى تدعيـم التواصـل فيهـا بينهم، وتحسـن طـرق إدارتهـم لألشـياء مـن حولهـم، مثـل منازلهـم وأدواتهـم الشـخصية ورشكاتهـم وأعالهـم، مبـا يخلق منـط حيـاة تقـوم عـى الحيويـة والسـعادة والصحـة. -6 الحكومــة الذكيــة: تقــوم التكنولوجي­ــا داخــل املدينــة الذكيــة بتدعيــم الروابــط داخــل الحكومــة نفسـها، وبينهـا وبـن مؤسسـاتها، والشـعب، ومختلـف قطاعـات الدولـة سـواء كانـت تجاريـة أو اجتاعيـة أو غرهـا، وذلـك مـن خـالل االعتـاد عـى شـبكات اإلنرتنـت لتقديـم جميـع خدماتهـا العامـة واملعلومـا­ت املنشـودة، مبـا يسـاهم يف النهايـة يف تدعيـم مبادئ محاسـبة الحكومـة والشـفافية وإتاحـة البيانـات واالسـتجاب­ة الرسيعـة الحتياجـات املجتمـع.)23(

ثالثًا: معايير وتصنيفات ”مدن المستقبل“

تختلـف أنـواع املـدن الذكيـة حسـب أربعـة عنـارص، تتمثـل يف، أوالً: نـوع التكنولوجي­ـا املسـتخدمة فيهـا، والتـي قـد تكـون تكنولوجيـا مغلقـة املصـدر، مبعنـي أنـه ال ميكـن تطويرهـا، إال مـن خـالل الركـة التـي قامـت بابتكارهـا، أو مفتوحـة املصـدر، بحيـث ميكـن ألي مطـور أو مربمـج العمـل عليهـا وتطويرهـا، وثانياً: الفواعـل املسـاهمن يف عمليـة بنـاء املدينـة، سـواء متثلـوا يف القطـاع الخـاص مبفـرده، أو بالتعـاون مـع املجتمـع املـدين يف إطـار اسـرتاتيجي­ة حكوميـة، وثالثـاً: القطـاع الـذي تخدمـه املدينـة، سـواء كان قطـاع متخصـص مثـل قطـاع الطاقـة أو جميـع األفـراد والقطاعـات بالدولـة، ورابعـاً: درجـة حداثة املدينة نفسـها، فهنـاك مـدن مل تكـن موجـودة مـن األسـاس يتـم بناؤهـا منـذ البدايـة لتكـون ذكيـة وهنـاك مـدن قدميـة يتـم تحويلهـا إىل مـدن ذكيـة. وميكـن توضيـح هـذه النـاذج فيـا يـي: -1 معيـار نـوع التكنولوجي­ـا املسـتخدمة: يوجـد نوعـان رئيسـيان فيـا يتعلـق بالتكنولوج­يـا املسـتخدمة يف بنـاء وتطويـر املـدن الذكيـة، وهـو مـا ميكـن تفصيلـه عـى النحـو التـايل:

قــام “مركــز العلــوم اإلقليميــ­ة” بجامعــة فيينــا للتكنولوجي­ــا بتحديــد ســتة عنــارص رئيســية للمـدن الذكيـة هـي: االقتصـاد الـذيك، والتنقـل الــذيك املتمثــل يف البنيــة التحتيــة والخدمــات اللوجيسـتي­ة، والبيئـة الذكيـة التـي تسـتند إىل حسـن إدارة املـوارد وتحقيق االسـتدامة، والشـعب الــذيك الــذي يعتمــد عــى التعلــم، والحيــاة الذكيـة القامئـة عـى تحقيـق عنـري الجـودة واألمــن، والحوكمــة الذكيــة التــي ترتبــط بالدميقراط­يــة الرقميــة.

أ- مـدن مغلقـة املصـدر ‪:)Closed Source(‬ وتقـوم ببنـاء هـذا النـوع مـن املـدن وتطويرهـا رشكـة واحـدة باألســاس مثــل رشكــة “أي يب أم” )IBM( أو سيســكو عــى ســيبل املثــال، وال تســتطيع رشكات أخــرى تطويرهـا بعـد ذلـك، إال بالتعـاون مـع هـذه الركـة، حيـث إنهـا ال تتيـح املعلومـات التـي تقـوم بالحصـول عليهـا مـن أجهـزة االستشـعار املوجـودة باملدينـة للمربمجـن واملطوريـن لتقديـم ابتـكارات أو تقنيـات ذكيـة أحـدث للمدينـة، كـا أنهـا ال تسـمح ملنصـات إدارة املدينـة )Platforms( مبشـاركة بيانـات مـع منصـات مـن رشكات أخـرى، مبعنـى آخـر أن هنـاك رشكـة عمالقـة هـي التـي تقـوم بتأسـيس املدينـة بالنظـم التـي تقـوم بتطويرهـا، فتعتمـد املدينـة عـى نظـام واحـد متجانـس بكافـة أبعـاده، ويتسـم بأنـه مغلـق أي ال يقبل تقنيـات أخـرى خـارج الربوتوكـو­ل املتعـارف عليـه، والـذي قامـت الركـة بتصميمـه ، ومـن األمثلـة عـى

)24( ذلـك مدينـة “سـونجدو” )Songdo( يف كوريـا الجنوبيـة املتخصصـة يف قطـاع التجـارة واألعـال التـي بنتهـا رشكـة سيسـكو.)25(

ويطـرح هـذا النـوع مـن املـدن تسـاؤالت خاصـة بقـدرة املدينـة عـى التطـور مسـتقبالً، وكذلـك الحفـاظ عـى الخصوصيـة، سـواء خصوصيـة الفـرد أو الدولـة، فجميـع هـذه النظـم التـي يتـم تشـغيلها يف املدينـة الذكيـة هـي ملـك لهـذه الـركات، مـا يجعـل معلومـات األفـراد والـدول متاحـة لديهـم بطريقـة مبـارشة أو غـر مبـارشة، كـا أن الدولـة سـتكون يف هـذه الحالـة مضطـرة للتعامـل مـع رشكـة واحـدة فقـط هـي التـي قامـت بتطويـر املدينـة. ب- مــدن مفتوحــة املصــدر ‪:)Open source(‬ وهــي التكنولوجي­ــا التــي ميكــن ألكــر مــن رشكــة أو فــرد املسـاهمة يف تطويرهـا وتحديثهـا وابتـكار تقنيـات جديـدة يقبلهـا النظـام، ومـن األمثلـة عـى ذلـك مبـادرة “فايويـر” )FIWARE(، وهـي مبـادرة أوروبيـة غـر هادفـة للربـح، تقـوم بأخـذ تربعـات مـن الحكومـات واملنظـات الدوليـة وكربيـات رشكات االتصـاالت يف أوروبـا، لتطويـر ونـر نظـم وأجهـزة استشـعارات يف دول االتحـاد األورويب. هـذه النظـم تتسـم بأنهـا مفتوحـة املصـدر، حيـث تتـم إتاحـة املعلومـات التـي يتـم جمعهـا يف املدينـة للمطوريـن عـرب واجهـات تطبيـق مفتوحـة املصـدر، مبـا يسـاعدهم يف ابتـكار تقنيـات وحلـول ذكيـة للمدينـة، فتشـارك طوائـف مختلفة مـن املجتمع يف عمليـة التخطيط والتأسـيس والتطويـر ،

)26( ومـن منـاذج املـدن التـي تبنـت هـذه التكنولوجي­ـا نيويـورك وكذلـك برشـلونة التـي اسـتحوذت عـى

)27( املرتبـة الثانيـة يف تصنيفـات املـدن الذكيـة عـام .)28(2016

ويعتـرب النـوع الثـاين مـن املـدن أرخـص نسـبياً مـن حيـث تكلفـة األجهـزة والتقنيـات، وذلـك أن عـبء الصيانـة والتطويـر يقـع عـى الجميـع، وليـس عـى جهـة واحـدة أو رشكـة واحـدة، فتسـتطيع أكـر مـن رشكـة الدخـول يف سـوق تطويـر املدينـة. ويتحمـل عـبء التكلفـة الجهـة التـي تحتـاج إىل صيانـة أو تسـعى إىل تطويـر.

وال تكـون الحكومـة مضطـرة السـتمرار التعامـل مـع رشكـة واحـدة بالتكلفـة التـي تطلبهـا الركـة، بـل يكـون أمامهـا أكـر مـن عـرض مـايل ميكـن أن تختـار منـه األنسـب لها، كـا أنهـا تتيـح لألفراد املسـاهمة يف تأسـيس املدينـة بأنفسـهم، مـن خـالل رشاء النظـم التـي تتـالءم مـع تكلفتهـم، وبالطبـع تتـالءم مـع املواصفـات القياسـية للمدينـة، ومـن ثـم تركيبهـا وتشـغيلها أينـا شـاءوا، دون الحاجـة إىل الرجـوع لركـة واحـدة تتحكـم يف عمليـات الرتكيـب والتشـغيل بصـورة منفـردة.)29(

وباإلضافـة إىل مـا سـبق، يتميـز هـذا النمـط مبزيـد مـن الشـفافية، مـن خـالل التصميـات واألكـواد املتاحـة للجميـع، لكـن هـذه امليـزة لهـا جانـب سـلبي آخـر، حيـث تثـر مشـكالت أمنيـة تتعلـق بالقـدرة عى منـع عمليـات القرصنـة واالخـرتاق اإللكـرتوي­ن نتيجـة توافـر التصميـات واألكـواد بـن يـدي الجميـع.

ويعـد أحـد الداعمـن لهـذا النمـوذج بعـض املختـربات واملنظـات الدوليـة غـر الربحيـة، مثـل “املعمـل الع ـام للتكنولوجي ـا والعل ـوم مفتوح ـة املص ـدر” ‪The Public Laboratory for Open Technology and(‬

)Science، واملعروفــ­ة اختصــاراً باســم ‪)Public Lab(‬ ، وهــو عبــارة عــن مجتمــع عاملــي مــن الباحثــن واملربمجـن الذيـن يطـورون برمجيـات وأدوات مفتوحـة املصـدر بهـدف إتاحتهـا لجميـع املطوريـن حـول العـامل للتجربـة واالختبـار، ليـس فقـط الباحثـن واملتخصصـن، بـل أن معمـل “فـاب الب برشـلونة” Fab( ‪)Lab Barcelona‬ يوفـر للمواطنـن أنفسـهم إمكانيـة املسـاهمة يف عمليـة االختبـار والتطويـر يف إطـار دعـم املشـاركة املجتمعيـة وتطويـر مفهـوم “املواطـن الـذيك”، مـن خـالل تكنولوجيـا “أفعـل ذلـك بنفسـك” ‪)Techniques Do It Yourself(‬ أو املشـار إليهـا اختصـاراً بــ ‪.)30()DIY techniques(‬ -2 معيـار األطـراف املشـاركة: يوجـد نوعـان رئيسـيان مـن املـدن الذكيـة التـي ميكـن تقسـيمها حسـب الفاعلـن املشـاركن يف بنائهـا: أ- القطـاع الخـاص: يقـود عمليـة إنشـاء املدينـة الذكية القطـاع الخاص، خاصـة كربيـات رشكات التكنولوجي­ا يف العـامل، والتـي تقـدم نفسـها عـى أنهـا قـادرة عـى إنشـاء املدينـة بكافـة احتياجاتهـ­ا، مـن نظـم مراقبة املـرور بصـورة فوريـة، ونظـم كشـف الجرائـم، وكامـرات املراقبـة، والشـبكات، وخطـوط االتصـاالت، ونظم متابعـة األحوال البيئيـة.)31( ب- مشـاركة املجتمـع املـدين: يشـارك املواطنـون واملجتمـع املـدين واألكادميـ­ي، إىل جانـب القطـاع الخـاص، يف صياغـة وتطويـر، بـل وإدارة املدينـة الذكيـة، وذلـك مـن خـالل إتاحـة الفرصـة للمربمجـن والقراصنـة واملطوريـن لالبتـكار والتجريـب وتقديـم الحلـول واالقرتاحـ­ات، فتكـون املسـؤولية يف النهايـة مشـرتكة بن الجميـع داخل املدينـة.)32(

ويتيـح هـذا النـوع مـن املـدن الفرصـة للـركات الصغــرة ومنظــات املجتمــع املــدين والجامعــا­ت واملؤسسـات الحكوميـة، تقديـم مبـادرات تدعـم عملية التحـّول نحـو املدينـة الذكيـة، فتقـوم الجامعـات عـى سـبيل املثـال، باالسـتفاد­ة مـن الباحثـن بداخلهـا مـن طـالب وأسـاتذة ومدرسـن، يف تطويـر تكنولوجيـا­ت وبرمجيـات وأجهـزة يف معامـل الجامعـات، تسـتفيد منهـا املدينـة يف عمليـة التحـول.

ولدعـم املبـادرات التكنولوجي­ـة، يتشـارك املهتمون، سـواء مـن الحكومـة أو القطـاع الخـاص أو املجتمـع املــدين، بإنشــاء مختــربات ومعامــل ونقــاط تجمــع يف األماكــن العامــة، تحتــوي عــى منــاذج مصغــرة للمدينـة، ورسـوم بيانيـة توضـح بنيتهـا التأسيسـية، وتسـمح للباحثـن واملربمجـن بالدخـول لهـذه املعامـل، واالسـتفاد­ة مـن املعلومـات املتوافـرة فيهـا عـن املدينـة، مبـا يسـاعد هـؤالء الباحثن عـى تكوين فكـرة عن منظومـة وآليـة عمـل املدينـة، واملسـاهمة يف تقديـم حلـول وأفـكار مبتكـرة للمشـكالت اليوميـة والحياتيـة التـي يتعـرض لهـا سـكان املدينـة.

ومـن النـاذج عـى هـذه املختـربات واملعامـل العامـة، معمـل “ميتـاالب” )Metalab( يف فيينا بالنمسـا، وهـو مركـز غـر ربحـي لدعـم االبتـكار يف مجـال التكنولوجي­ـا الحديثـة، حيث يوفر لـزواره مـن املربمجن والقراصنـة والباحثـن، مسـاحة الختبـار التقنيـات املتقدمـة وتطويرهـا، وتبـادل املعلومـات ومشـاركتها، من خـالل توفـر شـبكات إنرتنـت سـلكية وال سـلكية وأجهـزة إلجـراء التجـارب عليهـا ومحاولـة شـن هجـات قرصنـة عـى بعـض النـاذج باملدينـة مثـل الشـوارع والخدمـات العامـة، واكتشـاف مواطـن الضعـف فيهـا وتطويرها .)33(

اتجهـت دولـة اإلمـارات العربيـة املتحدة للتوسـع يف إنشـاء املـدن الذكيـة، ومتثـل ديب إحـدى أهـم املــدن الذكيــة األرسع منــواً يف العــامل، حيــث قامـت بإطـاق مبـادرة “ديب مدينـة ذكيـة” يف أكتوبــر 2013، وهــي املبــادرة التــي تتضمــن 500 مـروع وخدمـة ذكيـة، وتـم يف إطارهـا تدشـن مـروع “سـيليكون بارك” عـى امتـداد 150 ألف مـر مربـع وبتكلفـة تُقـدر بحـوايل 300 مليـون دوالر، ودشــنت أيضــاً دولــة اإلمــارات مدينــة “مصــدر” يف أبوظبــي، التــي تــم تصميمهــا لتكــون مدينــة ذكيــة وصديقــة للبيئــة تحقــق التنميــة املســتدام­ة.

ويف ضـوء هـذا الوضـع، تصبـح املدينـة مبنزلـة مختـرب كبـر، يسـاهم سـكانها، فضـالً عـن الـركات واملجتمـع املـدين والحكومـة، يف تطويرهـا وتحديثهـا، مبـا يدعـم فكـرة الحوكمـة والشـفافية، ويعطي فرصة لإلبـداع واالبتـكار، ويجعـل األفـراد أنفسـهم حريصـون عـى مدينتهـم أكـر مـن غرهـم، ألنهـم شـاركوا يف بنائهـا مـع توفـر النفقـات وحسـن إدارة املـوارد، وذلـك ألن دور الـركات يـأيت يف املرحلـة الثانيـة، أي القيـام بإنشـاء التصميـات املطلوبـة، والتـي أفرزتهـا الحاجـة املجتمعيـة، وليـس مرحلـة أوىل عـرب اقـرتح تكنولوجيـا قـد يكـون املجتمـع يف غنـى عنهـا بسـبب سـعيها لتحقيـق الربـح. -3 معيـار القطـاع املسـتهدف: هنـاك نوعـان أساسـيان، األول املـدن الذكيـة املليونيـة، التـي تخـدم جميـع األفــراد، أمــا الثــاين، فهــو املــدن املتخصصــة، التــي يتــم إنشــاؤها لغــرض معــن، وهــو مــا ميكــن تفصيلــه عــى النحــو التــايل: أ- املـدن املليونيـة: املـدن التـي يتـم إنشــاؤها أو تحويلهــا ملــدن ذكيــة لتكـون مـدن مليونيـة، تخـدم جميـع االحتياجـا­ت اليوميـة لجميـع األفـراد املقيمــن إقامــة دامئــة بداخلهــا، مثـل سـنغافورة ونيويـورك وغرهـا، فهـي مـدن تتسـم بالنشـاط البـري الكثيــف . ب-املــدن القطاعيــة: املــدن التــي يتـم إنشـاؤها لخدمـة قطـاع معـن، سـواء كان قطاعـاً تجاريـاً أو صناعيـاً أو غـره، ومـن ثـم ال يقيـم فيهـا األفـراد إقامـة دامئـة، كـا أنهـا غـر مؤهلـة السـتيعاب عـدد كبـر مـن السـكان، حيـث يكـون الهـدف من هـذا النمـط مـن املـدن الذكيـة، توفـر بيئـة مناسـبة لقطـاع معـن لـي يبـدع ويبتكـر ويحقـق أهدافـه، ومـن األمثلـة عـى ذلـك مدينـة ‪)PlanIT Valley(‬ يف الربتغـال املتخصصـة يف تقنيـات الـذكاء االصطناعي وإنرتنـت األشـياء.)34(

ويغلـب عـى النـوع الثـاين مـن املـدن الطابـع التشـغيي، وليـس الطابـع اإلنسـاين الـذي تتميـز بـه املـدن التقليديـة، وهـو مـا دعـا بعـض املتخصصـن إىل توجيـه نقـد لهـذا النمـط، حيـث يـرون أن اإلنسـان هـو جوهـر املدينـة وهدفهـا، وإذا مل تعمـل املدينـة عـى تحقيـق رفاهيـة اإلنسـان، فإنهـا تفقـد معناهـا الحقيقـي .)35(

يضـاف إىل ذلـك أن الـركات التكنولوجي­ـة يكـون شـاغلها الرئيـي هـو بيـع أكـرب كميـة مـن التقنيـات الحديثـة والذكيـة واألجهـزة اإللكرتوني­ـة للـدول والحكومـات، بغـض النظـر عـن أهميتهـا الحقيقـة، وهو يف حـد ذاتـه منـط اسـتهاليك ضـار، عكـس هـدف املدينـة الذكيـة التـي تسـعى للحفـاظ عـى مـوارد الطاقـة وعـدم اإلرساف.)36(

وميكـن الـرد عـى هـذه االنتقـادا­ت بـأن هنـاك منـاذج مختلفـة مـن املـدن الذكيـة، كل منـوذج يسـعى لتحقيـق هـدف معـن، وبالتـايل فـإن املعيـار األفضـل للحكـم عليهـا هـو مـدى متكنهـا مـن تحقيـق هدفها، بغـض النظـر عـن مبـدأ «توطـن األفـراد»، فـإذا كان الهـدف مـن املدينـة مثـالً خدمـة قطـاع تجـاري أو صناعـي أو بحثـي فهـو يف حـد ذاتـه هـدف مـروع، وعنـد تقييـم مـدى صالحيـة هـذا النمـوذج مـن املدينـة الذكيـة، يتـم تقييمـه يف إطـار الهـدف املرجـو منـه يف النهايـة.

-4 معيـار حداثـة املدينـة: توجـد مـدن يتـم إنشـاؤها مـن األسـاس لتكـون مدنـاً ذكيـة، وأخـرى قدميـة يتـم تحويلهـا إىل مـدن ذكيـة، ويتضـح ذلـك يف التـايل: أ- املـدن الجديـدة: وهـي املـدن التـي مل تكـن موجـودة مـن قبـل، وتتسـم بأنـه يتـم بناؤهـا يف أرض فضاء، غـر مأهولـة بالسـكان، ومل يتـم إنشـاء بنيـة تحتيـة فيهـا مـن قبـل، حيـث يتم تأسيسـها مـن البداية، سـواء عـرب القطـاع الخـاص منفـرداً، أو مبشـاركة املجتمـع املـدين، فتتحـول مـن أرض جـرداء ال يوجـد بها إنسـان أو طريـق، إىل مدينـة ذكيـة قـادرة عـى تحقيـق أهـداف محـددة، مثـل مدينـة مصـدر يف أبوظبي. ب- املـدن العريقـة: فهنـاك مـدن قدميـة وعريقـة ‪)Legacy City(‬ يتـم تحويلهـا إىل مـدن ذكيـة، مثـل «مانشسـرت» يف اململكـة املتحـدة و«ومنونتـري» يف املكسـيك ، وعنـد حـدوث ذلـك البـد مـن األخـذ يف

)37( االعتبـار منـط املعيشـة القائـم، والبنيـة التحتيـة الحاليـة مـن طـرق ومبـاٍن وخدمـات، وبالتـايل اسـتخدام تكنولوجيـا تتـالءم مـع الحالـة الفعليـة للمدينـة.

رابعًا: دوافع دمج التكنولوجي­ا في المدن

أصبح ـت امل ـدن الذكيــة أولويــة رئيس ـية يف السياســة العامــة لكث ـر مــن الــدول، وذل ـك باعتباره ـا مــن محـركات التنميـة الرئيسـية التـي تحفـز االقتصـاد وتسـتوعب الزيـادة السـكانية، إذ تقـدر بعـض املصـادر أنـه يف عـام 2025 سـيعيش حـوايل 10 ماليـن نسـمة يف 34 مدينـة حـول العـامل)38( وأن حـوايل %70 مـن سـكان العـامل سيعيشـون يف املـدن بحلـول عـام ‪.)39( 2050‬

فلقــد شــهدت القــارة األوروبيـة إطـالق مـروع «املـدن الذكيـة األوروبيـة» عــام 2007 إلنشــاء 70 مدينـة ذكيـة ، وذلـك يف

)40( إطــار مــروع «أوروبــا »2020 الــذي يســتهدف تحسـن الخدمـات وزيـادة فــرص العمــل، ويف يوليــو 2014 أعلـن رئيـس الوزراء الهنــدي نارينــدار­ا مــودي عــن البــدء يف بنــاء 100 «مدينـة ذكيـة» مجهـزة بأحـدث القـدرات التقنيـة يف مختلـف أرجـاء الهند ضمن مـروع تحديـث وتطوير 4000 مدينــة هنديــة قدميــة وتــم تخصيــص ميزانيــة قدرهــا 15 مليــار دوالر للمــروع.)41(

وتحتـل سـنغافورة مرتبـة متقدمـة جـداً يف التصنيـف السـنوي للمـدن الذكيـة، حيـث شـغلت املرتبـة األوىل يف تصنيـف جونيـرب للمـدن الذكيـة عـام ‪)43()Juniper’s Smart City Rankings( 2016‬ ، كـا أنها

)42( متتلـك برنامجـاً لتطويـر الدولـة بأكملهـا، بحيـث تصبـح سـنغافورة أول دولـة ذكيـة يف العـامل، وقـد أطلـق رئيـس الـوزراء يل هسـن لونـج برنامـج مبـادرة «أمـة ذكيـة» ‪)Smart Nation(‬ يف نوفمـرب .)44(2014

وتوجـد العديـد مـن األسـباب التـي تدفـع سـنغافورة إىل أن تتحـول مـن مدينـة إىل دولـة ذكيـة، فهـي منـوذج للدولـة املدينـة بعـدد سـكانها الـذي يبلـغ 5 ماليـن نسـمة، مـا يسـهل عـى الحكومـة أداء مهـام اإلدارة والتنظيـم، كـا أن قلـة مواردهـا الطبيعيـة قـد دفعـت إىل الرتكيـز عـى تطويـر قـدرات العنـرص البـري، فضـالً عـن امتالكهـا واحـداً مـن أكـر االقتصـادا­ت تنافسـية يف العـامل، وتقـدم البنيـة التحتيـة

ونظـم املواصـالت. ويـأيت بعـد سـنغافورة يف تصنيـف «املـدن الذكيـة»، برشـلونة يف أسـبانيا، ولنـدن يف إنجلـرتا، وسـان فرانسسـكو يف الواليـات املتحـدة األمريكيـة وأوسـلو يف الرويـج.)45(

ويف املنطقــة العربيــة، اتجهــت دولــة اإلمــارات العربيــة املتحــدة للتوســع يف إنشــاء املــدن الذكيــة، ومتثـل ديب إحـدى أهـم املـدن الذكيـة األرسع منـواً يف العـامل، حيـث قامـت بإطـالق مبـادرة «ديب مدينـة ذكيــة» يف أكتوبــر 2013، وهــي املبــادرة التــي تتضمــن 500 مــروع وخدمــة ذكيــة، وتــم يف إطارهــا تدشـن مـروع «سـيليكون بـارك» عـى امتـداد 150 ألـف مـرت مربـع وبتكلفـة تُقـدر بحـوايل 300 مليـون دوالر، ودشـنت أيضـاً دولـة اإلمـارات مدينـة «مصـدر» يف أبوظبـي، التـي تـم تصميمهـا لتكـون مدينـة ذكيـة وصديقـة للبيئـة تحقـق التنميـة املسـتدامة، ويرتبـط ذلـك بارتفـاع معـدل اسـتخدام أجهـزة الـذكاء االصطناعـي يف اإلمـارات، وحصـول اإلمـارات عـى املركـز األول عـى مسـتوى الـرق األوسـط، والــمركز 22 عامليـاً يف «مـؤرش التطـور الرقمـي» الصـادر عـن املنتـدى االقتصـادي العاملـي.)46(

وشـهدت أيضـاً دول شـال أفريقيـا مبـادرات عـى الصعيـد ذاتـه، حيـث أعلنـت اململكـة املغربيـة تحويل سـت مـدن رئيسـية هـي: الـدار البيضـاء، والربـاط، وطنجـة، وفـاس، وإفـران، ومراكـش إىل مـدن ذكيـة بحلـول عـام 2026، وإنشـاء عـدة مـدن ذكيـة مسـتدامة تعتمـد عـى طاقـة الشـمس والريـاح. كـا أعلنـت م ـرص ع ـن إط ـالق الجي ـل الراب ـع م ـن امل ـدن املرصي ـة ال ـذي يق ـوم ع ـى فك ـر امل ـدن الذكي ـة، وتعت ـزم تطبيقـه يف العاصمـة اإلداريـة الجديـدة ومدينتـي العلمـن الجديـدة ورشق بورسـعيد.)47(

وتقـوم العديـد مـن الـركات العاملـة يف مجـال تكنولوجيـا املعلومـات بإطـالق مبـادرات خاصـة باملدن الذكيـة، مثـل مبـادرة «تحـدي املـدن الذكيـة» التـي أطلقتهـا رشكـة «آي يب إم» عـام 2010، وأوفـدت مـن خاللهـا 800 خبـر تقنـي إىل أكـر مـن 130 مدينـة حـول العـامل بهـدف مسـاعدة قادتهـا عـى تحسـن إدارتهـا عـرب حلـول ذكيـة، وذلـك بتكلفـة بلغـت 66 مليـون دوالر.)48(

وتتمثـل أهـم األسـباب التـي تدفـع الـدول لتنبـي منـاذج املـدن الذكيـة يف زيادة عـدد السـكان مبعدالت غـر مسـبوقة، وتضخـم املـدن الحاليـة وتزايـد تعقيـدات مشـاكلها التقليديـة، والرغبـة يف االسـتفادة مـن مكتسـبات الثـورة الصناعيـة الرابعـة يف التغلـب عـى هـذه املشـكالت، كا تسـعى الـدول إىل زيـادة معدالت التنميـة االقتصاديـ­ة وتحسـن جـودة الحيـاة ومواجهـة املخاطـر والتهديـدا­ت األمنيـة، وميكـن اإلشـارة يف هـذا الصـدد إىل عـدة دوافـع لتطويـر املـدن الذكيـة يف العـامل: -1 تفاقـم مشـكات الزيـادة السـكانية: تعد مشـكلة النمو السـكاين الرسيـع يف املدن الكـربى يف صدارة التحديـات التـي تواجههـا الحكومـات عـى مسـتوى العـامل، فقـد كانـت نسـبة األفـراد الذيـن يعيشـون يف املـدن حتـى القـرن الثامـن عـر ال تتجـاوز %5 مـن إجـايل عدد السـكان حـول العـامل ، وكانـت غالبية

)49( التكتـالت السـكانية تتمركـز يف املناطـق الزراعيـة وحـول األنهـار لسـد احتياجاتهـ­م مـن الغـذاء، ولكـن بعـد الثـورة الصناعيـة األوىل يف القـرن الثامـن عـر والتـي قامـت عـى الفحـم والبخـار، بـدأ انتقـال األفـراد إىل املـدن بهـدف الحصـول عـى حيـاة أفضـل، وتزايـد هـذا االتجـاه مـع الثـورة الصناعيـة الثانيـة يف القـرن التاسـع عـر التـي قامـت عـى الكهربـاء، وازدادت كثافتـه مـع الثـورة الصناعيـة الثالثـة التـي بـدأت يف سـتينيات القـرن العريـن والتـي قادهـا الكمبيوتـر والتـي عرفـت بالثـورة الرقميـة.

ويف بدايـة القـرن الحـادي والعريـن أصبـح عـدد السـكان الذيـن يعيشـون يف املـدن يشـكلون نسـبة %50 مـن إجـايل عـدد سـكان العـامل 3.3( مليـار عـام )50()2008، ومـن املرجـح أن يرتفـع هـذا الرقـم إىل مـا يقـرب مـن %70 بحلـول عـام 2050، ليصـل إىل أكـر مـن 9 مليـارات نسـمة ، بينـا وصـل يف أوروبا

)51( بالفعـل إىل أكـر مـن %75 ليصـل عـام 2020 إىل %80 مـن السـكان يعيشـون يف املـدن ، وهـو مـا يخلق

)52( تحديـات معقـدة تتعلـق بـإدارة وتنظيم املـدن.)53(

دفـع ذلـك الـدول إلنشـاء مـدن عمالقـة تسـتوعب هـذا العـدد الكبـر مـن السـكان، مسـتفيدة مـن

القـدرات واإلمكانيـ­ات املاديـة والفنيـة التـي صاحبـت الثـورة التكنولوجي­ـة إلدارة هـذا العـدد الكبـر مـن البـر، بصـورة تحقـق االسـتدامة والفاعليـة والتنظيـم، ويعتـرب منـوذج املدينـة الذكية هـو النمـوذج األوضح واألكـر قبـوًال بـن النـاذج املختلفـة إلدارة املـدن العمالقـة. -2 اجتـذاب العقـول املبتكـرة: تسـعى الـدول الجتـذاب العقـول املبتكـرة القـادرة عـى تحقيـق النهضـة العلميـة واالقتصادي­ـة والتنميـة، حيـث أدركـت املـدن أنهـا يف منافسـة قويـة مع نظرائهـا من املـدن األخرى حـول العـامل، ومل تكـن هـذه املنافسـة عـى املسـتوى السـيايس أو العسـكري، ولكنهـا منافسـة اقتصاديـة باألسـاس مـع مـدن يف مناطـق أخـرى حـول العـامل، أوجدتهـا «شـبكات التوريـد العامليـة» ‪Global Sup�(‬ ‪)ply Networks‬ ؛ ف ـكل مدين ـة تس ـعى لالس ـتحواذ ع ـى النصي ـب األك ـرب م ـن خط ـوط التج ـارة العاملي ـة، سـواء كانـت بضائـع عـرب املوانـئ املالحيـة أو املطـارات، أو تدفقـات نقديـة عـرب البنـوك، أو صناعـات اسـرتاتيجي­ة، وذلـك بهـدف تحقيـق التقـدم االقتصـادي، ولـي ميكـن أن يتحقـق ذلـك البـد أن متتلـك العنـارص البريـة ذات املهـارات االسـتثنائ­ية والتـي تقـدم األفـكار اإلبداعيـة وغـر التقليديـة.)54(

دفـع هـذا الهـدف بعـض الـدول لتبنـي مفهـوم املدينـة الذكيـة، لـي تقدم نفسـها كنمـوذج حديـث قائم عـى مكتسـبات ثـورة الـذكاء االصطناعـي لتتمكـن مـن جـذب مختلـف الكفـاءات واملهـارات واملواهـب، وهـو االتجـاه الـذي تصاعـدت وترتـه عقـب األزمـة االقتصاديـ­ة العامليـة عـام 2008، حيـث انتقـل كثـر مـن األفـراد ذوي املهـارات االبتكاريـ­ة مـن بعـض املـدن، مثـل باريـس ونيويـورك ولنـدن إىل مـدن أخـرى اسـتطاعت أن تجذبهـم إليهـا بنموذجهـا الـذيك الجديـد.)55(

ومبعنـى آخـر، إذا أرادت دولـة مـا تخطيـط مدينة جديــدة، أو إذا أرادت مدينــة أن تنشــئ حيــاً جديــداً بهــا أو أن تزيــد معــدالت االســتثار­ات فيهــا، فــإن عليهــا أن تضــع بهــا املحفــزات التــي تجــذب الفئــة املسـتهدفة لـي تسـكن هـذه املدينـة، وإذا كانـت هذه الفئـة تتميـز باالبتـكار، فـإن منـوذج املدينـة الذكيـة هـو مبنزلـة مختـرب مفتـوح لألفـكار املبتكـرة وغـر التقليديـة .

وتعــد املــدن الذكيــة مركــز عمليــات لتطويــر القــدرات، فهــي منــوذج جــاذب ملختلــف املهــارات البريـة، سـواء مـن داخـل الدولـة أو مـن خارجهـا، واالحتــكا­ك داخــل املدينــة الذكيــة بــن عنــارص مختلفــة ذات مهــارات متطــورة ومتقدمــة، يجعــل عمليــة مشــاركة الخــربات واملعــارف أرسع وأســهل، ويخلـق مناخـاً يسـاعد األفـراد عـى اكتشـاف طاقاتهـم الكامنـة بداخلهـم، بـرط اتبـاع مبـادئ الحكـم اولقرــشدـ­يرةد،عمـــىا ايـالؤبتدـ­ـيكار. يفالنهايـة إىل تحسـن عمليـة التعليـم، وتطويـر مهـارات األفـراد، وجعلهـم أكـر ذكاًء -3 تحس ـن ج ـودة حي ـاة الب ـر: تهـدف الـدول مـن خـالل منـط املـدن الذكيـة إىل تحسـن جـودة الحيـاة البريـة داخلهـا عـرب إيجـاد حلـول مبتكـرة للمشـكالت التقليدية، مثـل مشـكالت التلـوث واالزدحام املـروري وهـدر الطاقـة، حيـث تسـتهلك املـدن مـا يـرتاوح بـن %60 و%80 مـن إجـايل الطاقـة املتاحـة، وهـي املصـدر الرئيـي املسـؤول عـن انبعاثـات الكربون والرصـاص والغـازات الضارة باإلنسـان والبيئـة ،

)56( لكـن التخطيـط الجيـد للمـدن، ودمـج التقنيـات الذكيـة يف الحيـاة اليوميـة يسـاعد ترشـيد االسـتفادة مـن املـوارد املتاحـة وتقليـل االنبعاثـا­ت الضـارة وتنظيـم حركـة السـر واملـرور.

تعـد التكنولوجي­ـا سـاحاً ذا حديـن، فكـام ميكـن اســتخدامه­ا فيــام يخــدم البريــة ويســاهم يف تطورهــا، فإنهــا تســتخدم أيضــاً يف تهديدهــا ودمارهــا، وقــد يــؤدي االعتــامد املتزايــد عــى التقنيـات التكنولوجي­ـة داخـل املدينـة الذكيـة إىل تزايــد أمنــاط بعــض الجرائــم، مثــل التحــرش واالبتــزا­ز اإللكــروي­ن، أو توظيــف الطابعـات ثاثيـة األبعـاد يف تصنيـع األسـلحة، ســواء مــن قبــل أفــراد عاديــن أو مــن قبــل جامعــات إرهابيــة، واســتخدام­ها يف عمليــة تقليــد املنتجــات وتزويــر التامثيــل والتحــف التاريخيــ­ة .

ومـن خـالل االسـتفادة مـن املبـادرات الذكيـة، يتمكـن األفـراد مـن الحصـول عـى الخدمـات كافة سـواء كانـت حكوميـة أو خاصـة وإنهـاء معامالتهـم اليوميـة بأفضـل جـودة ممكنـة ويف أقـرص وقـت وبأقـل مجهــود، كــا أن ذلــك يســاهم أيضــاً يف تحســن الخدمــات االســرتات­يجية األخــرى كالتعليــم والصحــة واملرافـق .

خامسًا: فرص وعوائد تأسيس المدن الذكية

تسـاهم املـدن الذكيـة يف التغلـب عـى املشـكالت التقليديـة التـي تواجـه املـدن الكـربى، مثـل مشـكالت التلـوث البيئـي، واالختنـاق املـروري، والفسـاد اإلداري، باإلضافـة إىل تحسـن جـودة الخدمـات املقدمـة لألفـراد وحسـن إدارة املـوارد وخفـض تكاليـف التشـغيل وتقليـل الهـدر يف الطاقـة وتحقيـق أعـى درجـات األمـان وخلـق منـاخ محفـز لالبتـكار التـي يـؤدي يف النهايـة إىل تحقيـق التنميـة.

وأشـار تقريـر صـادر عـن «بنـك أوف أمريـكا» يف عـام 2017 أن مـدن مثـل سـنغافورة ولنـدن ونيويورك وباريـس وطوكيـو ميكنهـا أن تخفـض معـدالت الجرائـم واسـتهالك الطاقـة أيضـاً بنسـبة %30 مـن خـالل زيـادة االسـتثار يف تقنيـات املـدن الذكيـة، كـا ميكنهـا أيضـاً أن تخفـض الهـدر يف الطاقـة واالزدحـام املــروري بنســبة %20 أيضــاً ، ويف هــذا

)57( اإلطـار تتمثـل أهـم الفـرص التـي يتيحهـا تأسـيس املـدن الذكيـة فيـا يـي: -1 مواجهــة التلــوث البيئــي: ميكــن للمــدن الذكيــة أن تســاعد يف خفــض االنبعاثــ­ات الكربونيــ­ة والحــد مــن مظاهـر التلـوث، وذلـك مـن خـالل تبنـي صناعــات نظيفــة ومبــاين صديقــة للبيئــة داخـل املدينـة الذكيـة، مـع االعتـاد عـى مـوارد نظيفـة للطاقـة كالكهربـاء والطاقـة الشمســية وطاقــة الريــاح وامليــاه، وتبنــي منـط مواصـالت ذكيـة، سـواء كانت بسـائق أو ذاتيـة القيـادة، تسـتخدم الكهربـاء والطاقـة الشمسـية بـدالً مـن الوقـود الـذي يتسـبب يف تلـوث البيئـة.

ومتتلـك املدينـة الذكيـة نظـاً إلدارة املخلفـات وتحويلهـا إىل طاقـة، وإعـادة تصنيـع املنتجـات لتكـون صديقـة للبيئـة، ومعالجـة ميـاه الـرصف واألمطـار والزراعـة إلعـادة اسـتخدامها، كـا تقـوم هـذه النظـم الذكيـة بالحفـاظ عـى املـوارد وتقليـل الهـدر يف الطاقـة، مثـل نظـم اإلنـارة الذكيـة، التـي تعمـل وقـت الحاجـة فقـط.

وتعمـل أجهـزة االستشـعار )Sensors( واملقاييـس الذكيـة املنتـرة داخـل املدينـة عـى رصـد درجـات التلــوث يف الهــواء واملــاء بصــورة فوريــة، وتقــوم بقيــاس درجــات الحــرارة والضغــط الجــوي ودرجــة االنبعاثـا­ت الكيميائيـ­ة والكربونيـ­ة وأماكـن تدفقهـا مبـا يسـاهم يف النهايـة يف التغلـب عـى مشـكلة التلوث وإدارة املخلفــات.)58( -2 التغلـب عـى االزدحـام املـروري: يقـدم منـوذج املدينـة الذكيـة إطـاراً عامـاً للتغلـب عـى االزدحـام املـروري، باالسـتفاد­ة مـن التقنيـات الذكيـة والحلـول التكنولوجي­ـة التـي تقـوم بتوفـر معلومـات دقيقـة وآنيـة عـن نقـاط االزدحـام املـروري وأسـبابه ومصـادره، عـرب جمـع البيانـات العمالقـة ‪)Big Data(‬ مـن نظـم االستشـعار املوجـودة يف الطرقـات وكامـرات املراقبـة )CCTV( وإشـارات املـرور الذكيـة التـي تعمل بصـورة ذاتيـة بنـاء عـى حجـم الكثافـات املروريـة، فمثـالً إذا ازداد عـدد السـيارات يف شـارع مقارنـة

بشـارع آخـر، فإنهـا تعطـي فرصـة أكـرب مـن الوقـت للشـارع املزدحـم بصـورة تلقائيـة.)59(

وال يحتـاج تبنـي نظـم املـرور الذكيـة إىل ضـخ اسـتثارات عمالقـة، حيـث يتـم فقـط نـر كامـرات وأجهـزة استشـعار يف الشـوارع والطرقـات وإنشـاء غـرف تحكـم وإدارة مركزيـة، مـن دون الحاجـة إىل إعـادة هيكلـة البنيـة التحتيـة للمدينـة، وبالطبـع سـيكون األمـر أسـهل وأكـر فاعليـة عنـد التخطيـط لبنـاء املـدن الجديـدة، وسـوف تسـاعد هـذه التقنيـات الذكيـة يف تسـهيل عمـل السـيارات ذاتيـة القيـادة داخـل املدينـة، مبـا توفـره لهـا مـن معلومـات دقيقـة وآنيـة حـول حالـة الطرقـات والسـيارات مـن حولهـا. -3 محاربـة الفسـاد اإلداري: تعتمـد املدينـة الذكيـة عـى نظـم إلكرتونيـة باألسـاس، فيحصـل األفـراد عى الخدمـات سـواء كانـت حكوميـة أو خاصـة مـن خـالل تطبيقـات ذكيـة، وال يتدخـل يف العمليـة العنـرص البـري بصـورة كبـرة، وهـو مـا يقلـل مـن احتاليـة وجـود شـبهات فسـاد، حتـى عنـد محاولـة التالعـب بالنظـام للقيـام بأعـال غـر قانونيـة، فـإن ذلـك يـؤدي إىل خلـل أو مشـكالت فنيـة ميكـن اكتشـافها وتحديـد املسـؤول عنهـا.)60(

وإذا دعـت الحاجـة لتدخـل العنـرص البـري، ميكـن تحديـد مسـتويات وصالحيـات لـكل موظـف ال يسـتطيع تخطيهـا، وعنـد حـدوث تخطـي إلحـدى التعليـات فـإن النظـام يتوقـف عـن العمـل، أو عـى األقـل تظهـر لـدى املسـؤولن أن هنـاك عمليـات غر مكتملــة متــت بواســطة هــذا املوظــف، مــن خــالل سـجالت الدخـول التـي تحفـظ األنشـطة التـي قـام بهـا املوظفـون عـى النظـام مـا يسـاعد عـى تحديد املوظفـن الفاسـدين عنـد محاولـة تالعبهـم بالنظام.

وتوفــر هــذه النظــم الذكيــة الوقــت والجهــد املهــدر يف االنتظــار لفــرتات طويلــة حتــى تنتهــي املعاملــة، حيــث يســتطيع العميــل أن يقــدم طلبــه مــن خــالل اإلنرتنــت أو الهاتــف الــذيك، وتحميــل املسـتندات املطلوبـة عـرب النظـام، ودفـع مصاريـف الخدمـة عـرب اإلنرتنـت، ثـم يحـدد النظـام موقـف هــذه املعاملــة ســواء بالقبــول أو الرفــض، ويف أي مكتـب هـي حاليـاً، والخطـوات القادمـة حتـى تنتهـي املعاملـة، ويف حالـة حـدوث تأخـر يف مـكان مـا يظهـر ذلـك للعميـل، حتـى ال تتوقـف معاملتـه يف أحـد املكاتـب البروقراطي­ـة دومنـا سـبب واضـح، وال يذهـب العميـل إىل املصلحـة إال يف الحاالت التي تسـتوجب رضورة حضــوره شــخصياً. -4 حفـظ األمـن داخـل املدينـة: تنتـر يف املدينـة الذكيـة نظم وكامـرات املراقبـة يف مختلـف األماكن، يف الشـوارع واملحـال التجاريـة واملؤسسـات الحكوميـة والخاصـة ويف مداخـل املبـاين السـكنية واملصاعـد، فتوجـد الكامـرات يف كل مـكان مـا عـدا األماكـن الشـخصية، مثـل الشـقق السـكنية وداخـل املكاتـب، بـل أن األفـراد أنفسـهم قـد يضعـون كامـرات شـخصية داخـل هـذه األماكـن أيضـاً، مـا يعنـي أن أي محاولـة لتهديـد األمـن باملدينـة هـي مراقبـة بالفعـل، ويف حالـة حـدوث جرميـة فيمكـن التوصـل إىل الجـاين يف أغلـب الحـاالت.

ميكـن التنبـؤ بإمكانيـة حـدوث جرميـة مـن خـالل هـذه النظـم الذكيـة مبـا يعطـي الفرصـة ملنعهـا قبل حدوثهـا، وذلـك مـن خـالل االعتـاد عـى «االسـتخبار­ات العلنيـة» ‪)Open Source Intelligen­ce(‬ التـي تعـرف اختصـاراً بــ “األوسـنت” )OSINT(، ويقصـد بهـا «إمكانيـة الحصـول عـى املعلومات االسـتخبار­اتية

تقــوم “االســتخبا­رات العلنيــة” بتحليــل الكــم الضخـم مـن البيانـات وربطهـا بقواعـد البيانـات الحكوميـة واألنظمـة األمنيـة بصـورة متزامنـة وآنيـة مـام يسـاعد يف الحصـول عـى مـؤرشات وتحليــات تُســهم يف الكشــف املبكــر لألزمــات ووضــع ســيناريوه­ات مســتقبلية للتعامــل معهــا ومواجهـة الجرائـم املختلفـة ومعرفـة اتجاهـات الرضـاء العـام يف وقتهـا الحقيقـي داخـل املدينـة الذكيــة مــام يســهم يف تحســن عمليــة اتخــاذ القــرار الســيايس واألمنــي وحفــظ االســتقرا­ر الســيايس .

مـن خـالل املصـادر العلنيـة وبالطـرق الرعيـة والقانونيـ­ة باالعتاد عـى نظـم إلكرتونية وبرامـج كمبيوتر عمالقة .)61(»

وتقـوم «االسـتخبار­ات العلنيـة» عـى فكـرة رئيسـية مفادهـا، أننـا نعيـش يف عـرص البيانـات العمالقـة ‪)Big Data(‬ ، التـي ميكـن الحصـول عليهـا مـن األقـار الصناعيـة، وكامـرات املراقبـة ومواقـع التواصـل االجتاعــي ومواقــع اإلنرتنــت، وتطبيقــات جمــع املعلومــا­ت الشــخصية والحســابا­ت البنكيــة، وأجهــزة االستشـعار الخاصـة بجمـع املعلومـات املنتـرة يف الشـوارع والسـيارات الذكيـة، فضـالً عـن املعلومـات املتواف ـرة يف الصح ـف والدوري ـات والقن ـوات التلفزيوني ـة ومحط ـات الرادي ـو، والكت ـب والدوري ـات.)62(

وتقـوم برامـج كمبيوتـر خاصـة بتحليـل هـذا الكـم الضخـم مـن البيانـات وربطهـا بقواعـد البيانـات الحكوميـة واألنظمـة األمنيـة بصـورة متزامنـة وآنيـة مـا يسـاعد يف الحصـول عـى مـؤرشات وتحليـالت تسـاهم يف الكشـف املبكـر عـن األزمـات ووضـع سـيناريوها­ت مسـتقبلية للتعامـل معهـا واملسـاهمة الفعالـة يف كشـف الجرائـم املختلفـة ومعرفـة مسـتويات الرضـاء العـام يف وقتهـا الحقيقـي داخـل املدينـة الذكيـة، مـا يسـهم يف تحسـن عمليـة اتخـاذ القـرار السـيايس واألمنـي وحفـظ االسـتقرار الداخـي. -5 جـذب االسـتثامر­ات وتحفيـز االبتـكار: تتميـز املدن الذكية بعـدة عنارص تجعلها جاذبة لالسـتثارا­ت األجنبيـة، مثـل تنظيمهـا الحـري املتميـز وبنيتهـا التحتيـة الذكيـة والعنـرص البـري املتعلـم ومصـادر الطاقـة النظيفـة، فضـالً عـن ثقافتهـا الكوزموبول­يتانيـة واالنفتـاح عـى العـامل، فتصبـح ليـس فقـط محـط أنظـار االسـتثارا­ت األجنبيـة، بـل أيضـاً مدينـة سـياحية بسـبب رغبـة األفـراد يف رؤيـة التقنيـات الحديثـة املتوافـرة يف املدينـة وتجربتهـا.

ويـؤدي انتشـار املعامـل املفتوحـة وحاضنـات األفـكار داخـل املدينـة، وإتاحـة الفرصـة لالسـتفادة مـن أحـدث التقنيـات يف مجـال النقـل واالتصـاال­ت واإلدارة واملعيشـة، إىل خلـق منـاخ محفـز لالبتـكار، يعطـي الفرصـة للمبتكريـن ورواد األعـال لإلبـداع عـى كافـة املسـتويات، التكنولوجي­ـة والعلميـة والفنيـة وغرها، وهـو مـا ينعكـس يف النهايـة عـى تحقيـق مفهـوم التنميـة الشـاملة داخـل املدينـة.)63( -6 تعزيـز كفـاءة إدارة املـوارد: تهتـم املـدن الذكيـة بحسـن إدارة املـوارد املتاحـة، خاصـة املـوارد النـادرة، وتشـمل هـذه املـوارد األرايض ومصـادر الطاقـة وامليـاه واملـوارد الطبيعيـة، فعـى سـبيل املثـال، تحـاول هذه املـدن تقديـم حلـول أفضـل السـتغالل املسـاحات مـن خـالل مراعـاة تصميـم املبـاين ومواقـف السـيارات لتسـتوعب أكـرب قـدر ممكـن مـن األفـراد، مـع مراعـاة توافـر مسـاحات خـراء وأخـرى بينيـة تحافـظ عـى املدينـة مـن التلـوث واالزدحـام. كـا تسـاهم التقنيـات اإلدارة الشـاملة للمـوارد املائيـة باملـدن الذكيـة يف التحكـم يف درجـة الفقـد والتلـوث وجـودة امليـاه، فضـالً عـن الوقايـة مـن الفيضانـات والكـوارث األخـرى ذات الصلـة بامليـاه، مبـا يف ذلـك القـدرة عـى التعامـل مـع هـذه الكـوارث بأقـى رسعـة ممكنـة.)64(

سادسًا: تحديات اإلنشاء واإلدارة

تنقسـم التحديـات الرئيسـية التـي تواجـه املـدن الذكيـة يف فئتـن أساسـيتن، أوالهـا تتعلـق باملتطلبـا­ت الـالزم توافرهـا عنـد إنشـاء املـدن الذكيـة نفسـها، بينـا ترتبـط ثانيتهـا باإلشـكالي­ات التـي تصاحـب إدارة املـدن الذكيـة وتشـغيلها بعـد االنتهـاء مـن بنائهـا، وهـو مـا ميكـن تفصيلـه فيـا يـأيت: -1 متطلبـات التصميـم واإلنشـاء: ميكـن تحديـد أبـرز املتطلبـات التـي تواجـه عملية إنشـاء املـدن الذكية يف العنـارص التالية:

أ- توافـر رؤيـة واضحـة: يعتـرب أحـد املتطلبـات املهمـة عنـد الـروع يف بنـاء املـدن الذكيـة توافـر نظـام لـإلدارة الحكوميـة داخـل الدولـة يتسـم بالرشـادة ووضـوح الرؤيـة للمسـتقبل، فهـو عامـل مهـم يسـاهم يف تحديـد الهـدف مـن املدينـة الذكيـة والرؤيـة العامـة لهـا، والتصـور النهـايئ ملـا يجـب أن تكـون عليـه هـذه املدينـة، مـن حيـث طبيعـة النشـاط االقتصـادي املرجـو تحقيقـه، ونوعيـة الخدمـات املقدمة للسـكان ومدى جودتهـا، ودورهـا يف خدمـة القطاعـات املختلفـة بالدولـة، سـواء كانـت اقتصاديـة أو اجتاعيـة أو غرهـا، وعالقتهـا بالحكومـة املركزيـة وباملـدن األخـرى داخـل الدولـة، فضـالً عـن حسـن إدارة املـوارد املخصصـة لبنـاء املـدن الذكيـة وتوجيههـا يف األغـراض الحقيقيـة املخصصـة لهـا.)65( ب- إطـار تريعـي متكامـل: يسـتلزم إنشـاء املـدن الذكيـة وجـود تريعـات تحكـم االسـتثار يف هـذا املجـال، ومتثـل إطـاراً قانونيـاً، يحكـم العالقـة بـن الدولـة والـركات املصنعـة واملـوردة للتقنيـات الذكيـة للمدينـة، مبـا يشـجع عـى االبتـكار ويسـهل عمليـة االسـتثار ويحفـظ الحقـوق للجميـع. وتتنـاول هـذه التريعـات املعايـر واملواصفـا­ت القياسـية للتقنيـات املـوردة للمدينـة أو املصنعـة فيهـا، وآليـة الحصول عى املعلومـات داخـل املدينـة، ويضمـن الحفـاظ عـى بيانـات األفـراد وعـدم انتهـاك خصوصيتهـم، وغرهـا مـن القضايـا املتعلقـة بإنشـاء هـذه املـدن وتشـغيلها.)66( ج- متويـل ضخـم نسـبياً: يتطلـب إنشـاء هـذا النـوع مـن املـدن توافـر مـوارد اقتصاديـة وممولـن، حيـث تسـاهم يف إنشـاء املدنيـة الذكيـة إىل جانـب الحكومـة رشكات االتصـاالت وتكنولوجيا املعلومـات واملنظات الدوليـة واإلقليميـ­ة املعنيـة بهـذا املجـال، وحسـب املـوارد االقتصاديـ­ة املوجـودة ميكـن التحكـم يف تخطيـط املدينـة، مـن حيـث حجمهـا والهـدف مـن إنشـائها وعدد السـكان بهـا، فقد تكـون مدينـة مليونية، تسـتوعب عـدداً كبـراً مـن األفـراد املقيمـن إقامـة دامئـة فيهـا، وقـد يتـم إنشـاء مدينـة ذكيـة محـدودة، لخدمـة قطـاع معـن، مثـل املوانـئ أو الطاقـة، مبـا يتسـم بـه هـذا النـوع مـن املـدن مـن عـدم وجـود عـدد كبـر مـن السـكان، بـل يقتـرص فقـط عـى السـكان الذيـن لديهـم ارتباطـات داخـل املدينـة، ومـن ثـم متثـل املـوارد االقتصاديـ­ة محـدداً رئيسـياً لحجـم وشـكل وهـدف املدينـة الذكيـة.)67( د- بنيــة تحتيــة متطــورة: يعتــرب أحــد التحديــات الرئيسـية التـي تواجـه املـدن الذكيـة، بـل هـو التحدي األصعــب واألكــر اســتهالكاً للمــوارد االقتصاديـ­ـة، وذلــك ملــا تتطلبــه البنيــة التحتيــة مــن إحــالل أو تطويـر أو إنشـاء مـن البدايـة، حتـى تكـون مسـايرة للتطـورات التكنولوجي­ـة الالزمـة إلدارة الحيـاة داخـل املــدن الذكيــة، ســواء عــرب مــد شــبكات اتصــاالت سـلكية والسـلكية وإنشـاء محطـات طاقـة للسـيارات الكهربائيـ­ة وطرقـات مالمئـة للسـيارات ذاتيـة القيادة وأماكـن انتظـار ذكيـة للسـيارات، ومحطـات إلعـادة تدويــر املخلفــات لتوليــد الطاقــة للمدينــة لــي تصبــح مدينــة ذاتيــة االســتهال­ك للطاقــة وغرهــا مــن متطلبـات البنيـة التحتيـة املتقدمـة. -2 إشكاليات التشغيل واإلدارة: تتمثل اإلشكاليات التي تواجه تشغيل وإدارة املدن الذكية فيا يي: أ- الحاجـة إىل توحيـد املعايـر: تعـد مشـكلة توحيـد املعايـر مـن أهـم تحديـات تشـغيل املـدن الذكيـة، وذلـك ألن كل رشكـة تقـوم بتطويـر النظـم والتقنيـات الخاصـة بهـا مبعـزل عـن غرهـا، مـا يـؤدي إىل ظهـور مشـكالت كـربى تتعلـق بتناغـم وتجانـس النظـم املختلفـة مـع بعضهـا البعـض، وينتـج عـن ذلـك مشـكالت تشـغيلية، ومـن األمثلـة عـى ذلـك معايـر تطويـر إنرتنـت األشـياء وأجهـزة االستشـعار­ات وجمـع املعلومـات ومنصـات تـداول املعلومـات عـرب قواعـد البيانـات.)68(

تتمثــل التهديــدا­ت التقليديــ­ة يف اســتهداف البنيــة التحتيــة ملدينــة وخدماتهــا الحكوميــة، والتجســس عــى الهيئــات واملؤسســا­ت واألفــراد، وشـن حـروب إلكرونيـة، باإلضافـة إىل الـراع لاســتحواذ عــى الفضــاء اإللكــروي­ن وبســط الســيطرة عليــه ألغــراض املراقبــة والتجســس وتهديــد التجــارة اإللكرونيـ­ـة والقطاعــا­ت االقتصاديـ­ـة الحيويــة يف املدينــة.

ب- إشـكالية جمـع البيانـات: تثـر عمليـة جمـع البيانـات مـن قبـل القامئـن عـى إدارة املـدن الذكيـة حفيظـة بعـض األفـراد، الذيـن قـد يرفضـون مشـاركة بياناتهـم الشـخصية داخـل املدينـة ألسـباب تتعلـق بالحافــظ عــى الخصوصيــة، فمثــالً قــد يرفضــون مشــاركة موقعهــم الجغــرايف عــرب «نظــام تحديــد املواقـع» )GPS( أو إعطـاء معلومـات حـول مواعيدهـم وأماكـن تواجدهـم داخـل املدينـة. وهـذه املعلومـات قـد تكـون مهمـة لعمليـة تشـغيل املدينـة، ومعرفـة أماكـن الـذروة واالزدحـام مثـالً، ما يسـاعد عـى تحديد وقـت التأخـر املتوقـع والطرقـات البديلـة التـي ميكـن السـر فيهـا، وغرهـا مـن املعلومـات. ج- تحـدي مشـاركة البيانـات: تظهـر يف بعـض الحـاالت مشـكالت تتعلـق مبشـاركة البيانـات، سـواء داخـل املدينـة نفسـها، أو بـن املدينـة وغرهـا مـن املـدن الذكيـة داخـل الدولـة، فنجـد صعوبـة مثـالً يف مشـاركة البيانـات التـي تجمعهـا الـركات مـع البيانـات التـي تجمعهـا بلديـة املدينـة أو الحكومـة، أو مشـاركة كافـة البيانـات املتعلقـة باملدينـة مـع مدينـة أخـرى بجوارهـا، وذلـك بسـبب اختـالف النظـم أو املعايـر الخاصـة بتطويـر تقنيـات هـذه املدينـة، وهـو مـا يؤثـر يف النهايـة عـى عمليـة اتخـاذ القـرار داخـل املدنيـة، ومـن ثـم جـودة الحيـاة بداخلهـا.)69( د- املسـؤولية االجتامعيـ­ة للـركات: تعتـرب املدينـة الذكيـة بـؤرة تجمـع التكنولوجي­ـات املتقدمـة يف العامل، وهنـا تظهـر املسـؤولية االجتاعيـة للـركات يف القيـام بعمليـات التطويـر والتحديـث الـالزم للمدينـة، مبـا يلبــي احتياجــات الســكان املحليــن، وتقديــم أفــكار ومروعــات تســاعد يف تحسـن جـودة الحيـاة داخلهـا. هــ- تأهيــل العنــر البــري: تتطلـب املدينـة الذكيـة توافـر عنـرص بــري متعلــم وقــادر عــى توظيــف التكنولوجي­ـا الحديثـة واسـتخدامه­ا، بل وتطويرهـا وتحسـينها، إذ إنهـا تحتـاج إىل األذكيــاء يف املجــاالت املختلفــة، ســواء مــن داخــل الدولــة أو مــن خارجهـا، ومـن ثـم فهنـاك مواصفات يتســم بهــا العنــرص البــري القــادر ع ـى العي ـش يف ه ـذه املدين ـة، وهن ـا تظهـر مسـؤولية اجتاعيـة عـى جميع األفـراد بداخـل املدينـة تتمثـل يف املحافظـة عـى الخدمات املقدمـة لهم واملشـاركة يف عمليـة إدارة وتطوير املدينــة، بصــورة تعكــس الحوكمــة وحســن اإلدارة.

سابعًا: تغير طبيعة التهديدات األمنية

اتجهـت العديـد مـن دول العـامل لتبنـي منـاذج الحكومـات واملـدن الذكيـة، بهدف تحسـن جـودة الخدمات التـي تقدمهـا للمواطنـن وتحقيـق أكـرب اسـتفادة ممكنـة مـن املـوارد، وتعتمـد يف ذلـك بصـورة أساسـية عـى منصـات التخزيـن السـحابية وتطبيقـات اإلنرتنـت ونظـم الـذكاء االصطناعـي، فالـذي يديـر نظـم االتصـاالت واملواصـال­ت ومحطـات الطاقـة وكافـة الخدمـات الحكوميـة هـي نظـم ذكيـة صديقـة للبيئـة وموفـرة للطاقـة، ولكنهـا يف نفـس الوقـت تثـر العديـد مـن املخـاوف والتهديـدا­ت.

فمـن ناحيـة، قـد تتسـبب الهجـات اإللكرتوني­ـة التـي تسـتهدف البنيـة التحتية للمدينـة الذكيـة يف قتل عـدد كبـر مـن األفـراد يف دقائـق معـدودة، مثـل الهجـات اإللكرتوني­ـة التـي قـد تصيـب قطـاع الطـران

أو السـكك الحديـدة أو السـيارات ذاتيـة القيـادة أو املستشـفيا­ت أو الكبـاري آليـة الفتـح والغلـق لعبـور السـفن، أو إشـارات املـرور، مـا يهـدد األمـن القومـي للدولـة وبصـورة مبـارشة.

ويف حالـة دخـول الدولـة يف حالـة رصاع مـع غرهـا مـن الفاعلـن الدوليـن، تصبـح البنيـة التحتيـة الحرجـة للدولـة مهـددة بـأن يتـم اخرتاقهـا إلكرتونيـاً، لذلـك فـإن الـدول رشعـت يف تغيـر اسـرتاتيجي­ة أمنهــا القومــي بحيــث تتضمــن مفاهيــم، مثــل القــوة اإللكرتوني­ــة والــردع اإللكــرتو­ين والــرصاع اإللكـرتوي­ن)70(، وذلـك نظـراً لتعـدد األهـداف اإللكرتوني­ـة التـي ميكـن اسـتهدافها داخـل الدولـة، وهـو مـا يعنـي أنـه يف حالـة حـدوث رصاعـات دوليـة، فإنـه صـار مـن املؤكـد أن الحـرب اإللكرتوني­ـة Cy�( ‪)ber Warfare‬ سـوف تكـون أحـد أبعادهـا، مبـا يحملـه ذلـك مـن تهديـد لألمـن القومـي للدولـة بصـورة مبـارشة .

ومـن ناحيـة أخـرى، تعـد املدينـة الذكيـة بيئـة مهيـأة للجرائـم اإللكرتوني­ـة بكافـة أشـكالها، سـواء كانـت تزويـراً أو قرصنـة أو ابتـزازاً أو تحرشـاً، وتعتـرب يف الوقـت نفسـه هـذه املدينـة مركـزاً جاذبـاً للقرصنـة اإللكرتوني­ـة مـن قبـل جاعـات الجرميـة املنظمـة الباحثـة عـن الـروة، مـن خـالل اخـرتاق الحسـابات البنكيـة واملصـارف وبطاقـات االئتـان، بـل أنهـا قـادرة عـى تهديـد القطـاع املـايل كلـه، ليـس يف املدينـة فقـط، بـل يف الدولـة بأكملهـا، نظـراً ألنـه متصـل ببعضـه البعـض مـن خـالل الشـبكات، مـا يهـدد االقتصـاد القومـي يف النهايـة.

ويف ضـوء مـا سـبق، ميكـن القـول إن مصـادر تهديــد األمــن القومــي للمــدن الذكيــة تتمثــل يف نوعـن أساسـين من التهديـدات، وهـا: التهديدات التقليديـة وغـر التقليديـة، وهـو مـا ميكـن تفصيلـه عـى النحـو التـايل: -1 التهديــدا­ت التقليديــ­ة: تتمثــل التهديــدا­ت التقليديـة يف تهديـد البنيـة التحتيـة للمدينـة الذكيـة وخدماتهــا الحكوميــة، فضــالً عــن التجســس عــى الهيئــات واملؤسســا­ت واألفــراد، وشــن حــروب إلكرتونيـة، باإلضافـة إىل الـرصاع لالسـتحواذ عـى الفضـاء اإللكـرتوي­ن وبسـط السـيطرة عليـه ألغـراض املراقبــة والتجســس وتهديــد التجــارة اإللكرتوني­ــة والقطاعــا­ت االقتصاديـ­ـة الحيويــة يف املدينــة، وميكــن توضيــح ذلــك يف التــايل: أ- اسـتهداف البنيـة التحتيـة الحرجـة: تتسـم البنيـة التحتيـة للمدينـة الذكيـة باعتادهـا عـى تقنيـات ذكيـة تتطلـب االتصـال بخدمـات اإلنرتنـت بصـورة مسـتمرة، مثـل محطـات الطاقـة ومصـايف البـرتول واملفاعـال­ت النوويـة ومصانـع الكيمياويـ­ات وأنظمـة املستشـفيا­ت والخدمـات املاليـة واملرصفيـة ونظـم االتصــاال­ت واملواصــا­لت واملــرور والبــث التليفزيــ­وين واإلذاعــي واملالحــة الجويــة والبحريــة واألقــار الصناعيـة، حيـث إن اسـتهداف هـذه النظـم قـد يـؤدي إىل إيقـاع آالف الضحايـا يف دقائـق.)71(

فمثـالً إذا تـم اسـتهداف «نظـام التموضـع العاملـي» )GPS(، والـذي تعتمـد عليـه قطـاع املواصـالت بصـورة كبـرة، كالطائـرات، أو السـيارات ذاتيـة القيـادة، أو تـم اخـرتاق نظـم إدارة املـرور والتالعـب باإلشـارات املروريـة، فـإن ذلـك قـد يـؤدي إىل وقـوع العديـد مـن القتـى والوفيـات، بـل ووقـف الحركـة بصـورة كاملـة داخـل املدينـة، ناهيـك عـن الخسـائر االقتصاديـ­ة املرتفعـة املرتتبـة عـى ذلـك.

تعــد مســألة الخصوصيــة الشــخصية أحــد أهــم اإلشــكالي­ات الجدليــة التــي تواجــه املدينــة الذكيـة، نظـراً للمخـاوف مـن تعرضهـا لاخـراق الداخـي أو الخارجـي، سـواء مـن قبـل جامعـات الجرميــة املنظمــة، أو الــدول املعاديــة. فجميــع بيانــات األفــراد موجــودة يف صيغــة رقميــة عـى الوسـائط املختلفـة مثـل أنظمـة التخزيـن الســحايب، أو الهواتــف الذكيــة. وتتمثــل هــذه البيانــات يف بطاقــات االئتــامن ومواقعهــم الجغرافيـة ومسـتنداته­م وبياناتهـم الحيويـة مـن بصمـة األيـدي وبصمـة الوجـه وبيانـات الحالـة الطبيــة وغرهــا.

وتكــون الخســائر أكــرب عنــد اســتهداف محطــات الطاقــة والوقــود، والتــي يف حالــة اخرتاقهــا أو تدمرهـا، سـوف ترتتـب عليهـا خسـائر اقتصاديـة كبـرة، نظـراً ألن مظاهـر الحيـاة كافـة باملـدن تعتمـد عـى الطاقـة بصـورة رئيسـية.)72(

وقــد بثــت وزارة األمــن الداخــي األمريــي فيديــو ألحــد االختبــار­ات التــي أجرتهــا ونجــح فيهــا القراصنـة يف اسـتهداف مولـد كهربـاء عـرب فـروس كمبيوتـر، حيـث اسـتطاع الفـروس إربـاك الـرتددات الكهربائيـ­ة التـي يعمـل عليهـا املولـد، مـا تسـبب يف النهايـة يف انفجـاره ، كـا أن معظـم قطاعـات

)73( الطاقـة الحرجـة مثـل الكهربـاء والبـرتول والسـدود ومحطـات الطاقـة النوويـة تعمـل بــ «نظـام التحكـم اإلرشايف وتحصيـل البيانـات»، واملعـروف اختصـاراً باسـم «سـكادا» )SCADA(، وهـي نظـم كمبيوتريـة عمالقـة يتـم اسـتخدامها إلدارة املحطـات الكـربى والسـيطرة عليهـا، فـإذا تـم اخرتاقهـا فـإن العواقـب سـتكون كارثيـة.)74(

ومــن جانــب آخــر، فــإن كافــة الخدمــات الحكوميــة باملدينــة الذكيــة معرضــة للتهديــد، حيــث يتــم الحصـول عـى جميـع الخدمـات، وإنهـاء كافـة املعامـالت الحكوميـة فقـط مـن خـالل الهواتـف واإلنرتنت، مـا يعنـي أن تعـرض هـذه الخدمـات لهجمـة إلكرتونيـة ناجحـة ميكـن أن يتسـبب يف شـلل املعامـالت الحكوميـة وأيضـاً توقـف العمـل باملؤسسـات الرسـمية للدولـة وتـرر ماليـن املواطنـن. ب- تهديـد النظـم املاليـة واملرفيـة: ميثـل االعتـاد عـى التقنيـات الذكيـة يف النظـم املاليـة واملرصفيـة سـالحاً ذا حديـن يف املـدن الذكيـة، فهـي مـن ناحيـة تسـاهم يف رسعـة إنهـاء املعامـالت املاليـة وإجـراء التحويـالت النقديـة برسعـة، مبـا يسـاهم يف تنشـيط االسـتثارا­ت ودفـع عجلـة التنميـة، ولكـن مـن ناحيـة أخــرى يرتتــب عــى اخــرتاق هــذه النظــم تهديــدات الســتقرار املعامــال­ت املاليــة وانتقــاص مــن قــدرة املدينـة عـى تحقيـق أحـد أهـم أهدافهـا، وهـو املسـاهمة يف تحسـن الوضـع االقتصـادي للدولـة ودفـع عجلـة التنميـة. وملـا كانـت املدينـة الذكيـة مركـزاً ماليـاً واقتصاديـاً باألسـاس، فـإن نجـاح القراصنـة يف اخـرتاق هـذه النظـم، سـينتج عنـه تحويـل مليـارات مـن الـدوالرات مـن مختلـف حسـابات العمـالء يف ثـواٍن معـدودة، وبخـالف الخسـائر املاليـة التـي ترتتـب عـى ذلـك، فـإن هنـاك تهديـدات أمنيـة أيضـاً تتمثـل يف احتاليـة اسـتخدام هـذه األمـوال يف متويـل أنشـطة غـر رشعيـة أو حـركات إرهابيـة.)75(

وعـى الرغـم مـن اتخـاذ البنـوك واملؤسسـات املاليـة اإلجـراءات األمنيـة كافـة التـي تحفـظ حسـابات عمالئهـا مـن محـاوالت االخـرتاق، فـإن العنـرص األضعـف يف عمليـة التأمـن هـو العميـل نفسـه، فقـد يقع عـدد كبـر مـن األفـراد حـول العـامل ضحيـة احتيـال إلكـرتوين، مـن خـالل إرسـال رسـائل مـزورة للعمـالء تطلـب منهـم تحديـث بياناتهـم البنكيـة، ومـن ثـم االسـتيالء عليهـا. ج- اخــراق أجهــزة إنرنــت األشــياء: تنتــر أجهــزة إنرتنــت األشــياء ‪)Internet of things(‬ وأجهــزة االستشـعار )Sensors( يف املدينـة الذكيـة بصـورة كبـرة، داخـل املؤسسـات والـركات واملنـازل واملطاعـم واملقاهـي، بـل والشـوارع أيضـاً. فهـي مـن دعائـم بنـاء املـدن الذكيـة، وهـذا يعنـي إمكانيـة إنشـاء جيـش عمـالق مـن مليـارات األجهـزة ضعيفـة التأمـن، سـهلة االخـرتاق، منتـرة يف كل األماكـن، وجميعها متصل باإلنرتنـت، فـإذا تـم اخـرتاق هـذه األجهـزة والسـيطرة عليهـا، وحقنهـا بالفروسـات والديـدان وأحصنـة طـروادة، فإنهـا سـتتحول مبـارشة إىل جيـش مسـلح قـادر عـى تدمـر البنيـة التحتيـة الحرجـة كالبنـوك ومحطـات الطاقـة والسـدود واملستشـفي­ات وقطـاع االتصـاالت، أو حتـى تعطيل الخدمـات املاليـة واملرصفية ووقـف جميـع الخدمـات الحكوميـة، بـل ميكـن أن يتسـبب يف تدمـر شـبكة اإلنرتنـت نفسـها.)76( د- اسـتهداف نظـم الـذكاء االصطناعـي: تعتمـد املدينـة الذكيـة عـى تقنيـات الـذكاء االصطناعـي، مثـل نظـم «الروبوتكـس» )Robotics( يف املصانـع والـركات واملحـال التجاريـة ونظـم الـرد اآليل عـى العمالء،

وأيضـاً السـيارات ذاتيـة القيـادة والطائـرات مـن دون طيـار، فـإذا تـم اخـرتاق هـذه النظـم، فيمكـن إعادة توجيـه السـيارات ذاتيـة القيـادة، عـى سـبيل املثـال، السـتهداف املدنيـن، مـع صعوبـة معرفـة الجـاين الحقيقـي املتسـبب يف ذلـك. وباملثـل ميكـن، ولـو نظريـاً أيضـاً، السـيطرة عـى جيـوش مـن الطائـرات بـدون طيـار والروبوتـا­ت وإعـادة توجيههـا لتقـوم مبهـام القتـل والتدمـر، بصـورة تجعـل محاولـة اخـرتاق هـذه النظـم مـن أخطـر التهديـدات التكنولوجي­ـة التـي ميكـن أن يتعـرض لهـا البـر.)77( هــ- اخـراق منصـات التخزيـن السـحابية: تعتـرب منصـات التخزيـن السـحابية ‪)Cloud Storage(‬ أحـد مراكــز إدارة املدينــة الذكيــة، فهــي البوتقــة التــي تجتمــع فيهــا كافــة املعلومــا­ت القادمــة مــن أجهــزة االستشـعار املنتـرة بكافـة أرجـاء املدينـة، واملعلومـا­ت القادمـة مـن املؤسسـات الحكوميـة، حيـث يتـم ربط هـذه البيانـات ببعضهـا البعـض لتحسـن عمليـة اتخـاذ القـرار وخفـض تكلفـة الدعـم الفنـي والتقنـي. وعـى الرغـم مـن مميزاتهـا العديـدة، فـإن هنـاك شـكوكاً حـول مسـألة تأمـن هـذه املنصـات، فـإذا تـم اخرتاقهـا وترسيـب البيانـات املوجـودة عليهـا، فـإن ذلـك قـد يرتتـب عليـه اخـرتاق املعلومـات الحساسـة التابعـة ملختلـف القطاعـات بدايـة مـن الـدول ونهايـة باألفـراد العاديـن. و- ظهـور أمنـاط جديـدة مـن الجرائـم: تعـد التكنولوجي­ـا دامئـاً سـالحاً ذا حديـن، فكا ميكن اسـتخدامها فيـا يخـدم البريـة ويسـاهم يف تطورهـا، فإنهـا تسـتخدم أيضـاً يف تهديدهـا، وقـد يـؤدي االعتـاد املتزايـد عـى التقنيـات التكنولوجي­ـة داخـل املدينـة الذكيـة إىل تزايـد أمنـاط بعـض الجرائـم مثـل التحـرش واالبتـزاز اإللكـرتوي­ن، أو ظهـور بعـض الجرائـم غـر املسـبوقة، فمثـالً ميكـن توظيـف الطابعـات ثالثيـة األبعـاد يف تصنيـع األسـلحة، سـواء مـن قبـل أفـراد عاديـن أو مـن قبـل جاعـات إرهابيـة، أو اسـتخدامها يف تقليـد املنتجـات، مبـا ينتهـك حقـوق امللكيـة الفكريـة التـي تنص عليهـا املواثيـق الدوليـة، أو اسـتخدامها يف تزويـر التاثيـل والتحـف التاريخيـة.)78(

وميكـن كذلـك اسـتخدام الدرونـز التجاريـة يف تهديـد سـالمة املواطنـن عـرب تحميلها بأسـلحة موجهة أو قنابـل أو تهديـد حركـة املالحـة الجويـة واعـرتاض الطائـرات املدنيـة، أو عـى األقـل تهديـد خصوصيـة املواطنـن عـرب تصويرهـم بالكامـرات املوجـودة عـى هـذه األنـواع مـن الطائـرات مـن دون طيـار.)79( ز- مشـكات تقنيـة يف الربمجيـات واألجهـزة: املدينـة الذكيـة هـي مدينـة تقنيـة باألسـاس، تقـوم عـى اسـتخدام أجهـزة وكابـالت وبرمجيـات، ويظـل احتـال تعـرض هـذه األدوات للعطـب أو التلف أو التشـويش احتـاالً قامئـاً، فقـد تتعطـل بعـض األجهـزة واملعـدات عـن العمـل ألسـباب تقنيـة، أو حتـى ألسـباب متعلقـة بالبيئـة املوجـودة فيهـا، كارتفـاع درجـة الحـرارة مثـالً، أو تدمرهـا كليـاً نتيجـة كارثـة طبيعيـة أو تدمرهـا عـن طريـق تدخـل بـري متعمـد بهـدف إحـداث تلفيـات وأرضار يف نظـام عمـل املدينـة، أو يحـدث خلـل بالربمجيـا­ت التـي تنظـم آليـة العمـل باملدينـة أو خلـل يف شـبكات االتصـاالت وشـبكات اإلنرتنت الالسـلكية أو نظـم تحديـد املواقـع الجغرافيـة، مبـا يـؤدي يف النهايـة إىل عرقلـة سـر الحيـاة الطبيعيـة باملدينـة.)80( -2 التهديـدات غـر التقليديـة: تتمث ـل التهدي ـدات غ ـر التقليدي ـة يف الس ـعي لتغي ـر منظوم ـة قي ـم املجتمـع الـذيك لـي يصبـح كزموبوليتا­نيـاً، مـا قـد يـؤدي إىل احتقـان مجتمعـي داخـي، باإلضافـة إىل اخـرتاق خصوصيـة األفـراد وتقييـد حريتهـم، وميكـن توضيـح ذلـك يف التـايل: أ- احتامليـة الرفـض املجتمعـي: تسـتقطب املدينـة الذكيـة النخـب واملتميزيـ­ن يف مختلـف املجـاالت، سـواء مـن داخـل الدولـة أو خارجهـا، فهـم الهـدف الحقيقـي مـن نشـأة املدينـة، وعندمـا يتـم تحويـل مدينـة قدميـة مبعاملهـا وسـكانها األصليـن إىل مدينـة ذكيـة، تسـتقبل ثقافـات مختلفـة، وقـد ال يتقبـل املجتمع هذه الفكـرة يف بدايتهـا، خاصـة يف املجتمعـات التـي تـزداد فيهـا القومية الوطنيـة، وترفض أن يحصـل األجانب فيهـا عـى الوظائـف العليـا، مـا قـد يعـرض املجتمـع لحالـة احتقـان داخـي ورفـض للثقافـات الوافـدة، وإذا كان ظهـور هـذه التحـدي وارداً يف املـدن التـي تـم تحويلهـا إىل ذكيـة، فإنـه مـن املسـتبعد حدوثـه يف

املـدن التـي يتـم تأسيسـها ألول مـرة، حيـث تكـون خاليـة مـن السـكان األصليـن الذيـن قـد تكـون لديهـم تحفظـات عـى الثقافـات األخـرى الدخيلـة عليهـم. ب- اخ ـراق خصوصي ـة األف ـراد: تعت ـرب مس ـألة الخصوصي ـة الش ـخصية م ـن أه ـم اإلش ـكاليات الجدلي ـة التـي تواجـه املدينـة الذكيـة، وذلـك نظـراً للمخـاوف مـن تعرضهـا لالخـرتاق الداخـي أو الخارجـي، سـواء مـن قبـل جاعـات الجرميـة املنظمـة، أو الـدول املعاديـة. فجميـع بيانـات األفـراد موجـودة يف صيغـة رقميـة عـى الوسـائط املختلفـة مثـل أنظمـة التخزيـن السـحايب، أو الهواتـف الذكيـة. وتتعلـق هـذه البيانات ببطاقـات االئتـان ومواقعهـم الجغرافيـة ومسـتنداته­م وبياناتهـم الحيويـة مـن بصمـة األيـدي وبصمـة الوجـه وبيانـات الحالـة الطبيـة وغرهـا.

وتتوافـر جميـع هـذه البيانـات لـدى الـركات التـي تعمـل يف املدينـة الذكيـة، مـا يعنـي اخـرتاق خصوصيــة األفــراد بشــكل مبــارش مــن قبــل الــركات املشــغلة للمدينــة، فضــالً عــن انتشــار كامــرات املراقبـة وجمـع البيانـات يف مختلـف الشـوارع واملبـاين، فاألفـراد دامئـاً مراقبـون مـن قبـل املؤسسـات املعنيـة بتشـغيل املدينـة والحفـاظ عـى األمـن بداخلهـا، وهنـا تظهـر الجدليـة التقليديـة مـا بـن الحفـاظ عـى خصوصيـة األفـراد أو الحفـاظ عـى أمنهـم.)81( ج- تهديـد العمليـة الدميقراطي­ـة: تعمـل املدينـة الذكيـة عـى تركيـز جميـع املـواد واملعلومـا­ت والبيانات يف يـد جهـة واحـدة، هـي التـي تتحكـم يف إدارة املدينـة، سـواء كانـت الحكومـة املحليـة أو املركزيـة أو غرهـا، فهـذه الجهـة تسـتطيع التعـرف وبدقـة شـديدة عـى اهتامـات األفـراد وأولوياتهـ­م وتفضيالتهـ­م من خالل تحليـل البيانـات العمالقـة الـواردة مـن مختلـف املنصـات اإللكرتوني­ـة باملدينـة، وبالتـايل ترتكـز السـلطة يف يـد هـذه الجهــة وحدهــا، وهــو مــا قــد يــؤدي إىل تهديـد العمليـة الدميقراطي­ـة داخـل الدولــة، نظــراً ألن الطــرف الــذي يسـتطيع الوصـول إىل هـذه املعلومـات وتحليلهـا، ميكـن أن يوظفهـا يف تحديد توجهـات الناخبـن واللعـب عليهـا، مـن أجــل الفــوز بأصــوات األفــراد عــى حسـاب منافسـيه، وهـو مـا يشـكك يف نزاهـة العمليـة االنتخابيـ­ة.)82(

وم ـن جه ـة أخ ـرى، ف ـإن الحكوم ـات األجنبي ـة ق ـد تق ـوم بن ـر دعاي ـة م ـن خ ـالل مواق ـع التواص ـل االجتاعـي للتأثـر عـى توجهـات املواطنـن، كـا يف االتهامات املوجهـة لروسـيا بالتأثر عـى االنتخابات الرئاسـية األمريكيـة مـن خـالل متويـل إعالنـات تهـدف إىل دفـع املواطنـن للتصويـت للرئيـس األمريـي الحـايل دونالـد ترامـب عـى حسـاب منافسـته الدميقراطي­ـة هيـالري كلينتـون.

ثامنًا: آليات مواجهة التهديدات

تتطلـب التهديـدات واملخاطـر، التقليديـة وغـر التقليديـة، التـي ميكـن أن تقـع يف املـدن الذكيـة، تغيـر طريقـة تعامـل الـدول مـع مصـادر التهديـد، وبنـاء جيـل جديـد مـن الباحثـن األمنيـن املتخصصـن يف املجـال السـيرباين، والقادريـن عـى رسعـة اكتشـاف االخرتاقـا­ت األمنيـة، وذلـك بهـدف مواجهـة الهجات اإللكرتوني­ـة ووقفهـا والتتبـع العكـي لهـا ومعرفـة مصدرهـا، باإلضافـة إىل ابتـكار تقنيـات ذكيـة قـادرة ع ـى االكتش ـاف املبك ـر للجرائ ـم اإللكرتوني ـة وتطوي ـر أدوات لتحلي ـل لألدل ـة الجنائي ـة الرقمي ـة، ولذل ـك

مـن الـروري عـى الـدول التـي رشعـت يف بنـاء هـذا النمـط مـن املـدن اتخـاذ عـدة إجـراءات عـى مسـتويات مختلفـة منهـا: -1 املسـتوى االسـراتيج­ي: يجـب عـى الدولـة أن تتبنـى اسـرتاتيجي­ة شـاملة للفضـاء اإللكـرتوي­ن تشـمل املؤسســات الحكوميــة والعســكري­ة إىل جانــب القطــاع الخــاص واملجتمــع املــدين واألفــراد، وتقــوم عــى التوعيـة الكاملـة بالتهديـدا­ت املحتملـة القادمـة مـن الفضـاء اإللكـرتوي­ن وكيفيـة التعامـل معهـا، وإنشـاء جهـات مختصـة قـادرة عـى التعامـل مـع هـذه التهديـدات واكتشـافها يف وقـت ومبكـر.

وتقـوم هـذه االسـرتاتي­جية عـى فكـرة رئيسـية مفادهـا «ردع» أي خصـم مـن شـن هجـات إلكرتونيـة عـى املدينـة الذكيـة، وتجـدر اإلشـارة هنـا إىل أن الـردع يف املجـال السـيرباين يختلـف عـن مفهـوم الـردع يف املجـال العسـكري، إذ إنـه يف الحالـة الثانيـة، فـإن الـردع يتحقـق مـن خـالل امتـالك الدولـة لقـدرات عس ـكرية مناظ ـرة ألعدائه ـا، مب ـا يردعه ـم ع ـن التفك ـر يف مهاجمته ـا أو اإلرضار مبصالحه ـم، أم ـا يف املج ـال الس ـيرباين، فإن ـه يكتس ـب معن ـى مختلف ـاً، نظ ـراً لصعوب ـة التيق ـن م ـن هوي ـة الط ـرف املهاج ـم، ولذلـك، فـإن الـردع يف هـذه الحالـة يأخـذ أبعـاداً مختلفـة، ميكـن اإلشـارة إىل أهمهـا فيـا يـي: أ- الــردع باملنــع: ميكــن تطبيــق هــذه االســرتات­يجية مــن خــالل إنشــاء نظــم إلكرتونيــ­ة، مثــل الــدروع اإللكرتوني­ــة ‪)Cyber Shield(‬ والشــبكات املغلقــة )Intranet( و»املــدى الســيرباي­ن» ‪)Cyber Range(‬ الـالزم الختبـار التقنيـات الجديـدة املزمـع اسـتخدامها يف املـدن الذكيـة للتأكـد مـن خلوهـا مـن الثغـرات اإللكرتوني­ـة واكتشـاف مواطـن الخلـل والضعـف فيهـا، فضـالً عـن القيـام بعمليـات اختبـار دامئة للشـبكات ‪)Cyber Drill(‬ عـرب تشـجيع الـركات واملوهوبـن مـن املربمجـن والقراصنـة األخالقيـن، مـن خـالل برامـج منظمـة ترعاهـا الدولـة، لشـن هجـات إلكرتونيـة عـى املدينـة ملعرفـة الثغـرات املوجـودة بهـا وإخبـار السـلطات املختصـة لرسعـة التعامـل معهـا وعالجهـا.)83( ب- الـردع باالنتقـام: تعتمـد هـذه االسـرتاتي­جية عـى تطويـر قـدرات تعقـب الهجـات اإللكرتوني­ـة ومعرفة مصدرهـا، وشـن هجـات إلكرتونيـة ضاريـة القسـاوة عـى مصـدر االعتـداء، أو حتـى هجمـة عسـكرية باألسـلحة التقليديـة، يف شـكل هجـوم انتقامـي مضـاد، مـا يجعـل الخصـم يفكـر أكـر مـن مـرة قبـل محاولتـه شـن هجـوم إلكـرتوين آخـر.)84( ج- الـردع باالسـتيعا­ب: يقصـد بذلـك زيـادة مرونـة أنظمـة الدولـة يف التعامـل مـع الهجـات اإللكرتوني­ـة، ع ـرب امت ـالك الق ـدرة ع ـى امتص ـاص أي هج ـات إلكرتوني ـة، والح ـد م ـن تداعياته ـا، واس ـتعادة عم ـل األجهـزة املسـتهدفة برسعـة، ووضـع خطـط بديلـة دامئـاً، باإلضافـة إىل االحتفـاظ بأنظمـة إضافيـة ميكنهـا أن تحـل محـل األنظمـة التـي تتعـرض لهجـات إلكرتونيـة أو التـي تخـرج عـن الخدمـة. -2 املسـتوى الفنـي: يتـم ذلـك عـرب اتخـاذ مجموعـة مـن اإلجـراءات الفنيـة التـي تعمـل عـى رسعـة اكتشـاف الهجمـة اإللكرتوني­ـة يف بدايتهـا وزيـادة قـدرة مرونـة الدولـة يف التعامـل مـع الهجـات التـي يتـم شـنها عـى املدينـة الذكيـة، وميكـن توضيـح ذلـك يف التـايل: أ- إنشـاء نظـم إنـذار مسـبق: يجـب وضـع أجهـزة استشـعار عـى املرافـق والبنيـة التحتيـة الحرجـة التـي ميكـن أن تكـون عرضـة للهجـات اإللكرتوني­ـة، بحيـث تسـاعد يف اكتشـاف الهجـات اإللكرتوني­ـة فـور وقوعهـا مبـارشة، مـا يسـهل تفـادي املخاطـر التـي ميكـن أن تنجـم عنهـا. ب- تعـدد مصـادر الطاقـة: ال يجـب أن تعتمـد الطاقـة داخـل املدينـة الذكيـة عـى مصـدر واحـد فقـط، فمثـالً إذا تـم اسـتهداف إحـدى شـبكات الكهربـاء التـي تعتمـد عليهـا املدينـة، يجـب أن تكـون هنـاك شـبكات بديلـة ملنـع انقطـاع الكهربـاء، خاصـة عـن املؤسسـات املهمـة والحيويـة، كاملستشـفي­ات واملحـالت التجاريـة الكـربى واملصانـع وغرهـا.

ج- إيجـاد نظـم بديلـة: ينبغـي تجنـب االعتـاد عـى نظـام إلكـرتوين واحـد، لتجنـب إمكانيـة توقفـه عـن الخدمـة متامـاً يف حالـة تعرضـه لهجمـة إلكرتونيـة، مثـل أنظمـة البنـوك واألنظمـة املاليـة والخدمـات املدنيـة الحكوميـة. هـذه األنظمـة يجـب أن تتعـدد طـرق الدخـول إليهـا يف حالـة اسـتهدافها مـن خـالل أنظمـة بديلـة تعمـل يف أوقـات الطـوارئ. د- إنشـاء «نسـخ احتياطيـة» ‪:)Back up(‬ ميكـن إنشـاء نُسـخ احتياطيـة للبيانـات املهمـة داخل الدولة، سـواء بالنسـبة للقطـاع الحكومـي أو الخـاص، وهـو مـا يتطلـب إنشـاء نسـخ احتياطيـة مـن بيانـات مواطنـن الدول ـة، وه ـذه النس ـخة يت ـم تحديثه ـا بص ـورة يومي ـة، م ـن خ ـالل مزامن ـة )Synchroniz­ing( البيان ـات املوج ـودة باألنظم ـة اإللكرتوني ـة يف مختلف ـة املؤسس ـات، م ـع نظ ـام أرش ـفة وحف ـظ البيان ـات الرئيس ـية، ومـن ثـم يف حالـة تدمـر بعـض البيانـات جـراء هجـات إلكرتونيـة، تظـل هنـاك نسـخ احتياطيـة ميكـن الرجـوع إليهـا. هــ- تشـفر البيانـات الرئيسـية: تفـرض التهديـدات األمنيـة رضورة تشـفر البيانـات الحرجـة واملهمـة، مثـل البيانـات العسـكرية واملراسـال­ت الرسيـة، حتـى إذا مـا تعرضـت ألحـد الهجـات اإللكرتوني­ـة ومتـت رسقتهـا، يصبـح مـن الصعـب عـى الطـرف املعتـدي فهـم مـا بداخلهـا، وحتـى يكتسـب الطـرف املعتـدى عليـه بعـض الوقـت مـن أجـل تحديـد هويـة الجهـة أو الطـرف املهاجـم والتعامـل معـه. و- إنشـاء فـرق االسـتجابة للطـوارئ ‪Computer Emergency Response(‬ :)Team وتعــرف اختصــاراً باســم )CERT( وهــي فــرق مدنيــة، تكــون مهمتهـا التحقيـق يف األدلـة الجنائيـة الرقميــة، ومحاولــة تتبــع مصــدر الهجــات واملتورطــ­ن فيهــا ،

)85( وعــادة مــا يوجــد بالدولــة أكــر مــن فريــق اســتجابة للطــوارئ، يتبــع بعضهــا الــوزارات مثــل وزارة االتصــاال­ت، ويتبــع البعــض اآلخــر الــركات الكــربى، ســواء كانــت حكوميــة أو غــر حكوميــة كــركات النفــط والطاقــة واالتصــاا­لت. -3 املســتوى العســكري: دفعــت التطـورات املهمـة يف املجـال السـيرباين إىل توجـه الـدول نحـو تطويـر أسـلحة سـيربية ‪Cyber Weap�(‬ )ons، وإنشـاء قـوات عسـكرية مقاتلـة يف صفـوف القـوات املسـلحة وظيفتهـا الرئيسـية القتال عـرب الفضاء اإللكــرتو­ين، وميكــن توضيــح ذلــك فيــا يــي: أ- الجيـوش اإللكرونيـ­ة: عمـدت الـدول إىل إنشـاء جيـوش وفـرق للعمليـات تقـوم مبهـام عـرب الفضـاء اإللكـرتوي­ن داخـل صفـوف قواتهـا املسـلحة، تتكـون مـن قراصنـة معلومـات مهمتهـم اخـرتاق شـبكات الكمبيوتـر الخاصـة بالخصـم، ونـر برامـج التجسـس واملراقبـة، وتنفيـذ املهـات العسـكرية التـي تطلـب منهـا مثـل تعطيـل أحـد الربامـج العسـكرية للخصـم، أو السـيطرة عـى أحـد الشـبكات أو تدمـر بعـض الخدمـات اإللكرتوني­ـة، فضـالً عـن الدفـاع عـن الشـبكات القوميـة وحايتهـا مـن أي محاولـة اخـرتاق. ب- القـوات املسـلحة التقليديـة: قـد تشـارك بعـض فـرق القـوات املسـلحة التقليديـة يف عمليـات الدفـاع

اإللكـرتوي­ن، حيـث تسـتدعى بعـض العمليـات اإللكرتوني­ـة التدخـل العسـكري التقليـدي مـن قبـل القـوات املســلحة، لتدمــر خطــوط اتصــاالت أو مراكــز إدارة عمليــات قرصنــة تابــع للخصــم أو تدمــر أســلحة خرجـت عـن السـيطرة بسـبب اخرتاقهـا. ج- األحـاف العسـكرية السـيرباني­ة: رشعـت الـدول يف بحـث فكـرة إقامـة أحـالف سـيربانية أو توسـيع نطـاق األحـالف التقليديـة لتكـون ضمـن مهامهـا مسـؤولية تحقيـق األمـن السـيرباين للـدول إىل جانـب األمـن التقليـدي، وتوقيـع اتفاقـات سياسـية للتعـاون يف مجـال االسـتخبار­ات اإللكرتوني­ـة واألدلـة الجنائية، وتبـادل املعلومـات التـي تسـهل عمليـة تعقـب الهجـات ومعرفـة مصدرهـا الحقيقـي. وتجـدر اإلشـارة هنـا إىل أن هـذه األحـالف باتـت تضـم الـركات التكنولوجي­ـة واملنظـات الدوليـة التـي ميكـن أن يتـم توظيـف خربتهـا التقنيـة يف الحصـول عـى معلومـات تفيـد يف تتعقـب الجـاين. -4 املسـتوى التعليمـي: أضحـى مـن الـروري االسـتثار يف العنـرص البـري، خاصـة األطفـال، لتنشـئة جيـل مـن املوهوبـن يف التعامـل مـع التقنيـات الذكيـة، ولديهـم معايـر أخالقيـة تحكـم اسـتخدامهم لهـا وتطويرهـا، حيـث لجـأت العديـد مـن الـدول إىل تعليـم الربمجـة لألطفـال يف املرحلـة االبتدائيـ­ة، مثـل بريطانيـا وفرنسـا، وتبنـت العديـد مـن منظـات املجتمـع املـدين والـركات التكنولوجي­ـة مبـادرات لتعليـم الربمج ـة لألطف ـال يف مرحل ـة مبك ـرة، م ـع االهت ـام بالتعلي ـم الس ـيرباين ‪)Cyber Education(‬ بص ـورة عامـة، وتشـجيع املبتكريـن واملوهبـن يف مجـال القرصنـة وأمـن املعلومـات وتنظيـم مسـابقات يف هـذا املجـال، واكتشـاف أفضـل العنـارص وتبنـي املواهـب وتطويرهـا. -5املسـتوى املجتمعـي: ينبغـي أن تعمـل الـدول عـى توعيـة جميـع أفـراد املجتمـع بالتهديـدا­ت القادمـة مــن الفضــاء اإللكــرتو­ين، وتحذيرهــم مــن مخاطــر اســتخدام التكنولوجي­ــا الحديثــة، وتعليمهــم كيفيــة االسـتفادة مـن مميـزات هـذه التقنيـات وكيـف ميكـن الوقايـة مـن تهديداتهـا، ويتحقـق ذلـك عـرب رشاكـة بـن الحكومـة واملجتمـع املـدين والقطـاع الخـاص الـذي ميتلـك قواعـد بيانـات خاصـة بعـدد كبـر مـن املسـتخدمن داخـل الدولـة، كـا تقـع عليـه مسـؤولية تأمـن جميـع اتصـاالت األفـراد بالدولـة، وضـان الحفـاظ عـى رسيتهـا وخصوصيتهـا مـن دون أن تتعـرض لالخـرتاق أو الترسيـب، فالجميـع عليهـم أدوار حقيقيـة يجـب القيـام بهـا لخلـق مجتمـع آمـن.

ومـن جهـة ثانيـة، يجـب أن تتـالىف الـدول التهديـدات الثقافيـة واالحتقـان املجتمعـي الـذي قـد يحدث داخـل املدينـة الذكيـة بسـبب طابعهـا الكوزموبول­يتـاين مـن خـالل العمـل عـى نـر القيـم التـي تعـي مـن التسـامح وتقبـل اآلخـر واالنفتـاح، باإلضافـة إىل إدخـال كافـة رشائـح املجتمـع يف عمليـة تخطيـط وتنفيـذ وتشـغيل املدينـة الذكيـة، لضـان عـدم تركـز السـلطة يف يـد طبقـة أو فئـة معينـة داخـل املدينـة الذكيـة مبا يهـدد معايـر الحكـم الرشـيد واملشـاركة املجتمعية.

خاتمة الدراسة

تعـد املـدن الذكيـة منـط وأسـلوب حيـاة كامـالً قامئـاً عـى االسـتفادة مـن الثـورات التكنولوجي­ـة غـر املســبوقة، مــن نظــم الــذكاء االصطناعــ­ي وإنرتنــت األشــياء والبيانــا­ت العمالقــة، ويهــدف إىل تعظيــم االسـتفادة مـن املـوارد املتاحـة، وتقليـل االسـتهالك والهـدر يف الطاقـة، وتهيئـة منـاخ مناسـب لالبتـكار واإلبـداع، وتوفـر آليـات ووسـائل تجعـل حيـاة اإلنسـان أيـرس وأقـل كلفـة وأكـر أمانـاً، مبـا يـؤدي يف النهاي ـة إىل تحس ـن ج ـودة الحي ـاة مبعناه ـا الش ـامل.

ويتطلـب إنشـاء املـدن الذكيـة مراحـل عـدة، تبـدأ بوجـود بنيـة تحتيـة قامئـة عـى تكنولوجيـا املعلومـات واالتصـاال­ت، ومـن ثـم نـر أجهـزة استشـعار وجمـع معلومـات يف كافـة أرجـاء املدينـة، ثـم إدخـال تقنيات الـذكاء االصطناعـي وإنرتنـت األشـياء، وإنشـاء منصـات وشـبكات تربـط هـذه التقنيـات وأجهـزة جمـع

املعلومـات مـع بعضهـا البعـض، فضـالً عـن التحكـم يف ذلـك عـرب إدارة مركزيـة، تتـوىل عمليـة جمـع ومشـاركة وتحليـل املعلومـات، مبـا يـؤدي إىل تحسـن عمليـة اتخـاذ القـرار داخـل املدينـة.

وعـى الرغـم مـن املميـزات العديـدة التـي تقدمهـا املـدن الذكيـة من سـهولة الحصـول عـى الخدمات، وكفـاءة يف إدارة املـوارد البريـة، وتوفـر يف النفقـات، وتحسـن جـودة حيـاة األفـراد، فـإن لهـا العديـد مـن التحديـات التـي تعـوق عمليـة التنفيـذ واإلنشـاء ليـس أقلهـا التخطيـط االسـرتاتي­جي الجيـد، باإلضافـة إىل املشـكالت التقنيـة والفنيـة، وتوحيـد املعايـر وتأهيـل العنـرص البـري وصياغـة أُطـر تريعيـة تحكـم التفاعـالت يف املدينـة الذكيـة.

وع ـى الجان ـب اآلخ ـر، ف ـإن ه ـذه امل ـدن تواج ـه تهدي ـدات ومخاط ـر ع ـى مس ـتويات ع ـدة، أبرزه ـا التهديـدات األمنيـة، خاصـة فيـا يتعلـق بوجـود ثغـرات يف الربامـج التـي تديـر املـدن الذكيـة، وإمكانيـة اسـتغاللها، سـواء مـن قبـل الـدول املعاديـة للدولـة، أو جاعـات الجرميـة املنظمـة، وهـو مـا يهـدد األمـن القومـي للدولـة، ويتطلـب مـن صانعـي القـرار التعامـل الحـذر مـع التقنيـات الجديـدة باملدينـة، والتحـرك االسـتباقي ملكافحـة أي أعـال عنـف أو إرهـاب، والتحديـث املسـتمر لألجهـزة والربمجيـا­ت بصـورة متنـع القراصنـة مـن تهديـد الحيـاة داخـل املدينـة، وأخـراً التعـاون الـدويل يف مجـال مكافحـة الجرائـم والحـد مـن الحـروب السـيرباني­ة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates