Trending Events

صفقة القرن:

“علاقات الطاقةالاس­راتيجية” بين الصين وروسيا الاتحادية

-

في كتابه الشهير “رقعة الشطرنج الكبرى ،“الصادر في عام ،1997 تنبأ زبجنيو بيرجينسكي بأن الصراع على الهيمنة العالمية سوف يتواصل في العقود القادمة على الساحة “الأوراسية،“حيث يصبح المتحكم في هذه المساحة الشاسعة الممتدة في أوروبا وآسيا هو المهيمن على مقدرات العالم، بما يجعل القرن المقبل حسب وصف البعض ”القرن الأوراسي”.

في هذا الإطار، يشكل التعاون الوثيق بين روسيا والصين هاجساً مؤرقاً للولايات المتحدة، بوصفه أسرع الطرق لتقويض هيمنتها وصدارتها على الساحة العالمية، خاصة إذا ما كان ذلك مدعوماً بشبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والتجارية التي تشمل التعاون في مجال الطاقة، والتي تمتد بحكم الجوار الجغرافي عبر هذا الامتداد الأوراسي. تشاطر روسيا تحت قيادة الرئيس بوتين رؤية بيرجينسكي لأهمية هذا الامتداد الجغرافي، وهي تسعى لتوطيد مكانتها كقطب دولي مؤثر من خلال بسط هيمنتها على أجزاء مهمة منه على الجانب الأوروبي، من خلال إنشاء تعاون اقتصادي مع دول الجوار المباشر في شرق أوروبا، في إطار «اتحاد أوراسي»، ومن خلال مقاومتها بكل الطرق لأن ترتبط أوكرانيا بشكل وثيق مع الاتحاد الأوروبي. ولذلك، فإن الأزمة الأوكرانية تمثل نقطة محورية بالنسبة إلى مستقبل توازنات القوة العالمية، حيث أشار بيرجينسكي في كتابه إلى أهمية موقعها من منظور الجغرافيا السياسية، بوصفه المساحة المحورية التي تتيح لمن يسيطر عليها السيطرة على الامتداد الجغرافي الأوراسي.

ولكن الاهتمام الروسي يمتد أيضاً إلى الجانب الجغرافي الآخر من هذا الامتداد، حيث تبرز الصين على الساحة الآسيوية كقطب إقليمي له قدرات اقتصادية كبيرة وإمكانيات عسكرية متنامية، بحيث تشكل العلاقات بين الولايات المتحدة والصين وروسيا «مثلثاً استراتيجياً» تؤثر تفاعلاته بشكل كبير على شكل النظام الدولي. ولذا، وعلى الرغم من الكثير من مناطق الاختلاف والتنافس، تسعى روسيا حالياً إلى توثيق علاقاتها مع الصين في تطبيق معاكس، إذا صح التعبير، لاستراتيجي­ة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر في السبعينيات من القرن الماضي، حيث طورا سياسة الانفتاح الأمريكي على الصين لتعميق الخلاف بين الصين والاتحاد السوفييتي السابق، لإضعاف موقف الأخير الذي كان يمثل العدو الاستراتيج­ي الأكبر للولايات المتحدة في ذلك الوقت.

واليوم، تسعى كل من الصين وروسيا لتوطيد مكانتهما على الساحة الدولية، بينما تتخوف الولايات المتحدة من أن ذلك سيكون على حساب مكانتها، وسيؤدي إلى تقويض قواعد النظام الدولي الذي وُضع في إطار الهيمنة الأمريكية،

والتي تعمل لصالح استمراريته. وكلما اشتد الضغط الأمريكي على روسيا، والسعي لإقصائها وعزلها دولياً، وارتفعت لهجة التصعيد والنقد الأمريكي للصين؛ شكل ذلك حافزاً أقوى للدولتين على التعاون، وعلى تشكيل تجمعات دولية بديلة، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، بما يسمح بإعادة تشكيل ملامح النظام الدولي وتوازنات القوة فيه على أسس جديدة.

أولاً: أسس التوافق الصيني الروسي

ليس التعاون بين روسيا والصين ظاهرة طارئة على الساحة الدولية، بل إن هناك توافقاً بين الدولتين منذ عشرين عاماً على مبادئ أساسية تُشكِّل - من وجهة نظرهما - أسس التفاعل في نظام دولي جديد. فالطرفان يسعيان لإرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب، كوسيلة تسمح بإعادة ترسيم موازين القوى، بما يصب في مصلحتيهما بوصفهما قوى صاعدة تسعى لأن تنضم إلى مصاف القوى الكبرى. كما أن هناك توافقاً بين الدولتين على أن لهما، كقوى كبرى مصالح في دائرة جغرافية تحيط بهما يجب أن تحترم، ولهما الحق في حمايتها، لكن على القوى الدولية الصاعدة أيضاً أن تحترم مصالح القوى الأخرى. وتتفق الدولتان على أهمية تعاون القوى الدولية في مجال الأمن، لكنها ترفض فكرة التحالفات التقليدية التي تشكل رابطة حصرية بين الأطراف، وتدفع بنموذج منظمة شنغهاي للتعاون بوصفه الشكل الأمثل لتحقيق هذا التعاون.

مع ذلك، فقد شهدت العلاقات الثنائية بين الدولتين مراحل من الصعود والتوتر خلال العقود الماضية. كان هناك تحالف بين الصين الشيوعية والاتحاد السوفييتي السابق في خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت موسكو تمد بكين بالخبرات والمواد اللازمة لتطوير قدراتها في مجالات التكنولوجي­ا النووية، وتطوير الموارد البترولية، ولكن العلاقات توترت في الستينيات من ذلك القرن، حتى جاء التحرك الأمريكي بالانفتاح على الصين الذي كان مهندسه وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، في أوائل السبعينيات، ليوجد حاجزاً بين القوتين. وتوطدت العلاقات السياسية والاقتصادي­ة بشكل واضح بين الدولتين مرة أخرى في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري من نحو 6 مليارات دولار عام 2000، إلى أكثر من 78 ملياراً عام 2011، وأشارت توقعات نشرتها وكالة شينخوا الصينية للأنباء، إلى بلوغ حجم التبادل التجاري 100 مليار دولار نهاية العام الجاري 2014.

لكن هذه الشراكة جاءت غير متوازنة إلى حد ما لصالح الصين على حساب روسيا. فالصين تصنف أنها الشريك التجاري الأول لروسيا، فيما تأتي الأخيرة في المرتبة التاسعة بين شركاء الصين. وتركزت عملية التبادل التجاري نفسها على توريد موسكو المواد الخام مقابل استقبال المنتجات الصناعية والاستهلاك­ية الواردة من بكين، ما جعل روسيا تخشى من تصنيفها «الشريك الأصغر» و«المورد للمواد الخام» على غرار العلاقة القائمة بين الصين والدول الأفريقية. ومازالت الرؤية قائمة بأن روسيا في حاجة إلى الصين بأكثر ما تكون الصين في حاجة إلى روسيا.

شهدت السنوات الأخيرة أيضاً تطور العلاقات الاستراتيج­ية بين الجانبين، فبالإضافة إلى التعاون في إطار منظمة شنغهاي، كان هناك تعاون عسكري وتبادل للتكنولوجي­ا العسكرية على المستوى الثنائي. وقد جاءت ذروة هذا التعاون في شكل المناورات البحرية المشتركة التي جرت بين الجانبين في يوليو 2013 في بحر الصين، وصُنفت على أنها الأكبر في تاريخ العلاقات بين الجانبين، كما تكررت المناورات المشتركة إبان زيارة بوتين الأخيرة إلى الصين.

ثانياً: صفقة القرن

تقع قضية التنافس العالمي على مصادر الطاقة، خاصة النفط والغاز الطبيعي، في قلب الصراع الدائر لتشكيل نظام عالمي جديد، حيث تُعد السيطرة على هذه المصادر المفتاح الرئيسي لحسم مقدرات انتقال موازين القوى العالمية من الغرب إلى القوى الصاعدة، والدولة التي ستستطيع بسط سيطرتها على شبكة نقل هذه الموارد سوف تمتلك قدرة كبيرة على التحكم في مقدرات النظام العالمي الجديد. في هذا الإطار، نالت ما سُمي بـ«صفقة القرن» في مجال الطاقة بين روسيا والصين اهتماماً عالمياً كبيراً. الصفقة التي تم التوقيع عليها أثناء زيارة رئيس روسيا فلاديمير بوتين إلى الصين في 21 مايو 2014، بعد مفاوضات امتدت عبر عشر سنوات، حيث بدأت المفاوضات بين البلدين منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي للتوصل إلى صيغة مشتركة للتعاون في مجال الطاقة واستمرت المفاوضات بينهما حتى تم التوصل إلى اتفاقية. وتنص على أن تورد شركة Gazprom الروسية إلى الأسواق الصينية بداية من عام 2018، نحو 38 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، ولمدة ثلاثين عاماً، بقيمة إجمالية تقدر نحو 400 مليار دولار.

وبينما تقوم هذه الشراكة الجديدة في مجال الغاز على قواعد من المصلحة الاقتصادية المشتركة، فإن تغيرات البيئة الدولية على الصعيد السياسي والاستراتي­جي لعبت دوراً في دفعها إلى الأمام. فليس من قبيل المصادفة أن يتم الإعلان عن هذه الصفقة بعد ساعات من توجيه الإدارة الأمريكية الاتهام رسمياً إلى شخصيات محددة تنتمي إلى الجيش الصيني بالقيام بعمليات تجسس على مؤسسات تجارية أمريكية، وعرض صورهم في الإعلام بصفتهم مطلوبين للعدالة، وهو ما يمثل بلا شك إهانة مقصودة لم تفت على

نالـــت مـــا سُـــميت بـ«صفقـــة القـــرن» في مجـــال الطاقـــة بـــين روســـيا والصـــين، والتـــي وقعـــت في 21 مايـــو 2014 اهتمامـــاً عالميـــاً كبـيراً. اسـتمرت مفاوضـات الصفقـة عشـر سـنوات، وتنـص علـى أن تـورد شـــركة Gazprom الروســـية إلى الأســـواق الصينيـــة بدايـــة مـــن عـــام

2018، نحـــو 38 مليـــار مـــر مكعـــب مـــن الغـــاز ســـنوياً ولمـــدة ثلاثـــين عامـــاً، بقيمـــة إجماليـــة تقـــدر بنحـــو

400 مليـــار دولار.

الجانب الصيني، كما أن ما يراه البعض محاولة من الولايات المتحدة لاتباع سياسة «الاحتواء المزدوج» للصين وروسيا معاً، يمثل حافزاً للدولتين لتوثيق التعاون لموازنة الضغط الأمريكي، وإضعاف الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.

جدير بالذكر أن الجانبين توصلا إلى ما لا يقل عن ثماني اتفاقيات لتوريد الغاز بين عامي 2004 و2013، لكنها لم تخرج إلى حيز التنفيذ لعدة أسباب، منها: عدم التوافق على السعر، حيث كانت روسيا تأخذ أسعار توريدها الغاز لأوروبا أساساً للتفاوض، بينما رأت السلطات الصينية التي تلتزم بتوفير الطاقة للاستهلاك المحلي بسعر ثابت، أن هذه الأسعار مبالغ فيها. كانت هناك أيضاً اختلافات يمكن أن توصف بالاستراتي­جية بين الجانبين، حيث تقوم السياسة الصينية لتأمين الطاقة على السعي لدخول الصين كشريك في مشروعات استخراج الطاقة خارج حدودها، وهو ما كانت تتحفظ عليه روسيا لأسباب متعددة، منها تخوفها من تزايد الوجود الصيني في مناطقها الشرقية قليلة السكان. ومن الناحية الاقتصادية، فإن حجم الطلب الصيني على الغاز الطبيعي في السنوات الماضية كان منخفضاً، بينما شكلت أوروبا السوق الأساسية لصادرات روسيا من الغاز وبأسعار مرتفعة، ولذلك لم يكن هناك حافز اقتصادي قوي لضخ استثمارات كبيرة في مد خطوط أنابيب جديدة لنقل الغاز إلى آسيا، لكن الفترة الأخيرة شهدت تحولاً في حسابات الطرفين فيما يتعلق بهذه القضية.

الأبعاد الاقتصادية للشراكة الروسية - الصينية

أوضح تقرير مركز بيلفر للعلاقات الدولية والعلمية الذي صدر في مايو 2014، قبيل زيارة بوتين إلى الصين، تحت عنوان: «طفرة التعاون في الشراكة الصينية - الروسية بقطاع الغاز الطبيعي»؛ الأسس الاقتصادية التي حفزت كلا من روسيا والصين للدخول في طور جديد من التعاون في مجال الطاقة، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- محفزات على الجانب الروسي

كان لطفرة الطاقة غير التقليدية والتوسع في استخراج الغاز الصخري في الولايات المتحدة، تأثير على صادرات الغاز الروسية، حيث خسرت جانباً كبيراً من أسواق أمريكا الشمالية، واضطرت إلى أن تدفع الجانب الأكبر من إنتاجها إلى السوق الأوروبية. وساهم ذلك التحول في تشجيع الجانب الأوروبي على إعادة مناقشة تسعير واردات الغاز الروسي، والمطالبة بتخفيف بنود العقود طويلة المدى، وإعادة النظر بشكل عام في وضع شركة Gazprom، حيث فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقاً في اتهامات بأنها تتبع ممارسات تعرقل المنافسة في أسواق الغاز في وسط وشرق أوروبا.

من ناحية أخرى، أصبحت عائدات الغاز الروسي أكثر عرضة للتأثر بحالة الركود الاقتصادي في السوق الأوروبية، والذي أثر سلباً على الطلب. وقد سارعت الأزمة الأوكرانية الحالية من التوجهات الأوروبية إلى تنويع مصادر الطاقة، خاصة الغاز، وتقليص حجم اعتماد الدول الأوروبية على الواردات الروسية. أدت هذه التطورات إلى تراجع حجم عائدات Gazprom بمقدار 4 مليارات دولار، وفقاً لبعض التقديرات عام 2013، وتراجع نصيب روسيا من سوق الغاز الأوروبية بمقدار 8% في عام 2012. وعلى الرغم من أنها نجحت في رفع نصيبها من السوق الأوروبية مرة أخرى بمقدار 4.4% خلال العام التالي، فإن ذلك كان وفقاً لأسعار أدنى من السابق.

 ??  ??
 ??  ?? مجموعة عمل العلاقات الدولية بالمركز الإقليمي للدراسات الاسراتيجي­ة بالقاهرة
مجموعة عمل العلاقات الدولية بالمركز الإقليمي للدراسات الاسراتيجي­ة بالقاهرة
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates