Trending Events

الدويلات!:

التحول من “عصبية الدولة” إلى “دولة العصبة” في المنطقة العربية

- 11 2001 2003

إن الكيانات السياسية التي بدأت في التشكل والظهور في الكثير من الدول العربية، لا يمكن لأي باحث يحرص على الدقة والموضوعية أن يطلق عليها أياً من صفات الدولة، أو حتى تصغير الدولة في صورة “دويلة”، وذلك لأنها - ما عدا الحالة الكردية - لا تحقق أياً من عناصر الدولة التي هي: شعب، وإقليم، وحكومة ذات سيادة، فهذه الكيانات مثل تنظيم “داعش”، أو غيره، ليست سوى مجموعات أو عصابات مسلحة، تتحرك على أراض غير مستقرة، لا يخضع لها شعب طواعيةً، وإنما تحت تهديد السلاح، لذلك لا علاقة لها بأي معاني أو دلالات الدولة، فهي أقرب للعصابات وقطاع الطرق وصعاليك الجاهلية.

وإذا أردنا فهم وتحليل هذه الظاهرة، سنجد أننا مضطرون للعودة لنظرية ابن خلدون في نشأة الدول وانهيارها، فقد كانت ولم تزل نظريته صالحة في تفسير نشأة الدولة ونموها واستقرارها أو انهيارها، فقد ربط كل ذلك بمفهوم العصبية، الذي يعني في عصرنا هذا كل مفاهيم التماسك الاجتماعي، والانسجام بين الدولة والقوى الاجتماعية الفاعلة والشرعية والرضا السياسي، كل ذلك تضمنه مفهوم العصبية الخلدوني بجانبيه: عصبية النسب، وعصبية الانتساب) أي الرابطة العرقية، والتحالفات السياسية بين المكونات الاجتماعية.

وقد يظن البعض أن الدولة الحديثة في العالم العربي قد تجاوزت الفكر الخلدوني، وانتقلت إلى الصورة الأوروبية، متمثلةً في الدولة القومية (Nation State )، والواقع أن العرب نقلوا صورة الدولة الحديثة ومؤسساتها، ولكن ظلت الروح خلدونية خالصة، تقوم على عصبية النسب أو الانتساب أوكليهما معاً، ولم تظهر في العالم العربي بعد حقيقة الدولة القومية، وإلا لكان العرب جميعاً في دولة واحدة.

وقد أخذ مفهوم العصبية الخلدوني أشكالاً وتمظهراتٍ متعددة، فبعضها كان عبارة عن تحالفات قبلية تجمعها قيم دينية، كما في الخليج العربي، وفي البعض الآخر كانت نخباً سياسية، تمثل في جوهرها تحالفات اجتماعية معينة تقود إلى تكوين طبقة سياسية، أو أحياناً "شلة سياسية" أو "عصبة سياسية"، على حد وصف "روبرت سبرنجبورج") وفي حالة ثالثة مثلت الأحزاب البعثية، والقومية، واليسارية، صورة حديثة من عصبية ابن خلدون.

وفي جميع هذه الحالات كانت هذه العصبية بما تعنيه من تماسك مجتمعي، وانسجام بين الدولة والمجتمع، ورضا وقبول لنظام الحكم، تؤسس لشرعية سياسية راسخة، كانت هذه الحالة هي مصدر وجود واستمرار الدولة العربية بغض النظر عن إنجازاتها التنموية، وعما تقدمه للمواطن من قيم سياسية أو اقتصادية، فالدولة تماهت مع الهوية وامتزجت بها، وأصبح المواطن لا يرى لنفسه وجوداً، ولا حياة بدون الدولة، فهي هويته وماهيته ومصدر فخره واعتزازه، وهي عنده فوق القبيلة والطائفة والعرق، لأنه من دون الدولة لن يستطيع أن يحافظ على طائفته أو عرقه أو دينه.

وحيث إن الدلالات السياسية والاجتماعي­ة والاقتصادي­ة للعصبية الخلدونية هي التي تفسر نشأة واستمرار الدولة العربية الحديثة، فإن تفكك وانشطار وتشرذم الدولة العربية في الفترة المعاصرة يعود في جوهره إلى خلل جوهري طرأ على جوهر البنية الاجتماعية السياسية للعصبية الاجتماعية، أدى إلى ظهور دويلات صغيرة على أسس عرقية أو طائفية أو تنظيمات الهوى الديني المتطرف، كل ذلك على حساب الدولة العربية الحديثة، واستقرارها واستمرارها، وهنا يكون من المنطقي أن تنشأ عصبات أو عصابات جزئية وصغيرة عندما ينفرط عقد العصبية الجامعة للمجتمع والدولة، مثل حالة الأحزاب الدينية في العراق التي أصبح لكل منها عصابة مسلحة يطلق عليها اللفظ الإنجليزي المقابل "ميليشيا".

وفي السياق الآتي سوف نقوم برصد وتحليل العملية التي تم من خلالها ظهور الدويلات العرقية والطائفية والدينية المتطرفة على أنقاض الدول العربية الكبرى، وطبيعة الكيانات السياسية التي بدأت تتشكل في العالم العربي، والتي لا تخرج عن ثلاثة أنماط رئيسية هي: الكيانات القبلية العرقية، والكيانات الطائفية المذهبية، والكيانات الفوضوية الثورية.

اأولاً: عالم ما بعد الحرب الباردة: تركيب الدول وتفكيكها

شهد العالم منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وانتهاء مرحلة الحرب الباردة ظاهرتين متزامنتين ومتعاكستين، أولاهما: تفكك الدول التي كانت تابعة للكتلة الشرقية، أو دول حلف وارسو، ودول حليفة لها في العالم الثالث، فما أن أعلن الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف دعوته لإعادة البناء أو البروستريك­ا، إلا وبدأت معاول الهدم في بنية الاتحاد السوفييتي، ليتحول في فترة وجيزة إلى خمس عشرة جمهورية، بعضها بدأ يدخل في مراحل انشطار متواصلة، لا تقف عند حد معين، مثل روسيا ذاتها وأوكرانيا وأذربيجان.. وغيرها، والأمر نفسه حدث في يوغوسلافيا التي تحولت إلى ست جمهوريات، وبدأ بعضها يتفكك داخلياً مثل البوسنة والهرسك وكرواتيا وصربيا، والأمر نفسه حدث مع تشيكوسلوفا­كيا.

وقد تكرر السيناريو نفسه في العالم الثالث بدرجات متفاوتة، ابتداء من استقلال تيمور الشرقية عن إندونيسيا، إلى استقلال جنوب السودان، مروراً بالصومال وإريتريا…إلخ، ولم تزل تفاعلات هذه الدينامية الدولية تعمل في العديد من دول العالم الثالث، ولو بدرجات مختلفة وإيقاعات متنوعة من العراق إلى

سوريا إلى ليبيا….إلخ.

والظاهرة الثانية كانت في العالم الأول الغربي، حيث اتجهت الدول إلى التوحد والدخول في عملية تركيب، حيث ظهرت اتحادات كبرى تجمع دولاً عديدة، وتنتقل إلى درجات أعلى من الوحدة تصل إلى حدود الاتحادات الكونفدرال­ية، ابتداء من السوق المشتركة إلى البرلمان الواحد، وأخيراً العملة الواحدة، والتأشيرة الواحدة، والسياسة الخارجية والدفاعية الواحدة، حيث أصبحت أوروبا التي لم تشهد بقعة في العالم حروباً داخلية مات فيها عشرات الملايين من البشر مثلها دولة واحدة أو شبه دولة واحدة( ).

ومن خلال هاتين الحركتين المتعاكستي­ن نستطيع أن نخرج بخلاصة نظرية مفادها: أن مفهوم الدولة القومية قد وصل إلى نهاياته الحتمية، ليفسح المجال أمام دولة المصالح الكبرى، أو دولة المصالح التوافقية من جانب، ودولة الطائفة أو العرق أو العصابة من جانب آخر.

وإذا أمعنا النظر في الحالتين سنجد أن الثانية تحقق أهداف الأولى، فدولة المصالح الكبرى تريد أن تفسح المجال أمام شبكات مصالحها، من خلال إزالة كل العوائق والعقبات، وتفكيك تلك الكيانات القومية التي كانت تزعج العالم بأحلامها التاريخية، وأمجادها الماضوية، وطموحاتها الساذجة في إعادة عظمة الأيام الغابرة، لتظهر محلها كيانات ضعيفة هزيلة، لا تريد سوى بعض المصالح الصغيرة التي تتناسب مع حجمها الصغير.

وفي ظل هذه الوضعية الدولية الجديدة نستطيع فهم دور

ينبغي النظر إلى الدعم الغربي، خصوصاً الأمريكي لجماعة الإخوان من خلال الرؤية الاسراتيجي­ة الغربية التي تعمل على تشجيع التخلص من الدول القومية، وتحويلها إلى كيانات أصغر، طائفية وعرقية وعصابات الهوس الديني.

دولة قطر بصفتها أحد المتبنيين الرسميين لهذه الرؤية في العالم العربي، يتم من خلالها تفكيك دوله الأساسية، حتى تصبح قطر من بين الكيانات الكبيرة في المنطقة، لذلك لا ينبغي أن يتم اعتبار ما تقوم به قطر – كما هو سائد الآن - من سعي حثيث لتفكيك سوريا وليبيا واليمن ومصر وخلافاتها مع السعودية والإمارات والبحرين، لا ينبغي اعتبار ذلك نابعاً من صانع القرار القطري، لأن الحقيقة غير ذلك، فهو دور دولي تؤديه القيادة القطرية للحفاظ على وجودها، ولا تستطيع التراجع عنه بسهولة.

كذلك ينبغي النظر إلى الدعم الغربي، خصوصاً الأمريكي لجماعة الإخوان من خلال هذه الرؤية الاستراتيج­ية الغربية التي تعمل على تشجيع التخلص من الدول القومية، وتحويلها إلى كيانات أصغر، طائفية وعرقية وعصابات الهوس الديني، ولا يمكن أن يقوم بهذا الدور أفضل من حركة الإخوان التي تمثل طائفة دينية ذات أيديولوجية صلبة، وفي الوقت نفسه تمثل جماعة عرقية من حيث اقتسام المصالح والانغلاق على الآخرين، وهي عصابة دينية يشتمل فكرها على كل تناقضات الفكر الإسلامي في أشد العصور تخلفاً، لذلك وجد فيها العالم الغربي فرصة نادرة تحقق أهدافه من دون مواجهات أو تلويث سمعة الحضارة الغربية، ولذلك كان الغضب على المصريين شعباً وجيشاً لأنهم أفشلوا هذه الاستراتيج­ية بأسرع مما كان يتوقع العالم، فقد أدرك العقل الاستراتيج­ي الأمريكي أهمية دور تنظيم الإخوان منذ ما بعد أحداث سبتمبر ، حيث ظهر اتجاه يدعو إلى توظيف حركة الإخوان لمواجهة القاعدة وأمثالها، باستراتيجي­ة "هنري كيسنجر" نفسها الداعية الى استخدام الشيوعي الجيد لمواجهة الشيوعي الرديء( ).

ثانياً: تاآكل مفهوم ال�سيادة: البداية من العراق

منذ ما يزيد على ربع قرن والتحولات الكبرى في العالم العربي مرتبطة بدائرة مركزها بغداد ومحيطها، تتسع وتضيق لتشمل العديد من الأطراف العربية والإقليمية، فصيرورة الثورة الإيرانية والثروة الخليجية ارتبطت - إلى حد كبير- بالحالة العراقية، حيث يمكن القول - دون مبالغة - إن طبيعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وعلاقاتها الإقليمية والدولية كانت ستصبح مختلفة إذا لم يدخل النظام العراقي في حالة حرب معها، كذلك فإن الثروة النفطية في دول الخليج كانت ستقود المجتمعات الخليجية إلى وضعيات مختلفة لو لم تدخل العراق الكويت، ولو لم يتم استنفاد هذه الثروة مرة في دعم العراق، ومرة أخرى في محاولة احتواء تداعيات ما يمر به العراق منذ الاحتلال الأمريكي لها عام .

وتأسيساً على ذلك، فإن الحالة العراقية ليست حالة داخلية تتعلق بالوضع العراقي الوطني، بل إنها في جوهرها تمثل تجلياً للحالة العربية من ناحية، وعامل تغيير قوي التأثير في الوضع العربي من ناحية أخرى، ومن ثم فإن كل ما حدث في الحالة العراقية، ابتداء من الحرب العراقية الإيرانية، وإلى الدولة الداعشية، ترك آثاره على حاضر ومستقبل الدولة في الوطن العربي، فكل الظواهر الجنينية التي تشكلت في مدارات الحالة العراقية بدأت تحدث آثارها ونتائجها في مختلف الدول العربية.

لقد مثلث حرب تحرير الكويت وما ترتب عليها من فرض لمناطق الحظر الجوي شمال العراق وجنوبها بداية لحدوث حالة من التآكل في مفهوم السيادة، ذلك المفهوم الذي اعتبر أساساً في العلاقات الدولية، وقاعدة لاستقلال الدولة، وضماناً لسلطتها على إقليمها الجغرافي، سلطة لا ينازعها فيها أحد، فقد كانت الحالة العراقية منذ ذلك التاريخ حقلاً لاختبار مدى إمكانية سريان سيادة دولة أو مجموعة من الدول – ممثلة في الولايات المتحدة وما استطاعت بناءه من تحالفات - على دولة أخرى خارج إطار الأمم المتحدة، ومؤسسات الشرعية الدولية الأخرى. فقد استطاعت الولايات المتحدة وبريطانيا تقييد سيادة الدولة العراقية على إقليمها

بإرادة منفردة.

وانطلاقاً من الحالة العراقية تم تعميم هذا النموذج على دول مثل الصومال، ويوغوسلافي­ا في حالة كوسوفو، وإندونيسيا في حالة تيمور الشرقية، وجرى بعد ذلك تعميمها على مختلف الدول العربية، وإن كان في مجالات أقل ظهوراً وأعمق تأثيراً مثل الاقتصاد والتعليم وغير ذلك، إلى أن أصبح مفهوم السيادة فاقداً لجوهره المعرفي، بصورة لم تبق منه إلا الاسم والشكل الخارجي؛ فلم تعد السيادة هي السلطة العليا المطلقة للدولة التي لا تعلوها سلطة في مجالها الجغرافي أرضاً وبحراً وجواً، بل أصبح من المقبول دولياً أن يتم تجاوز هذه السيادة تحت دعاوى إنسانية أو قانونية أو مصلحية، وبدأ يظهر خطاب أكاديمي يتنبأ بانتهاء مفهوم السيادة في ظل عالم يغلب عليه التمزق، والتداخل في المصالح( )، وهو ما تحقق بالفعل في مرحلة لاحقة، حيث لم تعد السيادة غاية تضحي من أجلها الدول والشعوب، وتخوض الحروب للحفاظ عليها، بل على العكس أصبحت الدول والشعوب، حتى حركات التحرر الوطني تطلب، بل تستجدي التدخل الدولي لمساعدتها في صراعاتها الداخلية، ولم تعد فكرة سيادة الدولة مطلباً أو قيمة يحرص عليها أهلها كما كان من قبل.

ومع تآكل مفهوم السيادة في الوعي الجمعي للمجتمعات، وفي الإدراك السياسي للنخب، أصبح من غير المستبعد قبول تفكك الدول، وقبول وجود حركات وجماعات تستعين بكل القوى الخارجية من أجل نصيب ولو محدود في السلطة والثروة، حتى وإن كانت سلطة منقوصة أو متوهمة، وثروة ضئيلة أو معدومة، كما هي حال الحركات الانفصالية في دارفور في غرب السودان، التي رفعت شعارات اقتسام السلطة والثروة. والغريب أنه لا يوجد هناك ما يُقتسم إلا المشاركة في فساد نخبة الحكم في السودان على الرغم من شعاراتها الإسلامية، التي تحرص على أن تكون أفعالها على العكس منها تماماً، والتشارك في اقتسام الفقر والتخلف، بعد أن استنفد الفساد، والحرب الأهلية كل ثروات السودان.

إن حقيقة تآكل مفهوم السيادة في الإدراك السياسي للنخب مهد الطريق أمام ظهور دويلات طائفية وعرقية ودينية، وكذلك ساعد على ظهور هذه الدويلات، فتدخل إيران في تكوين جماعة الحوثي في اليمن، سواءً في تشكيل وعيها وتدريب كوادرها ودعمها بالمال والسلاح، كل ذلك تم تحت ظلال مفهوم باهت للسيادة في الدولة اليمنية عند النخبة الحاكمة وعند الشعب كذلك، وأصبح تعاون الطوائف الدينية مع الدول الراعية لهذه الطوائف أمراً غير مستهجن أو مرفوض، لأن الأرض أصبحت مباحة ولا سيادة للدولة عليها، وإنما كل جماعة أو طائفة أو عرق يملك نصيباً من السيادة حسب حجمه وموقعه.

ثالثاً: علاقة الدولة بالمجتمع: البيئة القابلة للان�سطار

علاقة الدولة بالمجتمع تمثل العنصر الحاسم في كل ما يتعلق بوظائف الدولة ونجاحها واستمراريت­ها، وكذلك في حيوية المجتمع وتماسكه واستقراره، ويعود الفضل في الكشف عن هذه المعادلة الأساسية في فهم الدولة، وتفسير أنماطها المختلفة إلى عالم السياسة الأمريكي جويل ميجدال في كتابه (مجتمعات قوية ودول ضعيفة)

حيث صنف العلاقة بين الدولة والمجتمع إلى أربعة أنماط طبقاً لقدرة كل من الدولة والمجتمع على تحديد سلوك الفرد، والتحكم في النظام العام للمجتمع، مثل الانضباط السلوكي في الأماكن العامة، وقواعد البيع والشراء، وتحديد المعايير العامة للسلوك الفردي، وهذه الأنماط هي:

• دولة قوية ومجتمع قوي، مثل النموذج الأمريكي. • دولة قوية ومجتمع ضعيف، مثل النظم الاشتراكية ونظم الجمهوريات العربية. • دولة ضعيفة ومجتمع قوي، مثل الكثير من النظم في غرب أفريقيا. • دولة ضعيفة ومجتمع ضعيف، مثل الصومال والعراق وليبيا واليمن. وتمثل هذه الأنماط الأربعة مختلف صور العلاقة بين الدولة والمجتمع في مختلف نظم العالم، ومختلف الفترات التاريخية، وما يهمنا من هذه النظرية في سياقنا هذا هو الإجابة عن السؤال المركزي لهذا البحث، وهو في أي من هذه الانماط تظهر الدويلات؟ وأيها يكون قابلاً للتفكك والسماح بظهور كيانات عرقية أو طائفية أو دويلات الهوس الديني؟

ومن المؤكد أن الأنماط الثلاثة الأولى محصنة ضد هذه الأمراض السياسية والاجتماعي­ة، وأن أي محاولة من الآخرين للتفكك السياسي أو الانشقاق الاجتماعي سوف يحول دون ظهورها المجتمع القوي، وسوف تردعها الدولة القوية إذا فشل المجتمع، ويبقى النمط الرابع يقدم البيئة المثالية لهذه الظواهر السياسية السلبية؛ لأن المجتمع يكون فيه من الضعف ما قد دخله في مرحلة

من التحلل، أو مرحلة فقدان المناعة الاجتماعية والسياسية، ومن ثم لن يكون قادراً على تحقيق التماسك الاجتماعي، والحيلولة دون تباعد مكوناته، وتنافرها إلى الحد الذي يؤدي إلى تحاربها وصراعها، وفي الوقت نفسه تكون الدولة عاجزة عن ردع هذه المحاولات، والحفاظ على تماسك المجتمع من خلال الاستخدام المشروع للقوة، سواء القوة المعنوية، أي قوة القانون، أو القوة المادية، أي قوة مؤسسات إنفاذ القانون.

وهنا تصبح الدول المندرجة في نموذج الدولة الضعيفة والمجتمع الضعيف قابلة للتفكك، ومن ثم تمثل بيئة مثالية لظهور هذا النمط من الدويلات، أو من دولة العصابة الطائفية أو العرقية، أو عصابة الهوس الديني. والواقع العربي الحالي ينبئ بأن العديد من دوله مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا، إذا استمرت على حالتها هذه فإنها مرشحة بقوة للتفكك، والانشطار اللامتناهي، وهنا ينبغي أن يكون مثال دولة جنوب السودان حاضراً، فبعد نصف قرن من الحرب الأهلية لتكوين دولة تجمع سكان جنوب السودان، لم تمر إلا بضع سنوات حتى ظهرت نزعات انفصالية لتقسيم جنوب السودان على أساس قبلي، وهذا النموذج سيكون هو السائد في الدول العربية المرشحة للتفكك، إذ إن الأمر لن يقف عند حد حدود إنشاء دويلات على أسس عرقية أو مذهبية أو طائفية، بل ستكون هناك متوالية من التشرذم لن تقف حتى تصل إلى أصغر الوحدات الاجتماعية.

رابعاً: ت�ساعد الولاءات الاأولية على ح�ساب ال�سيا�سية

عندما تضعف شبكة العلاقات الاجتماعية، وتتراخى روابط التماسك في المجتمع، وتدخل الدولة في طور التهرؤ ثم التحلل، حينها تبدأ الولاءات الأولية تتصاعد وتنمو وتتسع، وتبدأ القوى والجماعات الفاعلة في المجتمع بالبحث عما يميزها عن باقي المجتمع من أصول عرقية أو روابط دينية أو خصوصية طائفية أو مذهبية، وحينها تبدأ الروابط السياسية الجامعة للمجتمع في التراجع والانزواء ومن ثم التآكل، ونكون أمام حالة مثالية لظهور ولاءات أولية تقود إلى دويلات عرقية أو مذهبية أو عصابات هوس ديني. ونظراً لضعف الدولة وعدم فعالية قدراتها الردعية، سواء القانونية أو القوة السياسية، هنا يكون ظهور هذه الدويلات أمراً قابلاً للتحقق بصورة كبيرة.

وبالنظر إلى الحالة العراقية نجد أن الولاءات الأولية عرقية أو مذهبية أو دينية أصبحت أكثر قوة وتأثيراً من الولاءات السياسية ممثلة في الولاء للدولة ككيان سياسي جامع يمثل رابطة أعلى تنظم جميع المنتمين إليها، وتستحوذ على ولائهم وانتمائهم، فقد تدرج الوضع العراقي من مظلومية الشيعة من حكم صدام، إلى ظهور البيت الشيعي ككيان سياسي، ثم المناداة بإقليم شيعي في الجنوب، والشأن نفسه انطبق على الأكراد في الشمال، وظل العرب السنة يحاولون لعب دور المحافظ على وحدة العراق حتى ظهر تنظيم داعش، ففاق كل التوقعات في الدفع نحو التفتيت والانقسام، وذلك كله يحدث بسبب إطلاق الولاءات الأولية من عقالها، لتقود المجتمع إلى درجات من التشرذم قد لا تقف عند حدود.

وبالنظر إلى المجتمعات العربية الأخرى نجد أن تلك الولاءات الأولية، عرقية أو قبلية أو مذهبية، لم تزل فاعلة ومؤثرة بصورة قد تكرر نموذج العراق في دول عربية مثل اليمن الذي يتحرك وبصورة سريعة نحو دويلة الحوثي، التي تتخذ من دويلة حزب اله في جنوب لبنان مثالاً ونموذجاً يحتذى به، فالحوثي لا يسعى إلى الاستقلال، بل يسعى إلى التحكم في مصير اليمن تماماً مثلما

يفعل حزب اله، الذي لا يريد أن يستقل أو يحمل عبء الحكم بل يدير الدولة فقط بعدم الفعل وليس بالفعل، وقد اختصر حزب الله هذه المعادلة في عبارة بليغة هي "الثلث المُعطل"، أي أن يكون له في البرلمان ثلث الأعضاء فيعطل كل ما لا يحقق أهدافه فيصيب الدولة بالشلل، والحوثي يريد أن يقلد هذا النموذج بصيغة أخرى، بأن يكون هو قوة الشارع القادرة على الحشد، ومن ثم يكون "الحشد المُعطل"، فيتحكم في اليمن من خلال تحريك الجماهير بمنهجية الإخوان في مصر.

وهنا ينبغي أن نؤكد أن معادلات الولاءات الأولية إذا ما تداخلت قد تحول دون التفكك الاجتماعي، وظهور الدويلات الطائفية أو العرقية، وذلك إذا ما تداخل مصدران للولاء كالعرق والمذهب، فإذا كان الولاء المذهبي هو الدافع للانقسام وكان يتقاطع معه ولاء عرقي، هنا نكون أمام حالة نظرية جديدة يحددها الولاء الأقوى، فإذا كان الولاء الأقوى يدفع للانقسام ظهرت الدويلة، وإذا كان الولاء الأقوى يدعو إلى التوحد لم تظهر، وبالنظر إلى الحالة العراقية نجد أنه قد كان من المنطقي أن يؤدي ضعف الولاء السياسي للدولة، وقوة الولاءات الأولية للعرق أو المذهب الديني إلى اشتعال حرب أهلية في العراق، خصوصاً مع توفر العوامل المساعدة المتمثلة في حالة من المظلومية التاريخية لبعض الأطراف وتاريخ القمع السياسي والأمني، بل وانتهاك الحقوق الأولية للإنسان في بعض تكوينات الشعب العربي ووجود القوى الدولية التي دفعت لذلك على مستوى الخطاب الإعلامي والسياسي، وعلى الرغم من كل ذلك فإن الحرب الأهلية لم تكن الخيار الأقرب للتحقق، وذلك يعود فقط إلى قوة البنية القبيلة التي مثلت قاسماً مشتركاً بين الشيعة والسنة، وهما الطرفان اللذان تمت المراهنة على اشتعال حرب أهلية بينهما، ولعل هذه الوضعية تبين أن القبيلة قد استطاعت أن تحقق ما فشلت الدولة الحديثة في تحقيقه، وأن القبيلة استطاعت الاستمرار وبالقوة نفسها، بل ازدادت قوتها في ظل دولة قمعية يهيمن عليها حزب واحد، وتدار بطريقة بوليسية، وهذه الحال تدفع إلى إعادة النظر في دور القبيلة وكيفية توظيفه سياسياً بما يخدم تماسك الدولة وتطورها.

كان لابد أن تظهر صيغة سياسية جديدة تُشرعِن وجود الثوار الأجانب على نظام حكم وطني، فكان تنظيم "داعش" هو الإجابة العملية على هذه الحالة من الاختلاط بين الداخلي والخارجي، التي رسخها تيار المصدر الخارجي للشرعية الذي ابتكرته النخب التي تمت الثورة عليها.

خام�ساً: الم�سدر الخارجي لل�سرعية والتغيير

خلال الربع الأخير من القرن العشرين، اعتمدت كثير من الدولة العربية في شرعيتها على مصادر خارجية بعد أن فشلت في تأمين المصدر الداخلي والطبيعي لشرعية الوجود والاستمرار، نظراً لفشلها في تحقيق أهداف المجتمع في التنمية والديمقراط­ية والمشاركة وتأمين حياة كريمة للمواطن؛ فقد لجأت الدولة العربية إلى الاعتماد على مصادر خارجية للشرعية من خلال تأمين مصالح القوى الدولية المؤثرة، ومن خلال السعي الدائم لإرضاء تلك القوى، ولو على حساب المصالح القومية العليا لمجتمعاتها، ومع استمرار هذا الوضع لفترات زمنية ليست بالقصيرة؛ فقد برزت نخب سياسية بديلة معارضة للنخب السابقة تسعى لتحقيق الديمقراطي­ة اعتماداً على القوى الخارجية الداعمة للتحول الديمقراطي، وبذلك استعارت هذه النخب الجديدة استراتيجيا­ت النخب القديمة نفسها، ولكن لتحقيق التغيير السياسي والانتقال الديمقراطي والثورة على الظلم والاستبداد، فقد كان عنوان التحول الديمقراطي في العالم العربي في 2011 وما بعدها هو الاعتماد على الخارج في الثورة على الداخل) حيث لجأت تلك النخب إلى أطراف خارجية للتخلص من نظم الحكم التي تعارضها، وقد شجعهم على ذلك أن هذا النموذج أثبت نجاحاً ولو مؤقتاً في الحالة العراقية؛ لذلك قامت نخب أخرى في ليبيا وسوريا بالسير على النهج نفسه ساعية للحصول على الحرية والديمقراط­ية من خلال قصف طائرات الناتو لليبيا أو أسلحة الناتو لسوريا، للدولة ومقدراتها، لأنها في نظر هؤلاء الثوريين المعتمدين على الخارج هي دولة النظام القديم، وقد أدى ذلك إلى ظهور متوالية من التداخلات بين الداخل والخارج، فيلجأ النظام في سوريا إلى الدعم الخارجي، وتصبح إيران وحزب اله جزءاً من معادلة الحكم في سوريا في مواجهة قوى التغيير المدعومة أيضاً من الخارج.

إن هذا التمازج والتداخل بين الخارجي والداخلي فتح الباب أمام حالة جديدة، ليست هي أفغانستان في مواجهة الغزو الروسي، ولا الشيشان في مواجهة الاحتلال التاريخي الروسي، ولا البوسنة في مواجهة مذابح الصرب والكروات، فتكون حالة كفاحية واضحة في أذهان أصحابها، وإنما هي معارضة خارجية لنظام حكم وطني، جماعات تأتي من كل بقاع الأرض لتمارس دور المعارضة المسلحة لنظام لا علاقة لها به، ولم تكن يوماً من رعاياه ولن تكون يوماً من مواطنيه، لذلك كان لابد أن تظهر صيغة سياسية جديدة تُشرعِن وجود الثوار الأجانب على نظام حكم وطني، فكان تنظيم "داعش" هو الإجابة العملية على هذه الحالة من الاختلاط بين الداخلي والخارجي، التي رسخها تيار المصدر الخارجي للشرعية الذي ابتكرته النخب التي تمت الثورة عليها.

إنها معادلة طبيعية، لم يدرك من وضعوا بدايتها أنها ستقودهم إلى هذه النهاية الداعشية الدموية، المصدر الخارجي للشرعية، والدعم الخارجي للثورة، والتأييد الخارجي للثوار، يؤدي إلى نشوء دويلة خارجية في صورة داعش.

�ساد�ساً: ت�ساعد دور الكهنوت ال�سيا�سي

قد لا يكون من قبيل المبالغة القول إن الوضع الذي آلت إليه العراق يمكن اختزاله في الصراع بين السيد "علي السيستاني" و"الحسني الصرخي" كرمزين سياسيين مختلفين، وقد حسم الصراع لمصلحة السيد السيستاني، ولو على حساب ضياع وطن وتهديد مستقبل منطقة بأكملها. ولعل مراجعة الدور الذي يلعبه

السيد السيستاني سواءً في تأمين استمرار وشرعية التكوينات الشيعية التي أفرزها الاحتلال أو في تحقيق الانتقال المقبول من صيغة حكومية إلى أخرى أو في دوره في عملية الانتخابات... إلخ. كل ذلك يؤكد على حقيقة أن المرجعية الدينية قد لعبت دوراً سياسياً غير مسبوق في تاريخ العراق والعالم العربي، بصورة أصبح معها من المقبول سياسياً وإعلامياً تكرار توجيهات السيد السيستاني للقوى السياسية وللحكومات العراقية وللبرلمان، حتى أصبح هو الفاعل الأساسي والوحيد في العراق وكل القوى السياسية مجرد منفذين لتوجيهاته) وعندما حاول السيد "محمود الحسني الصرخي" تقديم فتوى مناقضة لفتوى الجهاد التي أعلنها السيد السيستاني، لانه رأى فيها دعوى مباشرة للحرب الأهلية، تم التعامل مع السيد الصرخي، وهو المرجع الديني المحترم، بأقسى درجات القوة والعنف، مما دفعه للاختباء بعد أن قُتل المئات من أتباعه، وقد فتح هذا الدور للسيد السيستاني شهية علماء آخرين مثل القرضاوي، الذي أصبح يقدم نفسه كمرجع للثورات العربية، وموجه للحكومات التي نشأت بعد الثورات، وكانت تابعة لتنظيم الإخوان.

هذا التصاعد لدور الكهنوت السياسي في العالم العربي يضرب في أساس شرعية الدولة الوطنية الحديثة التي تأسست مع محمد علي في مصر، ويفتح الباب واسعاً أمام كيانات جديدة يتم بناؤها على أنقاض هذه الدولة الحديثة، ولن تكون هذه الكيانات على الإقليم نفسه، أو في الحدود نفسها، بل ستكون خاضعة لصراعات جماعات الهوس الديني التي تعيش التاريخ بكل أزماته متجاهلة كل تعقيدات العصر ومعطياته، لذلك نشأت دولة "رفح الفلسطينية" على مساحة أقل من كليومتر واحد في ظل حكم حركة حماس الإخوانية لقطاع غزة، ونشأ تنظيم "داعش"، والخلافة الاسلامية في بورنو في شمال نيجيريا، وفي الطريق دويلات أمراء الحرب في ليبيا، واليمن وسوريا.

إن تصاعد دور الكهنوت السياسي استدعى معه كل الحمولة الثقافية من تاريخ الفتن في الأمة الإسلامية والسعي لإعادة إنتاجها، ابتداء من الصراع بين الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، وما أدى إليه من انقسام سني/شيعي، وانتهاء بمعاملة غير المسلمين بكل الصيغ التاريخية الظالمة التي يعيد "داعش" تطبيقها اليوم، وسيقود هذا إلى مزيد من التفجر في العالم العربي، خصوصاً مع ارتفاع مستوى الأمية ونقص الوعي السياسي وانتشار أجهزة تزييف الوعي والتسميم السياسي الذي تمارسه الأذرع الإعلامية لدولة قطر.

�سابعاً: اأنماط الكيانات ال�سيا�سية الجديدة في العالم العربي

هذه الكيانات السياسية الجديدة تقدم الدليل القاطع على أننا أمة متخلفة محنطة لم تغادر تاريخها ولم تصل إلى حاضرها ولن يكون لها مستقبل، إذا ظلت تفكر بالطرق نفسها وتؤمن بالقيم ذاتها. فإذا أمعنا النظر في طبيعة الكيانات السياسية التي بدأت تتشكل في العالم العربي، سنجد أنها تكرر وبصورة كاملة، الصور التاريخية لأمثالها في حقب التخلف والانحطاط الحضاري بما يؤكد أنها ظواهر خلقها عقل ماضوي سلفي فقير في الإبداع، لا يجيد إلا الاجترار والتكرار، هذه الكيانات تفتقد القدرة على الولوج للمستقبل؛ لأنها تنتمي إلى عالم الماضي، وهي في مجملها لا تخرج عن ثلاثة أنماط تعيد استنساخ التاريخ الإسلامي في أضعف حلقاته، وهي:

1- كيانات قبلية عرقية، تعيد إنتاج الشعوبية التي صبغت نهاية الخلافة الأموية، وكانت سبباً في انهيارها، فالحالة الكردية في العراق وقبائل الزغاوة في غرب السودان، وثوار الزنتان في ليبيا، جميعها حركات قبلية عرقية تتدثر بشعارات سياسية من قبيل العدالة والمساواة واقتسام السلطة والثروة والهوية… إلخ، وهذا يجعلها كيانات غير قادرة على التحرك صوب تأسيس الدولة التي تعلي قيم المواطنة والحقوق والواجبات في عالم تجاوز كل تلك الدعاوى البدائية، وأصبحت تحركه شبكات المصالح وليس الانتماءات القبلية.

2- كيانات طائفية مذهبية، تعيد إنتاج خطاب الفتنة الكبرى بين الإمام علي ومعاوية بكل مفرداته وأفكاره وحججه ودعاويه، يندرج فيها الكيان الشيعي الذي بدأ يسعى إلى الاستقلال في جنوب العراق، وحركاتهم في البحرين، والحوثيين في اليمن، ويدخل فيها أيضاً حزب اله في لبنان؛ على الرغم من خطابه السياسي الذي يحاول أن يغطي على ذلك، وفي المقابل كل تلك الحركات التي تنتسب إلى السلفية، سواء الجهادية أو أنصار الشريعة أو غيرها، تعيد جميعها إنتاج ذلك الخطاب التاريخي وتعيش قضاياه وتقاتل معركة تاريخية انتقاماً أو انتصاراً لشخوص تاريخية، والجميع غائب عن متطلبات العصر وقضاياه.

3- الكيانات الفوضوية الثورية، وهي بدورها تعيد إنتاج نماذج الخوارج والقرامطة والزنج والحشاشين بكل أبعادها، حيث العنف للعنف، والثورة للثورة، والقتل والتنكيل بالصور الوحشية لتحقيق أهداف غير واضحة، وغايات غير محددة، المهم في كل تلك الكيانات هو تمييز "الأنا" عن "الآخر" وإيجاد هوية

ذاتية تجذب كل الأنفس المريضة المتوحشة، مثل داعش وبيت المقدس في سيناء… وغيرها، لا تملك كل تلك الجماعات أهدافاً سياسية، وإنما شعارات سياسية مثل إعلان الخلافة من دون فهم لما هي الخلافة؟ وهل هي شيء أساسي؟ وكيف يتم بناؤها؟ وما هي مؤسساتها؟ وما هي غاياتها؟

ثامناً: ا�ستراتيجيات المواجهة

الأزمة التي تعيشها الأمة العربية، والعالم الإسلامي، هي أزمة اجتماعية شاملة، ينبغي أن تتم مواجهتها بمنهجية اجتماعية شاملة، لأنها في حقيقتها أزمة وجود، وليست أزمة سياسية عابرة، يتهدد معها وجود الدول العربية والمجتمعات العربية، وليست أزمة حكم أو صراع على سلطة أو توزيع مغانم؛ لذلك يقترح أن تتم المعالجة على ثلاثة محاور أساسية هي:

• إصلاح فكري شامل يتضمن كل ما يتعلق بالفكر والثقافة والوعي والإدراك يتناول المحتوى والوسائل، فيبدأ من مناهج التعليم على كل مستوياته، وفي جميع موضوعاته، وكذلك إصلاح الخطاب الديني، الإسلامي والمسيحي، وتفعيل أجهزة وزارات الثقافة العربية لكي تساهم في صناعة الوعي وتغيير الذوق والارتقاء بالإنسان وتوظيف السينما والمسرح ووسائل الإعلام في تثقيف الشعوب العربية، وليس فقط في بث ثقافة الاستهلاك والترفيه ونشر التطرف والتعصب والطائفية كما هو موجود الآن، بحيث يتم التركيز على المحتوى الثقافي المقدم من خلال وسائل الإعلام، وكذلك من خلال الفنون المختلفة.

وهنا نقترح أن تتم دراسة تجربة الجنرال بارك في كوريا الجنوبية في بداية الستينيات، فقبل أن يبدأ مشروع انطلاق كوريا اقتصادياً قام بعملية إصلاح ثقافي وتعليمي شاملة، فأوجد ما أطلق عليه "المصفاة الثقافية" التي تقوم بفرز كل القيم والأفكار التي يتم تقديمها للمجتمع من خلال جميع الوسائل ابتداء بالتعليم وانتهاء بالفنون، حيث يتم السماح فقط بتمرير القيم الإيجابية أو القيم والأفكار الوظيفية التي تدفع الإنسان إلى الإيجابية الاجتماعية والإنتاجية الاقتصادية، ويمنع تداول القيم والافكار السلبية وغير الوظيفية بأي وسيلة وفي أي سياق، لأنها تعتبر طبقاً لهذه الرؤية أخطر على المجتمع وتماسكه وتقدمه واستقراره من المخدرات.

• تنمية اقتصادية عادلة تقضي على الفقر المدقع الذي يمثل بيئة لتفريخ التطرف الديني، والظلم الطبقي، وتهميش الأقليات، فقد عانت الجمهوريات العربية منذ استقلالها تجربة طويلة من الفساد السياسي والإداري، الذي أعاق تحقيق أية إنجازات حقيقية على مستوى التنمية الاقتصادية، وما تم تحقيقه كان منحازاً لطبقات معينة في المجتمع، وتم تهميش الغالبية العظمى من المواطنين وتحويلهم إلى فئات ناقمة على المجتمع والدولة، وكان الأخطر في هذه التجربة الاقتصادية الفاسدة التي تجاوز عمرها نصف قرن أنها انحازت ضد طوائف وأقاليم وعرقيات معينة؛ مما دفعها إلى فقدان الانتماء والنقمة على المجتمع والدولة والرغبة في الانتقام منهما، لذلك فإن الحل يكمن في تحقيق العدالة ورفع الظلم وتحقيق التوازن في عملية التنمية بما يصحح أخطاء الماضي ويقنع جميع مكونات الشعب بأهمية وجدوى العيش معاً.

• تمكين مؤسسات المجتمع لتقوم بالدور الذي يحقق التماسك الاجتماعي بما يؤدي إلى إيجاد مجتمع قوي يستطيع أن يحافظ على تماسك مكوناته واستقراره واستمراره، وهذا يتطلب إطلاق طاقات المجتمع المدني الوطني في جميع المجالات، خصوصاً ما يتعلق منها بأنشطة التعليم والعمل الاجتماعي، وفتح المجال أمام الأقليات للقيام بدور محوري في هذا المجال، وإعادة الاعتبار لمؤسسات الوقف التي تمثل ضمانة لاستمرار الاستقلال الاقتصادي لمؤسسات المجتمع المدني، وتمكين المجتمع من تأسيس أوقاف على الأغراض التعليمية، والصحية والخدمية لتحقيق درجة أعلى من استقلال المجتمع عن تقلبات الدولة وتحولاتها التي قادت الجمهوريات العربية إلى التفكك والسير في طريق الانهيار.

لا تخرج الكيانات السياسية التي تعيد استنساخ التاريخ الإسلامي في أضعف حلقاته عن ثلاثة أنماط، وهي (كيانات قبلية عرقية تعيد إنتاج الشعوبية التي صبغت نهاية الخلافة الأموية، وكانت سبباً في انهيارها؛ وكيانات طائفية مذهبية، تعيد إنتاج خطاب الفتنة الكرى بين الإمام علي ومعاوية بكل مفرداته وأفكاره وحججه ودعاويه؛ وكيانات فوضوية ثورية، تعيد إنتاج نماذج الخوارج والقرامطة والزنج والحشاشين بكل أبعادها، حيث العنف للعنف، والثورة للثورة).

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates