مقدمة الدراسة
مناهج وإشكاليات التنبؤ بـ“التحوالت القادمة“في العالم
عـى مـدار عقـود ممتـدة تحولـت دراسـة “املسـتقبل” مـن الـرؤى املثاليـة واملعتقـدات غـر العلميـة إىل دراسـة علميـة ذات مناهـج ومداخـل تحليليـة منضبطـة، وعـى الرغـم مـن ذلـك فـإن قـدرة األكادمييـن والخـراء عـى اسـتيعاب التحـوالت الجوهريـة التـي شـهدها العـامل خـالل اآلونـة األخـرة قـد تراجعـت، حيـث أصبـح “التغيـر الرسيـع واملتواصـل والالمتوقـع” مـن مسـلامت الواقـع الراهـن The New Nor( ،)mal يف ظـل التعقيـد والتداخـل بـن االتجاهـات املختلفـة، واندثـار الحـدود الفاصلـة بـن املسـتويات الداخليـة واإلقليميـة والعامليـة، وتـآكل الفـوارق التقليديـة بـن الفاعلـن، والتعـدد الالنهـايئ للقضايـا والتطـورات واملعطيـات التـي تتسـبب متابعتهـا يف إنهـاك قـدرات األكادمييـن والخـراء واملتابعـن.
وال تقتــر تحديــات دراســة املســتقبل عــى تتابــع الصدمــات املســتقبلية والتغــر الرسيــع وغــر القابـل للتوقـع للظواهـر السياسـية واالجتامعيـة، إذ متتـد هـذه التحديـات لعـدم قـدرة غالبيـة املفاهيـم واملناهـج العلميـة وأدوات التحليـل يف العلـوم االجتامعيـة يف التكيـف مـع هـذه التغـرات الرسيعـة.
ولقـد أدى اتسـاع الفجـوة بـن “عـامل النظريـات” و“عـامل السياسـة” إىل حالـة انفصال بـن التنظر يف العلـوم السياسـية واالجتامعيـة ومجريـات وتطـورات الواقـع نتيجـة توظيـف مفاهيـم ومناهـج وأطـر نظريـة تفتقـد للداللـة لوصـف ظواهـر واقعيـة مغايـرة متامـاً لسـياقات نشـأة وتطـور هـذه النظريـات؛ مـام يتسـبب يف غمـوض والتبـاس شـديَديْن يف وصـف وتفسـر ورصـد االتجاهـات السياسـية الصاعـدة.
وكان افتقــاد اإلطــار النظــري املالئــم لوصــف الوضــع الراهــن للتفاعــالت السياســية أحــد معــامل حالـة “االرتبـاك” والعشـوائية يف التعامـل مـع الواقـع الجديـد لعـامل السياسـة الـذي يتسـم بالتعقيـد والتحــوالت الرسيعــة واملفاجئــة واالفتقــاد لألطــر التفســرية واملداخــل التــي ميكنهــا اســتيعاب حالــة االضطــراب للثوابــت عــى املســتويات الداخليــة واإلقليميــة والدوليــة، والدعــوات املتزايــدة ملراجعــة املفاهيـم واملداخـل التحليليـة واسـتبعاد “املفاهيـم املتصدعـة” مـن خطـاب ومامرسـات السياسـة والبحـث عـن مداخـل ومفاهيـم بديلـة.
وعـى مسـتوى آخـر، تصاعـدت حـدة تأثـر التحيـزات الذاتيـة للخـراء واملحللـن يف تفسـراتهم لتحـوالت الواقـع ورؤيتهـم للعـامل، وتعـددت التجليـات عـى إخفـاق توقعاتهـم وضعـف قدرتهـم عـى اسـتراف املسـتقبل اسـتناداً إىل معطيـات الواقـع، حيـث تعـددت التطـورات املفاجئـة التـي مل يتمكـن املحللــون مــن التنبــؤ بحدوثهــا مثــل ارتفــاع أســعار النفــط عقــب تراجعهــا لســنوات ممتــدة وانتهــاء التصعيـد بـن الواليـات املتحـدة وكوريـا الشـاملية وعقـد قمـة بـن دونالـد ترامـب وكيـم جونـج أون وتفاقـم الحـرب التجاريـة بـن واشـنطن وبكـن عـى الرغـم مـن اسـتبعاد بعـض الخـراء لحدوثهـا بنـاًء عـى تحليـل التكلفـة والعائـد، وهـو مـا ينطبـق عـى ظواهـر، مثـل متـدد تنظيـم “داعـش” يف سـوريا والعـراق ثـم انحسـاره وتحريـر املناطـق الخاضعـة لسـيطرته.
وتعـد االنتخابـات الرئاسـية األمريكيـة منوذجـاً واضحـاً عـى سـقوط تقديـرات الخراء واسـتطالعات الـرأي للنتائـج يف مراحـل االنتخابـات كافـة، بدايـة مـن املرشـحن املحتملـن، مـروراً بنتائـج االنتخابات التمهيديـة، وانتهـاًء بتقديـر املرشـح األقـرب لحسـم االنتخابـات، وهـو مـا يؤكـد أن مثـة معضلـة ذات أبعـاد علميـة وتطبيقيـة تتعلـق باسـتعصاء الصدمـات والظواهـر الصاعـدة عـى التنبـؤ.
ومل تكـن صدمـة حسـم “دونالـد ترامـب” النتخابـات الرئاسـة األمريكيـة سـوى تجـٍل وحيـد ملعضلـة التنبـؤ بالتحـوالت الواقعيـة، حيـث رجحـت أغلـب التحليـالت واسـتطالعات الـرأي، عـى مـدار فـرة طويلـة، حسـم منافسـته الدميقراطيـة “هيـالري كلينتـون” السـباق االنتخـايب بفـارق كبـر.
وعقـب نهايـة السـباق االنتخـايب أخفقـت االجتهـادات التحليليـة مجـدداً يف توقـع السـلوك السـيايس لرامـب بعـد الفـوز بالرئاسـة، وسـقطت غالبيـة التحليـالت التـي توقعـت تغـر سـلوكه تدريجيـاً باتجـاه االعتــدال واملحافظــة وانتقــاء معاونــن عــى درجــة عاليــة مــن الخــرة السياســية واالتــزان، إذ مل يتوقـع أي مـن املتابعـن اتجاهـات “اإلربـاك السـيايس” )Political Disruption( التـي اتبعهـا ترامـب والقامئـة عـى اإلضعـاف املتعمـد لـدور املؤسسـات وتفكيـك الثوابـت والسياسـات الراسـخة، باإلضافـة للتغيـر الرسيـع ألقطـاب اإلدارة األمريكيـة.
وميكـن يف هـذا الصـدد إضافـة قامئـة طويلـة مـن التحـوالت املفاجئـة التـي أخفـق أغلـب املحللـن واملتابعـن والخـراء يف اسـتراف احتامليـة حدوثهـا، عـى الرغـم مـن وجـود بـوادر ومـؤرشات أوليـة ترجـح هـذه االحتـامالت، مثـل: تصويـت غالبيـة الريطانيـن لصالـح االنفصـال عـن االتحـاد األورويب، ومتكــن مؤيــدي الرئيــس الــريك رجــب طيــب أردوغــان مــن التصــدي ملحاولــة االنقــالب العســكري، واالنتشـار اإلقليمـي للثـورات العربيـة، وتفجـر الراعـات األهليـة يف بعـض الـدول العربيـة، والتمـدد الرسيـع للتنظيـامت اإلرهابيـة واخراقهـا للـدول الغربيـة، وتفجـر األزمـات االقتصاديـة العامليـة؛ وهـو مـا أجـج الجـدل املتزايـد حاليـاً حـول أسـباب وتداعيـات إخفـاق التنبـؤ بالصدمـات املسـتقبلية واآلليـات واملفاهيـم البديلـة التـي ميكـن مـن خاللهـا اسـتيعاب التحـوالت املفاجئـة والتغـرات الرسيعـة.
ويف هـذا السـياق، تسـعى هـذه الدراسـة ملراجعـة افـراض مفـاده أن دراسـة املسـتقبل باتـت تواجـه معضلــة معقــدة ذات ثالثــة أركان، تتمثــل يف أزمــة العلــوم السياســية، وتزايــد تعقيــدات التحــوالت الواقعيـة، والقصـور اإلدرايك للمتخصصـن والخـراء يف التعامــل مـع املسـتقبل، وهـو مـا يزيــد مــن أهميـة آليـات التكيـف واالسـتعداد الوقـايئ ملواجهـة التطـورات املفاجئـة وغـر القابلـة للتوقـع، ومبعنـى آخـر فـإن التعامـل مـع املسـتقبل قـد انتقـل مـن محـاوالت االسـتراف إىل مداخـل التكيـف واالسـتيعاب وزيــادة درجــة املرونــة وتعزيــز القــدرة عــى االرتــداد الرسيــع )Resilience( يف مواجهــة التحــوالت املس ـتقبلية.
وتنقسـم الدراسـة إىل عـدة محـاور رئيسـية يركـز أولهـا عـى تطـور دراسـة الظواهـر املسـتقبلية، ويتنـاول املحـور الثـاين خريطـة مداخـل “دراسـات املسـتقبليات”، أمـا املحـور الثالـث فركـز عـى أبعـاد “معضلـة املسـتقبل” يف العلـوم االجتامعيـة، ويناقـش املحـور الرابـع يف الدراسـة إشـكاليات اسـتيعاب التحـوالت الرسيعـة للواقـع، ويركـز املحـور الخامـس عـى املعوقـات اإلدراكيـة لدراسـة املسـتقبل، وختامـاً يتنـاول املحـور السـادس أسـاليب اسـتيعاب “صدمـات املسـتقبل”.