Future Studies

مقدمة المحرر

-

ال تـكاد تخلـو أي مـن مجـاالت الحياة اإلنسـانية من تجليـات وتطبيقات صاعـدة للـذكاء الصناعي، إذ يتسـم عـر الثـورة الصناعيـة الرابعـة باالندماج املتصاعـد بـن تطبيقـات “ذكاء اآلالت” والتفاعالت البرشيـة لتتغـر مالمـح املجـاالت االقتصاديـ­ة واألمنية واالجتامعي­ة والسياسـية بصـورة هيكلية.

ويف هـذا اإلطـار، تطـرح الدراسـات املسـتقبلي­ة تصـورات حـول “ذكاء اصطناعـي ذايت التطـور” و “طفـرة غـر مسـبوقة يف تعلـم اآلالت” فيـام يطلـق عليـه “التفـرد اآليل” بحيـث يصـل االندمـاج بن البـرش واآلالت الذكيـة إىل مرحلـة “مـا بعـد اإلنسـانية” التـي تقـوم عـى تجـاوز اإلنسـان للحـدود والقيـود عـى قدراتـه اإلدراكيـة والحركيـة وقدرتـه عـى التحـول وهـو مـا قـد يـؤدي إىل تراجـع القـدرة عـى التفرقـة بـن اإلنسـان واآلالت مـع متاهـي الحـدود الفاصلـة بينهـام.

ولقـد تأسـس الـذكاء االصطناعـي عـى اتجاهـات ملحـاكاة القـدرات العقليـة واإلدراكيـ­ة والحسـية للبـرش وقدراتهـم عـى االختيـار وإجـراء حسـابات منطقيـة للتعامـل مـع البيئـة املحيطة اعتـامدا عى التطـور االسـتثناي­ئ يف تصنيـع املعالجـات والحواسـب اآلليـة.

ويسـعى الـذكاء االصطناعـي ملحـاكاة عـدة قـدرات، يتمثل أهمهـا يف القـدرة عى التعلم، واسـتيعاب املعرفـة ومتثيلهـا واسـتدعائه­ا، وتحليـل اللغـة واإلدراك الكامـل لألصـوات والصـور والفيديـو وحـل املشـكالت واإلبـداع والتفاعـل االجتامعـي وغرهـا مـن القـدرات البرشيـة.

ويتصـل ذلـك بالتطـور الرسيـع لتطبيقات الـذكاء االصطناعـي، التي تشـمل تعزيز قـدرات محركات البحــث، وتطويــر املســاعدا­ت الشــخصية القــادرة عــى التعــرف عــى األوامــر الصوتيــة وتحليلهــا واالسـتجاب­ة لهـا، وتقنيـات التعـرف عـى الوجـوه وتطبيقـات ترشـيح املنتجـات التـي تسـتخدمها بعض منص ـات البي ـع اإللك ـروين، مث ـل أم ـازون وبرام ـج التنب ـؤ بأس ـعار األس ـهم، باإلضاف ـة للتط ـور يف مجـاالت الرقابـة واملتابعـة والرصـد والقيـادة الذاتيـة للسـيارات والتصنيـع واملنـازل الذكيـة.

ولقـد أثـار التطـور يف تكنولوجيـا الـذكاء االصطناعـي سـباقاً محتدمـاً بن القـوى الدوليـة الكربى لتحقيـق الصـدارة التكنولوجي­ـة، وذلـك عـرب مسـارين رئيسـين، أولهـام تبنـي مبـادرات ومرشوعـات تعزي ـز الق ـدرات الوطني ـة ع ـى املس ـتوى التقن ـي وتحفي ـز التط ـور يف مج ـاالت الث ـورة الصناعي ـة الرابعـة، أمـا املسـار الثـاين فيتمثـل يف تحجيـم قـدرات الخصـوم مـن خـالل فـرض قيـود عـى تصديـر املنتجـات املتطـورة واملعالجـا­ت شـديدة التقـدم وإعاقـة تدفقـات انتقـال املعرفـة التقنيـة وتجميـد برامـج التبـادل الطـاليب وفـرض حظـر عـى عمـل الـرشكات وهـو مـا يتجـى يف الـراع املسـتحكم بـن الواليـات املتحـدة والـدول األوروبيـة مـن جانـب والصـن مـن جانـب آخـر ضمـن الحـرب التجاريـة والتكنولوج­يـة الدائـرة بينهـام.

وال تقتــر دوافــع “حــرب الــذكاء االصطناعــ­ي” عــى الســعي لتحقيــق الصــدارة التكنولوجي­ــة، وإمنـا تتصـل بالتطبيقـا­ت األمنيـة والعسـكرية املتزايـدة للـذكاء االصطناعـي، والتـي سـتؤدي لتغرات جذريـة يف عمـل املؤسسـات األمنيـة والعسـكرية عـرب العـامل وتحديـداً فيـام يتصـل بالعالقـة بـن العنـر البـرشي ومنظومـات التسـلح واملعـدات بصفـة عامـة، وعـى سـبيل املثـال، تدعـم تكنولوجيـا الــذكاء االصطناعــ­ي إمكانيــة االعتــامد عــى “نظــم التســليح املســتقلة” ‪Autonomous Weapon(‬ )Systems والتنسـيق بـن أرساب الدرونـز يف تنفيـذ العمليـات وتطويـر نظـم االسـتهداف وأنظمـة التدريـب واملحـاكاة.

وتتيـح تطبيقـات الـذكاء االصطناعـي إمكانيـات غـر مسـبوقة يف مجـاالت الرقابـة واالسـتطال­ع وتأمـن الحـدود والتحقـق مـن هويـة األفـراد ومكافحـة الجرائـم ورصـد واحتـواء تهديـدات األمـن

الداخـي اعتـامدا عـى تحليـل البيانـات الضخمـة ‪،)Big Data(‬ وهـو مـا يرتبـط بدعـم عمليـة اتخـاذ القــرار اســتنادا لفهــم أكــر دقــة ملعطيــات البيئــة الداخليــة واإلقليميـ­ـة والدوليــة وتقييــم وتوقــع توجهـات ومواقـف املواطنـن تجـاه القـرارات والسياسـات التـي يتـم اتخاذهـا.

وعـى املسـتوى االقتصـادي، فـإن بيئـة األعـامل تتعـرض حالياً لتغـرات جوهريـة نتيجـة للتحوالت التقنيــة الرسيعــة، حيــث تبدلــت مالمــح عمليــات التصنيــع والتســويق واملبيعــا­ت وخدمــة العمــالء نتيجـة لدمـج تقنيـات الـذكاء االصطناعـي التـي تسـهم يف تعزيـز القـدرة عـى فهـم األسـواق، وتوقع االتجاهـات االقتصاديـ­ة، وتعزيـز اإلنتاجيـة والرقابـة عـى الجـودة، ومواجهـة االختـالال­ت الكامنـة يف العمليـة اإلنتاجيـة، وتعزيـز قـدرة الـرشكات عـى الدعايـة والتسـويق للمنتجـات عـرب قـراءة أعمق لتفضيـالت املسـتهلكن واحتياجاته­ـم، كـام سـتحقق الـرشكات وفـورات ضخمـة مـن تقليـص االحتياج لأليـدي العاملـة يف عـدد كبـر مـن القطاعـات واسـتبداله­ا بالنظـم الذكيـة، وهـو مـا سـترتب عليـه يف املقابـل تداعيـات اقتصاديـة واجتامعيـة ضخمـة.

وتثـر تقنيـات الـذكاء االصطناعـي كذلـك إشـكاليات تتعلـق مبـدى قبول األفـراد التخـاذ تطبيقات ال ـذكاء االصطناع ـي للق ـرارات وتقدميه ـم للخدم ـات وم ـدى ارتياحه ـم للتفاع ـل م ـع اآلالت بدي ـالً عـن البـرش، فضـالً عـن ردود األفعـال الرافضـة الخـراق خصوصيـة األفـراد وتوظيـف بياناتهـم الشـخصية ضمـن حـزم البيانـات الضخمـة التـي يعتمـد عليهـا الـذكاء االصطناعـي، ناهيـك عـن احتـامالت االفتقـاد للتـوازن والتحيـز يف قـرارات تطبيقـات الـذكاء االصطناعـي يف املجـاالت املاليـة واالئتامني­ـة واإلسـكان والتوظيـف بالنظـر إىل االنفصـال بـن الواقـع والتمثيـل الكمـي للبيانـات التي يتـم االعتـامد عليهـا يف اتخـاذ القـرارات.

ويف هـذا اإلطـار، يركـز العـدد السـادس مـن سلسـلة دراسـات املسـتقبل عـى موضـوع “الـذكاء االصطناعــ­ي: مالمــح وتداعيــات هيمنــة اآلالت الذكيــة عــى حيــاة البــرش”، حيــث تبــدأ الدراســة بتعريـف الـذكاء االصطناعـي والتفرقـة بـن أمناطـه، ثـم تتطـرق الدراسـة يف املحـور الثـاين ملراحـل وموجـات تطـور الـذكاء االصطناعـي واالنتقـال بـن مراحل الفهـم وتكويـن العالقـات االرتباطية إىل تشـكيل الوعـي واسـتقاللي­ة اتخـاذ القـرار، ثـم مرحلـة ذاتيـة التطـور.

ويركـز املحـور الثالـث عـى خريطـة النـامذج والتطبيقـا­ت التـي تشـمل الروبـوت والسـيارات ذاتية القيـادة والدرونـز والطابعـات ثالثيـة األبعـاد وإنرنـت األشـياء وبرامـج املسـاعدة الصوتيـة واملتابعـة والرصـد الشـامل والنظـم اآلليـة للـرد عـى استفسـارات العمـالء وتوقـع احتياجـات العمـالء، ويتناول املحـور الرابـع اتجاهـات الـراع الـدويل عـى الـذكاء االصطناعـي بـن القـوى الكـربى.

ويتنــاول املحــور الخامــس تداعيــات الــذكاء االصطناعــ­ي عــى املســتويا­ت السياســية واألمنيــة والعســكري­ة واالقتصادي­ــة واالجتامعي­ــة والبيئيــة، ويف النهايــة يتنــاول املحــور األخــر بالدراســة إشـكاليات وتحديـات الـذكاء االصطناعـي التـي تشـمل اختـالل توزيـع الدخـول وتغـر خريطـة املهن والتوظي ـف، وتزاي ـد الرف ـض املجتمع ـي وتداعي ـات ع ـدم دق ـة البيان ـات واحت ـامالت التحي ـز.

وأعـد هـذه الدراسـة أ. إيهـاب خليفـة، رئيـس وحـدة متابعـة التطـورات التكنولوجي­ة مبركز املسـتقبل لألبحـاث والدراسـات املتقدمـة، وهـو باحـث دكتـوراه يف مجـال املـدن الذكيـة، ولـه عـدة مؤلفـات منشـورة يف صدارتهـا كتـاب “حـروب مواقـع التواصـل االجتامعـي”، وكتـاب “القـوة اإللكرونيـ­ة” الحاصـل عـى جائـزة أفضـل كتـاب يف مجـال العلـوم الرقميـة مـن معـرض القاهـرة الـدويل للكتاب ،2018 وقـام املؤلـف مؤخـراً بنـرش كتـاب، “مجتمع مـا بعد املعلومـات: تأثر الثـورة الصناعيـة الرابعة ع ـى األم ـن القوم ـي” ضم ـن سلس ـلة “كت ـب املس ـتقبل”، الص ـادرة ع ـن مرك ـز املس ـتقبل لألبح ـاث والدراسـات املتقدمـة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates