مقدمة المحرر
“ال ميكـن التنبـؤ باملسـتقبل، لكننـا نسـتطيع صناعته” بهـذه العبـارة وصف عامل الكيميـاء البلجييك إيليـا بريجوجـن العالقـة املعقـدة بـن البـر واملسـتقبل، فعـى الرغـم مـن اليقـن الـذي أصبح سـائدا اآلن حـول إمكانيـة دراسـة املسـتقبل بصـورة علميـة وعـر مناهـج ومداخـل متعـددة فـإن ذل ـك ق ـد تزام ـن م ـع اإلق ـرار ب ـأن املس ـتقبل لي ـس حتمي ـا وإمن ـا يخض ـع لش ـبكة معق ـدة م ـن التفاعـالت بـن عـدد كبـر مـن األطـراف والفاعلـن مبـا يزيد مـن صعوبة اسـتراف مسـاراته.
وتتصــل الطبيعــة املعقــدة للمســتقبل باختــالف رؤيــة البــر للعــامل وقدرتهــم عــى إدراك األحـداث، ففـي نهايـة عـام 2004 أجـرى فريـق بحثـي يف جامعـة ميتشـجان يرأسـه ريتشـارد نسـبت أسـتاذ علـم النفـس، تجربـة عـى مجموعتـن مـن الطـالب األوىل مـن الواليـات املتحـدة األمريكيـة والثانيـة مـن الصـن. تضمنـت التجربـة عرضـا ملجموعـة مـن الصـور تضـم كل منهـا عنـرا مركزيـا يف خلفيـة مركبـة وبهـا تفاصيـل متعـددة وألـوان متداخلـة بفـارق زمنـي 3 ثـوان بـن كل صـورة مـع قيـاس حركـة العـن لـدي املشـاركن يف التجربـة.
توصـل الفريـق البحثـي حينهـا السـتنتاج مفـاده أنه بينام يفضـل األمريكيـون الحيـاة يف عامل يتمحـور حولهـم ويـدور يف فلـك مركزهـم، عـامل بسـيط قطعـي الداللـة وغـر معقـد، مييـل نظراؤهـم الصينيـون للتعايـش مـع عـامل معقـد، دائـم التغـر مـيء بالتحـوالت واألحـداث.
وتؤكـد نتائـج هـذه التجربة مدى التفاوت الشـديد يف عالقة األفراد باملسـتقبل نتيجـًة لتأثرات الثقافـة واملنظـورات السـائدة واألنسـاق العقيديـة واإلدراكيـة عـى رؤيتهـم للواقـع وتعقيداته، ويف هـذا اإلطـار ميكـن التوصـل لعـدة اتجاهـات عامـة فيـام يتعلـق بدراسـة املسـتقبل ومـدى قابليته لالسـتراف، تتمثل يف اآليت: -1 عـى الرغـم مـن التعقيـدات واإلشـكاليات املتعـددة، فـإن املسـتقبل قابـل للدراسـة األكادمييـة املنضبطـة عـر مداخـل ومناهـج بينيـة )Interdisciplinary( تجمـع بـن عـدة تخصصـات علمية تســتهدف دراســة االتجاهــات الصاعــدة ومعــامل االنقطــاع واالســتمرار يف الظواهــر والقــوى املحركـة للتغيـر اعتـامداً عـى خـرات املـايض وخرائـط األوضـاع الراهنـة يف الحـارض والـرؤى والتصـورات واالتجاهـات الحاكمـة للمسـتقبل. -2 تعـد دراسـة املسـتقبل احتامليـة، وليسـت يقينيـة بـأي حـال وهـو مـا يتشـابه مـع املنطـق الـذي تتأسـس عليـه دراسـة الظواهـر االجتامعيـة بصفـة عامـة، فدراسـات املسـتقبل ال ميكنهـا طـرح صـورة يقينيـة متكاملـة عـن “التحـوالت القادمـة” يف العـامل، كـام أنهـا ال تطـرح مسـارا واحـداً لتطـور املسـتقبل وإمنـا مسـارات احتامليـة متعددة تـراوح مـا بن املسـتقبليات املحتملـة واملمكنة واملرغـوب حدوثهـا. -3 متثـل الدافـع األسـايس لالسـتثامر يف تطويـر حقـل “دراسـات املسـتقبليات” يف الرغبـة يف دعـم عمليـة صنـع القـرار، إذ تزامـن مـع نهايـة الحـرب العامليـة الثانيـة تأسـيس عـدة مروعـات لدراسـة املسـتقبل مـن بينهـا قيـام سـالح الجـو األمريـيك بالتعاقـد مع رشكـة دوجـالس للطائرات لدراسـة التطـورات التكنولوجيـة املتوقعـة يف منظومـات التسـلح الجويـة يف عـام ،1944 وهـو مـا نتـج عنـه الحقـاً إقامـة “مؤسسـة رانـد البحثيـة” التـي مثلـت نـواة النتشـار مراكـز التفكـر املتقدمـة )Think Tanks( التـي ركـزت عـى تطويـر مداخـل لدراسـة املسـتقبل واسـترافه. -4 تصاعـدت اتجاهـات مأسسـة دراسـة املسـتقبل مـع إقامـة أقسـام وبرامـج دراسـية يف بعـض الجامعـات األمريكيـة واألوروبيـة، باإلضافـة السـتحداث وحـدات لدراسـات املسـتقبل واسـتراف
اتجاهاتـه داخـل بعـض املؤسسـات الحكوميـة وانتشـار العديـد مـن املراكـز والهيئـات العلميـة واملعاهـد املتخصصـة يف دراسـات املسـتقبليات ومـن بينهـا رابطـة املسـتقبليات الدوليـة وجمعيـة املسـتقبل العامليـة واتحـاد دراسـات املسـتقبليات العاملـي. -5 تركـز الدراسـات املسـتقبلية عـى اسـتراف االحتـامالت املسـتقبلية املتوقعة للظواهـر املختلفة والتغـرات املسـتقبلية مـن خـالل أدوات منهجيـة بينيـة، يتمثـل أهمهـا يف النـامذج السـببية التـي تـدرس كميـاً اتجاهـات التغـر يف االرتبـاط بـن املتغرات، وبنـاء السـيناريوهات املتوقعـة لتطور الظواهـر ورسـم الخرائـط الزمنيـة التـي تربـط بـن الخـرة التاريخيـة لتطـور الظاهـرة وواقـع الظاهـرة يف الوضـع الراهـن للتنبـؤ باحتـامالت التطور املسـتقبي.
ولقـد انتقـل حقـل دراسـات املسـتقبليات مـن الركيـز عـى االتجاهـات الصاعـدة يف الحارض يف املجـاالت االقتصاديـة والتكنولوجيـة واالجتامعيـة والسياسـية واألمنيـة إىل اإلقـرار بالتعقيدات املتصاعـدة يف الواقـع وتصاعـد عـدم اليقـن يف التطـورات املسـتقبلية، ومـن ثـم طـرح أكرث من صيغـة وتصـور للمسـتقبل وعـدم االكتفـاء بطرح مسـار واحـد مرجح للمسـتقبل. -6 أدت التحديـات التـي تواجـه دراسـة املسـتقبل لراجـع محـاوالت التنبؤ واالسـتراف يف مقابل الركيـز عـى تطويـر أسـاليب ومداخـل السـتيعاب “صدمـات املسـتقبل” والتكيـف مـع التغـرات الرسيعـة والتحـوالت غـر املتوقعـة يف عـامل السياسـة انطالقـاً مـن منظـورات واقعيـة، ومن بن هـذه املداخـل تعزيـز املرونـة والقـدرة عـى االرتـداد الرسيـع يف املؤسسـات والـدول واملجتمعـات واالسـتعداد السـتقبال الصدمـات واحتوائها.
وتطـرح الدراسـات املتقدمـة يف حقـل اإلدارة عـدة مداخـل للتكيـف مـع التحـوالت الرسيعـة وغـر املتوقعـة مـن بينهـا تشـجيع التقديـرات غـر التقليديـة وطـرح السـيناريوهات املسـتبعدة واملسـارات غـر املحتملـة واالسـتعداد لهـا، باإلضافـة ألسـاليب تقييـم البدائـل والخيـارات مثـل التقييـامت الجامعيـة والعصـف الذهنـي متعدد املسـتويات واختبـارات “اختفاء الخيـارات” وكيفية اسـتيعاب واحتـواء تداعيـات املواقـف شـديدة التعقيـد.
ويف هــذا اإلطــار، يركــز العــدد الرابــع مــن سلســلة “دراســات املســتقبل” عــى موضــوع “اسـتراف املسـتقبل: مناهـج وإشـكاليات التنبـؤ باالتجاهـات القادمـة يف العـامل”، حيـث تركـز الدراسـة عـى التطـور يف مناهـج ومداخـل دراسـة املسـتقبل واإلشـكاليات التي تواجه اسـتراف الظواهـر الصاعـدة واإلشـكاليات القادمـة يف العـامل باإلضافـة إىل مداخـل اسـتيعاب واحتـواء صدمـات املسـتقبل.
ولقـد قـام بإعـداد هـذه الدراسـة، أ.محمـد عبداللـه يونـس، وهـو مـدرس العلـوم السياسـية املسـاعد بكليـة االقتصـاد والعلـوم السياسـية بجامعة القاهـرة، وهـو باحث متخصص يف املسـاحة البينيـة الواصلـة بن السياسـة املقارنة والدراسـات االسـراتيجية، وخاصـة أثر التحـوالت الداخلية عـى األمـن القومـي لـدول الـرق األوسـط، كـام أن لـه العديـد مـن الدراسـات واألوراق البحثيـة املنشـورة عـن التحـوالت واالتجاهـات الرئيسـية الصاعـدة يف اإلقليم.
وتنقسـم الدراسـة إىل عـدة محـاور رئيسـية يركـز أولها عـى تطور دراسـة الظواهر املسـتقبلية، ويتنـاول املحـور الثـاين خريطـة مداخـل “دراسـات املسـتقبليات”، أمـا املحـور الثالـث فركـز عى أبعـاد “معضلـة املسـتقبل” يف العلـوم االجتامعيـة، ويناقـش املحـور الرابع يف الدراسـة إشـكاليات اسـتيعاب التحـوالت الرسيعـة للواقـع، ويركـز املحـور الخامـس عـى املعوقـات اإلدراكيـة لدراسـة املسـتقبل، وختامـاً يتنـاول املحور السـادس أسـاليب اسـتيعاب “صدمات املسـتقبل”.