Trending Events

ماذا تريد قطر؟

-

إذا ما اعترنا أن السياسة سوق كبيرة، فإن نجاح أي بائع سياسي جيد يعتمد على نوعية الزبون والبضاعة وظروف السوق ... إلى آخر القواعد العامة في نجاح أي مشروع.

إلا أن كثيراً من الدول يلجأ إلى "سوق السياسة السوداء"، حيث يعاني أزمة في شرعية التأثير، الذي يتطلب قوة اقتصادية، ورؤية بعيدة المدى، وعلاقات إقليمية جيدة، وحداً أدنى من مشروع قومي قائم على هوية سياسية ناضجة أيضاً.

هذا المطلب الأخير هو ما تفتقده الشقيقة قطر، والذي ألجأها إلى الانتقال من سوق السياسة المكشوف في الهواء الطلق إلى السوق السوداء، بما تعنيه من استقطاب الخصوم والأقليات الصغيرة المتعارضة، وصولاً إلى الجمع بين المتناقضات، والتواصل مع الضحية والجلاد؛ الأمر يتجلى بنجاح في الموقف القطري من تبني حماس من جانب، والعلاقة الاستراتيج­ية بالولايات المتحدة وصولاً إلى الخصوصية القطرية في التطبيع والتي لا تحظى باستهجان الإسلام السياسي، كما هي الحال في تركيا لأسباب تعود إلى طبيعة أولويات الإٍسلام السياسي منذ نشأته كخصم للأنظمة العربية أكثر مما عداها، حتى موقفه من الغرب والقضايا الإقليمية مبني على تلك الخصومة أكثر من موقف سياسي ناضج.

الجمع بين المتناقضات في السياسية القطرية التي تتسم بالبرجماتي­ة العالية إجمالاً لا تقف عند تخوم التحالفات السياسية إقليمياً، بل تتعداه إلى تبني ودعم "الأقليات" على طريقة الاستغلال لا التبني لقضاياهم ابتداءً من المعارضات السياسية الهشة في الخليج والأحزاب والحركات والتيارات الفاعلة المنضوية تحت قبّة الإسلام السياسي، وصولاً إلى الضفة الأخرى من الإسلام السياسي، وهو الشق الشيعي المتمثل في حزب اله والحوثيين، وهنا يظل السؤال المعلّق، هل يعبر هذا السلوك عن "نزوات سياسية"، أم أنه يعتبر "بلغة واقعية" طموحاً مشروعاً، وإن كانت درجة المخاطرة فيه مرتفعة جداً؟

والسؤال بصيغة سياسية: كيف يمكن لدولة لا تتمتع بركائز ديمقراطية أن تزرع نفوذها ودعمها العابر للحدود، ليس عن طريق المدّ الإعلامي لقناة الجزيرة فقط، وإنما من خلال التأثير المباشر في سياق الأحداث، بدءاً من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن، ومواقع أخرى؟ لقد بات من السهل القول إن جزءاً كبيراً من فوضى الربيع العربي صُنع في استديوهات قناة الجزيرة، إذا ما أسرفنا في التحليل الجزئي المبتسر للربيع، الذي لم يكن سوى احتجاجات بلا رأس على الأرض، وإنما هي احتجاجات في الفضاء التقني وفي القنوات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي.

دعم اأمريكي للدور القطري

من الصعب الجزم بفهم مفتاح السر لهذا السلوك السياسي للشقيقة قطر من دون فهم نقاط جيوسياسية وديمغرافية، تحكم هذه الدولة، فهي محكومة بمأزق الجغرافيا أكثر من التاريخ، وتحاول القفز عليهما بالواقع والحاضر اللذين تستعجل صناعتهما وإنضاجهما على الأرض، عبر صناعة حزام إقليمي من الحلفاء – الأعداء، والتحول إلى سمسار سياسي متهور ومخاطر، وهو ما يعني استحالة العمل في السياقات السياسية الطبيعية.

ويمكن ملاحظة أن ما سبق من إرجاع السلوك السياسي القطري، الذي يبدو متناقضاً، إلى "الشره" الكامن في السياسة الخارجية القطرية، وهو ما دفع قطر إلى الحضور، ولو عبر رعاية الأقليات والمعارضات، بما يحمله ذلك من تبعات، ولم يكن ذلك ليتم إلا لأن لعب قطر هذا الدور بدا ملائماً جداً للتحولات التي طالت الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية بعد صدمة العراق، وتفضيل التعامل عبر وسطاء في المنطقة.

من جانب آخر، ساعدت على نمو هذا الدور القطري قاعدة الولايات المتحدة الداعية إلى عدم التفاوض مع أي كيانات غير شرعية، وهو ما بدا أقرب إلى المزحة الثقيلة مع الربيع العربي والتمهيد الطويل له.

وإذا كان إيجاد مفاوض مرن وموثوق به مطلباً أمريكياً بالأساس، فإنه أكثر إلحاحاً فيما يخص الجانب الإسرائيلي، الذي وجد في هذا السلوك السياسي ضالته، حيث صعوبة أو استحالة التفاوض المباشر مع الأقليات الأصولية الصاعدة بشقيها السني والشيعي من دون وسيط.

وكما يُعبّر أحد الباحثين الأمريكيين المختصين في الشأن الخليجي شارحاً العلاقة التبادلية بين قطر والولايات المتحدة قائلاً: "ترتكز هذه المبادرات التي تتم على أعلى المستويات الرسمية، والعلاقات الثنائية القوية بين الولايات المتحدة وقطر، على الإيرادات الضخمة التي تجنيها الدوحة من الغاز الطبيعي، فضلاً عن سخائها في منح سلاح الجو الأمريكي الإذن بتسيير قاعدة العُديد الجوية الضخمة، التي لها أهمية جوهرية في العمليات التي تشنها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.

لكن لا يجب إغفال التكلفة المترتبة على هذه الروابط، فقطر تحكم سيطرتها على العُديد بشكل وثيق، وتصر على طلب إذنها مسبقاً قبل دخول الأفراد والطائرات، كما أنها تدعم حماس وتأوي زعيمها خالد مشعل، وتتخذ العديد من الخطوات الدبلوماسي­ة لمنح صفة الاحترام للحركة".

انعكا�سات ال�سيا�سات القطرية

في بلد صغير تشكل العمالة الوافدة سبعة أضعاف إجمالي السكان الذي يتجاوز المليون بقليل، فإن الوصول إلى التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة فيما يخص شؤون المنطقة، هو ربح كبير بمقاييس النفوذ السياسي قصير الأمد، لكنه كارثة وجودية على مستوى الهوية السياسية الجديدة، في حال أدى ذلك إلى أزمات سياسية كبرى مع الذات (الخليج)، ومع الآخر القريب (الدول الإقليمية التي تشكل محور الاعتدال)، وعلى رأسها السعودية ومصر والإمارات. ومثّل دعم الناشطين السياسيين المعارضين للأنظمة وتجنيسهم، شرارة وصول السلوك السياسي الجديد على مستوى السياسة الخارجية – وإن كان قديماً مع الحضور المدوي لبدايات قناة الجزيرة – إلى عزلة قطر السياسية عن محيطها الإقليمي. هذا الأمر بدا جلياً في "القفزة الهوائية" في ملف غزة، والقفز على كل السياق التاريخي المعقد للمفاوضات، وإعادة طرح حماس، ومن خلفها قطر، وكأنها خلاصة الأزمة والحل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

قراءة ال�سلوك القطري

وفي سياق قراءة السلوك القطري، سوف يكون من التسطيح الشديد إرجاع موقف دول الخليج المتصلب إلى مجرد تبني قطر موقفاً مؤيداً للإخوان منذ لحظة الثورة، وصولاً إلى صعود ثم هبوط مرسي ورفاقه، بل هو اعتراض على أسلوب الأداء أكثر من القلق من نتائجه، حيث يدرك كل متابع استحالة عودة الإخوان إلى مربع التأثير مجدداً على الأقل في المدى المنظور، وانهيار كل التجارب القطرية في ليبيا، حيث إن البلد مقبل على حرب أهلية، واليمن الذي لا يمكن للحوثيين الانفراد به، وسوريا وانكشاف المجموعات المقاتلة من النصرة والقاعدة وأخواتها.

التبني القطري للإخوان ليس معزولاً عن المشروع القطري الحديث للتأثير الإقليمي بطريقة الهرم المقلوب، فبدلاً من إيجاد علاقات صحيّة وجيدة مع الدول المؤثرة إقليمياً، ينطلق المشروع من تبني الأقليات السياسية، وأحزاب المعارضة، وجماعات العنف السنية منها والشيعية، في مقابل انفتاح سياسي يمس الخطوط الحمراء فيما يتعلق بالقضايا الكبرى، ومنها حدود العلاقة مع إسرائيل، في الوقت ذاته مع تبني واحتواء جماعة حماس.

وبالتالي يمكن أن يقرأ السلوك القطري السياسي وكأنه مجرد تناقضات متعارضة، لكن ما ينظمها هو التأثير عبر الأقليات بسبب عدم توفر الإمكانات للتأثير السياسي بطرائقه التي تمارسها الدول ذات الثقل الإقليمي المبني على تراكم ومنجز وسياق تاريخي لا تملكه دولة بإمكانيات قطر، حيث الطموح وحده لا يكفي.

مقاربة قطر لسياستها الخارجية تعتمد على توظيف مخرجات المعارضات العربية، وتحويلها لمنجز سياسي، يضعها في خانة التأثير على المستقبل، لاسيما مع تراجع قوة الدولة القُطرية في الوطن العربي وهشاشتها. هنا بالطبع لا يمكن التعامل مع هذا السلوك وفق أطر وقواعد اللعبة الدبلوماسي­ة بين الدول، وإنما بما تفرضه هذه الأقليات والمعارضات السلمية منها والمسلحة من شروط وآليات التفاوض.

والحق يقال إن هذا التأثير القطري في قراءة أخرى مرهون ببقاء قوة قناة الجزيرة على الإثارة وجذب المشاهد العربي الميّال لخطاب الجزيرة الإعلامي، بما يحمله من معايير مهنية متدنية على مستوى المحتوى، وإبهار بصري ورقمي على مستوى الخدمات وأسلوب العمل، فينسحب التأثير البصري على ابتلاع المحتوى قبل هضمه، وقد بدا ذلك واضحاً في العلاقة الطردية بين الشخصيات التي أدارت القناة والظروف السياسية المحيطة إبان فترات رئاستهم على سبيل المثال، وهو ما يطرح السؤال المعلق أيهما يؤثر في الآخر ويتأثر به: الجزيرة أم قطر؟!

التبني القطري للإخوان ليس معزولاً عن المشروع القطري الحديث للتأثير الإقليمي بطريقة الهرم المقلوب، فبدلاً من إيجاد علاقات صحيّة وجيدة مع الدول المؤثرة إقليمياً، تتبنى قطر الأقليات السياسية، وأحزاب المعارضة، وجماعات العنف السنية منها والشيعية، بالإضافة إلى انفتاح سياسي مع إسرائيل، واحتواء جماعة حماس.

 ??  ??
 ??  ?? يوسف الديني كاتب وصحفي بجريدة الشرق الأوسط ومجلة المجلة - لندن
يوسف الديني كاتب وصحفي بجريدة الشرق الأوسط ومجلة المجلة - لندن

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates