ثانيا: مداخل ومناهج “دراسات المستقبليات”
تعــد “دراســات املســتقبليات” )Futures Studies( حقــالً بينيــاً يجمــع بــن املفاهيــم واملناهــج وأدوات التحليـل مـن عـدة حقـول معرفيـة باإلضافـة لتحليـل خـرات املـايض وتطـورات الحـارض واملقارنـة بـن آراء الخـراء واألكادمييـن واملامرسـن يف املجـاالت املختلفـة حـول اتجاهـات املسـتقبل.
وتركـز دراسـات املسـتقبليات عـى تحليـل االتجاهـات املسـتقبلية املمكنـة واملفضلـة واملحتملـة ومـا يرتبــط بهــا مــن تقديــرات وتداعيــات، وتتنــاول هــذه الدراســات االســتمرارية والتغــر يف الظواهــر
الراهنــة وتقــوم بتوظيــف خــرات املــايض يف صياغــة أمنــاط واتجاهــات واحتــامالت لتطــور هــذه الظواهـر، باإلضافـة ملصـادر ومسـببات التغيـر واالسـتمرارية يف الظواهـر موضـع الدراسـة مـن أجـل رســم خريطــة للمســتقبليات املمكنــة(91) .
وارتبـط تطـور “دراسـات املسـتقبل” بالتحـوالت السياسـية التـي شـهدتها الـدول الغربيـة بعـد الحـرب العامليـة األوىل، فلقـد دفـع الواقـع السـيايس يف االتحـاد السـوفييتي عقـب الثـورة البلشـفية إىل تأسـيس “لجنـة جوسـبالن” )Gosplan Committee( وهـي اللجنـة املسـؤولة عـن التخطيـط االقتصـادي وإصدار الخطـط الخمسـية الهادفـة لدعـم التقـدم التدريجـي لالقتصـاد السـوفييتي(02).
ويف الواليـات املتحـدة، قـام الرئيـس هوفـر بإنشـاء “لجنـة بحـوث االتجاهـات االجتامعيـة” يف عـام 1933 بقيـادة “وليـام أوجبـورن” التـي ركـزت عـى تحليـل االتجاهـات الصاعـدة يف املجتمـع األمريـيك مــع الركيــز عــى تأثــرات التطــور التكنولوجــي، خاصــة يف ظــل تداعيــات “الكســاد الكبــر” عــى االقتصـاد األمريـيك.
ومتثـل التطـور األهـم ضمـن دراسـات املســتقبليات يف “مــروع رانــد” Rand( )Project الـذي تـم تأسيسـه يف عام 1946 بالتشـارك بـن القـوات الجويـة األمريكيـة ورشكــة دوجــالس للطائــرات، ونتــج عــن هـذا املـروع الحقـاً إقامـة “مؤسسـة رانـد البحثيـة”. وركـز هـذا املروع عى مسـتقبل األســلحة والتخطيــط بعيــد األمــد ملواجهــة التهديــدات املســتقبلية، بحيــث أضحــت توصيــات هــذا املــروع ضمــن محــددات صياغــة االســراتيجيات األمريكيــة فيــام يتعلـق بتطويـر األسـلحة النوويـة والحـرب البــاردة وســباق الفضــاء(12). وتحولـت “دراسـات املسـتقبليات” لحقـل أكادميـي يف سـتينيات القـرن العريـن نتيجـة إلسـهامات الجيــل األول مــن املتخصصــن يف دراســة املســتقبل ومــن بينهــم “هرمــان كان” )Herman Kahn( الـذي عمـل كخبـر اسـراتيجي لـدى مؤسسـة رانـد، ودينـس جوبـر وغرهـم ممـن أعـدوا مجموعـة مؤلفــات حــول أطــر التفكــر يف املســتقبل وكيفيــة ضبــط الــرؤى واألطروحــات حــول االتجاهــات املسـتقبلية، وارتبطـت اتجاهـات دراسـة املسـتقبل يف االتحـاد السـوفييتي يف ذلـك التوقيـت بالتخطيـط االقتصـادي املركـزي عـى املديـن املتوسـط والبعيـد(22).
وتعـددت مبـادرات مأسسـة بحـوث املسـتقبل والتـي شـملت تأسـيس “جمعيـة بحـوث النظـم العامـة” يف عـام ،1955 و“اتحـاد دراسـات املسـتقبليات العاملـي” الـذي أسسـه عـامل االجتـامع األمريـيك “جـوان جالتونــج” يف عــام ،1967 وهــو مــا تبعــه إقامــة برنامــج الدكتــوراه األول للمتخصصــن يف دراســات املسـتقبل يف عـام 1969 يف جامعـة ماساتشوسـتس، كـام تـم تأسـيس مسـار أكادميي لدراسـات املسـتقبل يف جامعـة هيوسـن وبرنامـج لدراسـة املاجسـتر يف تخصـص املسـتقبليات البديلـة يف جامعـة هـاواي، ويف عـام 2012 بـدأ مركـز بحـوث املسـتقبليات الفنلنـدي برنامـج لدراسـة املسـتقبليات يف جامعـة توركـو يف فنلنـدا(32).
ولقـد انتقـل حقـل دراسـات املسـتقبليات مـن الركيـز عـى االتجاهـات الصاعـدة يف الحـارض يف املجـاالت االقتصاديـة والتكنولوجيـة واالجتامعيـة والسياسـية واألمنيـة إىل اإلقـرار بالتعقيـدات املتزايـدة يف الواقـع )Complexities( وتصاعـد عـدم اليقـن يف التطـورات املسـتقبلية، ومـن ثـم طـرح أكـرث مـن صيغـة وتصـور للمسـتقبل وعـدم االكتفـاء بطـرح مسـار واحـد مرجـح للمسـتقبل.
وتتسـم “دراسـات املسـتقبليات” بتجـاوز الـرؤى والتصـورات األحاديـة حول املسـتقبل، وتطويـر مناهج وأدوات تحليليـة ترتكـز عـى فكـرة التعدديـة مبعنـى وجـود أكـرث مـن صيغـة ُمحتملـة للمسـتقبل وصياغـة خيــارات للتكيــف معهــا قبــل حدوثهــا، وتعتمــد “دراســات املســتقبل” يف التوصــل لهــذه “املســتقبليات البديلـة” )Alternative Futures( عـى الجمـع بـن تحليـل خـرات املـايض واالتجاهـات املهيمنـة يف الحـارض واملـؤرشات األوليـة الكاشـفة عـن التحـوالت املسـتقبلية املحتملـة(42).
ويتــوازى ذلــك مــع تحليــل كمــي وكيفــي للبيانــات عــن االتجاهــات املُحتملــة واملمكنــة واملرغوبــة للتغيــر يف الظواهــر املختلفــة، باإلضافــة لالتجاهــات غــر املحتملــة التــي يطلــق عليهــا “الســيناريوهات املســتبعدة” )Wild Cards( أو “البجــع األســود” Black( )Swans وفقــاً لتعبــر “نســيم نيقــوال طالــب” يف كتابـه الصـادر يف عـام ،2007 حيـث يركـز عـى صعوبـة التنبـؤ باألحـداث غـر املتوقعـة وغـر املحتملـة إذا مـا اعتمـدت التوقعـات عى االتجاهـات الراهنـة وتراكـم خـرات املـايض، ويف هـذا اإلطـار تتمثـل أهـم مناهـج دراسـات املســتقبل فيــام يــي: -1 التحليـل متعـدد الطبقـات Lay-( - Multi :)ered Analysis يركـز هـذا املنهـج عى الجمع بـن عـدة مداخـل للتحليـل، أولهـا االتجاهـات الكيفيــة التــي تعتمــد عــى تقديــرات الخــراء حــول املســتقبل، وثانيهــا القــوى املحركــة واملحفــزات السياســية واالقتصاديــة والثقافيــة والتاريخيــة، وثالثهـا السـياقات الراهنـة وشـبكة األبنيـة والهيـاكل واملؤسسـات املؤثـرة عـى حركـة املسـتقبل، ورابعهـا تحليـل طبيعـة الخطـاب السـيايس واملجتمعـي حـول املسـتقبل، بحيـث يكـون حاصـل جمـع هـذه املداخـل هـو اتجاهـات تقديريـة متعـددة للتحـوالت املسـتقبلية املتوقعـة واملحتملـة واملمكنـة(52). -2 مســح الســياقات والبيئــة :)Environment Scanning( يقــوم هــذا املدخــل عــى مراقبــة ورصــد وتفســر التحــوالت يف السـياقات املحيطــة بالظاهــر موضــع الدراســة لتحديــد العوامــل املؤثــرة عــى املســتقبل، ففــي مجــال إدارة األعــامل تكــون متابعــة األحــداث السياســية واالقتصاديــة واالجتامعيــة والتكنولوجيــة مدخــالً لتحديــد اتجاهــات الســوق ضمــن خريطــة الفــرص واملخاطــر التــي تواجههــا املؤسسـة ونقـاط القـوة والضعـف لـدى املنافسـن، باإلضافـة إىل األسـواق الجديـدة والعمـالء املحتملـن، ويتـم تنفيـذ تحليـل السـياقات مـن خـالل عـدة مراحـل: أ تحديد الغاية من متابعة وتحليل التطورات يف البيئة والسياقات املرتبطة بالظاهرة.
ب جمع املعلومات من مختلف املصادر عن األحداث املتتابعة يف البيئة. ج تحليل املعلومات لتحديد اتجاهات االستمرارية والتغر والقوى الدافعة للتغير. د صياغـة االسـتنتاجات وعرضهـا عـى متخـذي القـرار لالسـتفادة منهـا يف صياغـة قـرارات ملواجهـة التغـرات املحتملـة يف البيئـة وتحديـد مسـارات للتكيـف مـع التغيـر(62). -3 بنـاء السـيناريوهات :)Scenario Building( ويقصـد بذلـك صياغـة مسـارات محتملـة لتطور ظاهرة معينـة اعتـامداً عـى معطيـات الواقـع الراهـن واملعلومـات املتاحـة وترجيـح أحـد هـذه السـيناريوهات باعتبـاره األكـرث احتـامالً وتحديـد درجـة احتامليـة السـيناريوهات األخـرى، وتتعـدد أسـاليب ومناهـج بنـاء السـيناريوهات إال أن أبسـطها يعتمـد عـى تحديـد اتجاهـات تنطلـق مـن الواقـع الراهـن بنـاء عـى اتجـاه ودرجـة التغيـر املتوقـع، ومـن ثـم تصبـح السـيناريوهات املحتملـة هـي: اسـتمرار الوضـع الراهـن )Continuity( أو التغيــر التدريجــي بدرجــه منخفضــة مــن اإلربــاك، أو التغيــر التدريجــي بدرجــة عاليـة مـن اإلربـاك أو التغيـر الجـذري، وقـد تركـز السـيناريوهات عـى احتـامالت االرتـداد للـاميض أو حـدوث تغـر جوهـري يتناقـض مـع مجريـات الواقـع(72). -4 طريقـة دلفـي :)Delphi Method( يعتمـد هـذا املنهـج عـى اسـتطالع آراء الخـراء حـول املسـارات املتوقعـة لتطـور ظاهـرة معينـة يف املسـتقبل عـر عـدة جـوالت مـن اسـتطالعات الـرأي يتـم خاللهـا إطـالع املشـاركن عـى خالصـة توقعـات الجـوالت السـابقة واتجاهـات التوافـق والتعـارض بـن آراء الخـراء، بهـدف دفـع اسـتجاباتهم للتقـارب لتتشـكل مجموعـة محـدودة مـن املسـارات املحتملـة. -5 تحليــل التأثــر املتقاطــع Impact Analysis( – :)Cross يقــوم هــذا املنهــج عــى الربــط بــن األحــداث بهــدف التوصــل ملتغــرات تحــدد مالمــح املســتقبل للتغلــب عــى عــدم اليقــن، حيــث يتــم تحديــد األحــداث املؤثــرة يف تطـور ظاهـرة معينـة يف املسـتقبل ثـم صياغـة احتـامالت لالسـتمرارية والتغـر ارتباطـاً بهـذه األحـداث ثـم اختبـار عالقـات االرتبـاط بـن األحـداث القامئـة واملحتملـة وإجـراء عمليـات محـاكاة متكـررة للتأكـد مـن االرتبـاط وإعـداد سـيناريوهات حـول مسـارات التطـور املحتملـة لألحــداث(82). -6 التحليــل الدائــري للمســتقبل Future( :)Wheel تقــوم هــذه األداة التحليليــة عــى إعـداد رسـم بيـاين بكافـة التداعيـات املحتملـة وغــر املحتملــة لتطــور أو حــدث معــن ذي داللـة، وهـي مـن أمنـاط تنظيـم التفكـر حول املسـتقبل والعصـف الذهنـي لـدى مجموعـات دراسـة وتحليـل املسـتقبل. حيـث يوضـع التغـر أو الحـدث الجوهـري يف قلـب الدائـرة ويتـم وضـع التداعيـات املبـارشة للحـدث يف الدوائـر القريبـة مـن املركـز والتداعيـات غـر املبـارشة يف الدوائـر التاليـة وفقـاً ملـدى ارتباطهـا بالحـدث مـع مراعـاة االرتبـاط بـن املسـتويات املختلفـة للتداعيـات(92).
تركــز الدراســات املســتقبلية عــى اســترشاف االحتـامالت املتوقعـة للظواهر املختلفـة والتغرات القادمـة مـن خـالل أدوات منهجيـة بينيـة، يتمثـل أهمهـا يف النـامذج السـببية، وبنـاء السـيناريوهات املتوقعـة لتطور الظواهر ورسـم الخرائـط الزمنية التــي تربــط بــن الخــرة التاريخيــة لتطــور الظاهـرة وواقـع الظاهـرة يف الوضـع الراهـن للتنبؤ باحت ـامالت التط ـور املس ـتقبيل.
-7 دراســة وتحليــل االتجاهــات :)Trends Analysis( تركــز هــذه األداة التحليليــة عــى اســتغالل البيانـات التاريخيـة املراكمـة عـن ظاهـرة معينـة للتنبـؤ مبـا ميكـن أن يحـدث يف املسـتقبل اعتـامداً عـى مـؤرشات محـددة يف الواقـع الراهـن تحـدد اتجاهـات الظاهـرة، ويف هـذا اإلطـار تتمثـل أهـم أمنـاط االتجاهـات فيـام يـي: أ- االتجاهـات الكـرى :)Mega Trends( تتضمـن هـذه االتجاهـات مسـارات متعـددة وتتطـور عـر فـرة زمنيـة طويلـة متتـد ألجيـال بحيـث تتغـر بنيـة الظاهـرة بصـورة جوهريـة، مثـل اتجاهـات تجـدد الحرب البـاردة أو اتجاهـات عـودة التعدديـة القطبيـة يف النظـام الـدويل. ب- االتجاهــات املمكنــة :)Potential Trends( تركــز هــذه االتجاهــات عــى املســارات املتوقعــة التــي تتزايـد إمكانيـة حدوثهـا مـع التطـور يف التكنولوجيـا واالبتـكار ومروعـات التحديـث والتطويـر، بحيـث يتوقـع أن تهيمـن عـى املسـتقبل، مثـل الثـورة الصناعيـة الرابعـة التـي نتجـت عـن التطـور غـر املسـبوق يف التكنولوجيـا وغـرت مـن بنيـة االقتصـاد العاملـي خـالل العقـد الحـايل. ج- االتجاهــات املتشــعبة :)Branching Trends( اتجاهــات متعــددة مرابطــة تتصــل بظاهــرة معينــة وتطورهـا، مثـل االرتبـاط بـن صعـود اليمـن وثقافـة الكراهيـة وتزايـد العـداء للمهاجريـن وصعـود القيــادات الشــعبوية يف الــدول الغربيــة. د- االتجاهـات الدائريـة أو الخطيـة Linear or Cy-) :)clic Trends تركـز االتجاهـات الخطيـة عـى تطـور الظاهــرة وانقطاعهــا بصــورة تامــة عــن املــايض، بينــام تتضمــن االتجاهــات الدائريــة تجــدد بعــض ظواهـر وتجليـات التاريـخ بسـبب توافـر السـياقات املهيـأة لعودتهـا يف املسـتقبل، مثـل االتجاهـات التـي تربـط تفجـر الحـروب والراعـات العامليـة بالتغـر يف بنيـة النظـام الـدويل(03).
ولقــد أدى التطــور التكنولوجــي إىل تطويــر منهاجيــات أكــرث تعقيــداً يف دراســات املســتقبليات مــن بينهــا “تحليــل النظــم املعقــدة” Complex( )Systems الـذي يعتمـد عـى إعـداد منـاذج لالرتبـاط بـن مدخـالت متعـددة واالسـتجابات املحتملـة مـن جانـب عـدد كبـر مـن األطـراف املؤثريـن يف تطـور ظاهـرة محـددة ويتـم االعتـامد يف هـذه التحليــالت عــى تقنيــات الــذكاء االصطناعــي التــي عــززت مــن قــدرات تطبيــق منــاذج املحــاكاة.
وعـى مسـتوى آخـر، أسـهم التطـور يف تحليـل البيانـات الضخمـة )Big Data( يف صناعـة منـاذج للتنبـؤ مـن خـالل رصـد وتحليـل تفضيـالت األفـراد وتحديـد سـلوكهم املتوقـع نتيجـة دراسـة االرتبـاط متعـدد املسـتويات بـن “الحافـز” و“االسـتجابة” بحيـث ميكـن مسـتقبالً التحكـم يف قـرارات األفـراد مـن خـالل عمليـة تحفيـز مقصـودة لسـلوكيات محـددة، وعـى سـبيل املثـال تسـتفيد مؤسسـات التسـويق مـن تفضيـالت األفـراد يف تصميـم حمـالت إعالنيـة مؤثـرة تدفعهـم لـراء املنتجـات والخدمـات(13).