Trending Events

الصندوق الآخر:

كيف يتم التعامل مع ”التهديدات الجديدة“ في المنطقة العربية؟

- د. محمد عبدالسلام المدير الأكاديمي أبوظبي، 25 أكتوبر 2014

كانت مشكلة "القرصنة البحرية" على سواحل الصومال، قد بدأت تفرض نفسها على جداول أعمال كل ملتقيات الأمن الدولي، منذ تفاقمها في عام 2008، واستمر النقاش حولها طوال السنوات التالية، من دون أن يتم التوصل إلى حل حاسم. وكان من بين تلك المؤتمرات "منتدى الأمن الدولي"، الذي عقد في جنيف خال أبريل 2013، في ظل عناوين عريضة تحفز على البحث عن حلول، لكنها تتساءل أيضاً عما إذا كانت هناك بعض المهام المستحيلة، إذا تعلق الأمر بتحديات أمن مركبة، من النوعية التي تفرزها ثورات الشعوب أو انهيارات الدول تحديداً. كان معظم الجلسات ينتهي بمقولات تحمل الكثير من ال BUTsوال IFs (لكن، لو)، وبأسئلة مفتوحة، يعاد طرحها في لقاءات ما بين الجلسات التي كان من بينها حوار جانبي بين أكاديمي عربي وجنرال أمريكي، إثر جلسة حول كيفية التعامل مع تهديدات مثل القرصنة البحرية، بدأ بسؤال: "ما الذي خرجنا به من نقاش لمدة ساعة ونصف الساعة تقريباً حول الخيارات المتاحة للاشتباك معها؟، كانت إجابة الجنرال هي "Nothing Effective ،" وكان التعقيب هو: ما الذي يمكن عمله عندما تكون كل الخيارات غير فعالة؟ إن تلك النوعية من الأسئلة المجردة، تُطرَح عادة في أوقات الأزمات المستعصية، مع أمل في وجود إجابة حقيقية يمكن على أساسها صياغة سياسة، أو رسم خطة، أو تشكيل استراتيجية دون اللجوء إلى النظريات العامة أو العودة للتاريخ، فحدوث ذلك يعني وجود ارتباك حقيقي، وبوادر انتقال من مسارح العمليات إلى "أبراج الفلاسفة" أو قاعات الدراسة، بما يشير إلى ارتباك في التعامل مع حقائق على الأرض. إن خبرة التعامل الأمريكي مع حالة العراق بعد غزو عام 2003، توضح ذلك، ففي الفترات التي كان العنف ينفجر فيها بشدة، في وقت تؤكد فيه كل التقديرات أنه سوف يتقلص، تظهر تصريحات للجنرال ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان وقتها، تشير – استناداً إلى ما يوجد في الكتب وليس في الواقع - إلى أن التغلب على "تمرد ما" قد يستغرق ما بين 3 – 9 سنوات، أو يقول دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الشهير، عائداً إلى التاريخ إثر فشل خطة عسكرية بدت له فعالة، "إن العراق لم يشهد استقراراً في تاريخه"، و"لن يشهده الآن". كان الواقع على الأرض حينها أقرب إلى ما ذكر حول دراسة تم تداولها بين أجهزة "مجتمع الاستخبارا­ت" الأمريكي بشأن عدم وجود نظام موحد لقياس الفشل والنجاح في مواجهة العنف المسلح، وأنه لا أحد يعلم بالضبط كيف تجري الأمور في العراق؟. وهنا تأتي المسألة الأولى، وهي أن تكون هناك معلومات حقيقية بلا فجوات كبيرة حول الفاعلين والتفاعلات، فمن يدعم "داعش"؟ وكيف دخل الحوثيون صنعاء؟ وما هي أنصار بيت المقدس؟، ولنقس على ذلك. المسألة الثانية، هي أنه حتى لو تم التوصل إلى تقدير حقيقي لما هو قائم من تهديدات، توجد مشكلة تحتاج إلى "تسمية"، فلم يكن لدى أحد خطة حقيقية لشن حرب استئصال للعناصر التي تثير الفوضى ضد السفن التي تمر بالقرب من سواحل الصومال، وليس لدى أحد إمكانية لتنفيذ الحل المنطقي الخاص بإعادة بناء الصومال، لتنتهي المشاكل التي تفرزها، فمسألة بناء الدولة Nation Building قد تبددت في العراق، حتى أن البعض خرج من الصندوق ليقترح حلولاً تكنولوجية لمشكلة أمنية، كأن تكون السفن المارة أسرع من زوارق القراصنة، وهكذا. اليوم، تواجه المنطقة تلك النوعية من المشاكل، التي يبدو معها أنه لا توجد حلول فعالة، بحجم يتجاوز ما سبق ب 6 مرات على الأقل، فتنظيمات الإرهاب التي تنفذ عمليات متباعدة تحولت إلى ميليشيات مسلحة تخوض معارك برية، وعصابات قطع الطرق البحرية تركت مكانها لتهديدات أعقد تواجهها الممرات المائية من جانب "جيوش متطرفة صغيرة" وعناصر بحرية حكومية، مع عنصرين مهمين: 1- إن القوى الجديدة التي تفرض حقائق على الأرض حالياً مختلفة، فالحوثيون يمنيون، على الرغم من ارتباطهم بإيران، وتنظيم "داعش" متعدد الجنسيات، لديه حاضنة سنية، وعلاقات إقليمية، وعناصر محلية، والإخوان المسلمون في مصر يحملون الجنسية المصرية، لكنهم ينتمون للتنظيم أكثر مما ينتمون للدولة أو المجتمع. فالمشاكل لم تعد تأتي من فاعلين ينتمون إلى جنسيات أخرى، ويوجدون خارج الحدود، أو عبر الحدود، فالخصم في الداخل. 2- إن العاقات المحيطة بتلك الأطراف ذاتها شديدة التعقيد، بما يؤدي إلى إرباك أي استراتيجية للتعامل معها، فهناك توجهات مستقرة لمهاجمة قاعدة اليمن التي تهاجم بدورها الحوثيين أيضاً. ويصعب التعامل بفعالية مع "داعش" في العراق من دون التعامل سياسياً مع مشكلات السنة العراقيين. وكان على تركيا مثلاً أن تسمح بمرور عناصر مسلحة قد تستهدفها لقتال عناصر أخرى تستهدفها أيضاً.. وهكذا، فعدو عدوك قد يكون عدوك أيضاً، والعكس، صديق عدوك قد يكون صديقك كذلك.. فماذا تفعل بالضبط؟

المسألة بشكل مباشر، هي أن التفكير خارج الصندوق لم يعد كافياً، وحسب تعبيرات "لوك دي برابندر" و"ألان آيني" مؤلفي كتاب (التفكير في الصناديق الجديدة)، فإن تشكل حقائق جديدة يجب أن يدفع في اتجاه الانتقال إلى صندوق آخر مختلف تماماً، بكل ما يرتبط به من نظريات ومداخل وسياسات واستراتيجي­ات وتكتيكات. وحالة شمال شرق شبه جزيرة سيناء في مصر شديدة الإيحاء، فإثر عملية "كرم القواديس" في العريش، وضح أن التفكير خارج الصندوق الخاص بالتعامل مع "الإرهاب"، لن يجدي، وتم الانتقال إلى التفكير في إطار صندوق آخر هو "الحرب". إن الحلول التي ترد إلى الأذهان، عند التفكير في التعامل مع التهديدات المركبة الحالية، هي عادة ما يلي: 1- التصفية، وهي حل تاريخي جربته تركيا مع الأرمن، وعراق صدام حسين مع الأكراد، وسوريا الأسد مع الإخوان المسلمين، وارتبط بتعبيرات مأساوية، مثل الإبادة العرقية والضرب الكيماوي والقصف المساحي، وهذا لن يكون مجدياً مع الجماعات كبيرة العدد. 2- المصالحة، وهي حل تاريخي أيضاً، شهدته حالات مثل جنوب أفريقيا وأيرلندا الشمالية، وحاولت الجزائر والمغرب ومصر (مع الجماعة الإسلامية) اتباع بعض أطره في مواجهة مشاكل حادة، لكن لا يبدو مع جماعات بالظلامية أو الاستكبار أو الحقد الحالي، أن يكون ذلك ممكناً من دون اشتراطات خاصة. 3- التعايش، وهو من نوعية التفكير خارج الصندوق، إذ إنه يرتبط بحالة من تجميد العداء وأعمال العنف، مع احتفاظ كل طرف بمواقفه ومواقعه، في إطار صيغة بقبول وجود الآخر، حتى من دون الاعتراف به، وهو الحل الأقرب إلى التحقق، لكنه الأصعب في التنفيذ. الفكرة هنا بسيطة، وهي – عودة إلى تعبير الجنرال - أنه لا يوجد حل فعال، وما يشير إليه الصندوق الثاني، هو أن الإقليم يواجه مشكلة مختلفة تماماً، فهناك أطراف متطرفة لا تقبل حلاً وسطاً مع قوى تعتقد أنها كافرة أو "سيئة"، وتفكر في معارك نهاية العالم، ولن تتفهم شيئاً، كما أنه لا توجد خيارات استئصالية ببساطة للجماعات الكبيرة منها، من دون أساليب قتال تحتاج قرارات كبرى، إضافة إلى أن القوى الكبرى في العالم، تعتقد أنها مشاكل إقليمية يجب أن يحلها الإقليم، ويمكنها أن تساعد في حلها فقط، لكن ماذا يحدث – أيضاً - عندما تكون كل الحلول غير فعالة؟ في مثل هذا الوضع، يمكننا الاعتقاد بأن اليمن لم يكن سعيد أبداً، ولن يكون الآن كذلك، بمنطق رامسفيلد مع العراق. أو أن المسألة تجاوزت الدولة الفاشلة – على حد تعبير أحد أنقى الأكاديميي­ن العرب وهو د. حيدر إبراهيم - إلى شعوب ومجتمعات فاشلة لا أمل فيها، أو أن سوريا انتهت ولن تعود كدولة قبل 15 سنة، كما كان يقال بشأن الستار الحديدي، الذي أسدل على مصر عندما تولى حكمها الإخوان المسلمون؛ وبالتالي، فإن المسألة كلها تقع ضمن صندوق آخر بدأت ملامح التفكير وفقاً له في الظهور بالمنطقة فعلاً، فالتوجه العام كالتالي: 1- مراجعة كل الاستراتيج­يات المستخدمة في التعامل مع المشكلات، حتى تلك التي تبدو ناجحة أو فعالة، والتفكير بأسلوب مختلف تماماً، وربما العودة إلى استراتيجيا­ت قديمة، استخدمت في الماضي السحيق. 2- تحديد ما الذي يجب أن يتم القيام به أولاً، قبل التفكير في الكيفية التي يمكن أن يتم ذلك بها، وهي مشكلة حادة حالياً، فالأهداف محيرة، لكن لا حل إلا بتحديدها أولاً. 3- القيام بعملية تغيير في طبيعة القوات أو العناصر التي ستقوم بالمهمة، وقد يكون ذلك جذرياً وفق نتائج الأساليب السابقة، وإعادة قراءة استراتيجيا­ت الطرف الآخر. 4- البحث في كل الأساليب، التي يمكن أن تستخدم، حتى لو بلغ عددها مائة فكرة، وحتى لو كانت تقليدية أو جنونية، وتحديد ما يمكن اتباعه، مع المتابعة والاستعداد للمراجعة، فلا توجد فكرة تظل جيدة طوال الوقت. في إطار ذلك، بدأت تتشكل أطر عامة للتفكير فيما هو قائم في الإقليم، تتضمن عناصر أصبحت معلنة، منها: - الزمن، وهي فكرة تطرح بوضوح حالياً، فالجميع على قناعة بأن الصراعات سوف تطول، وقد تتجاوز مسألة الشهور إلى السنوات، فما أشير إليه قديماً باسم "الجنرال وقت" يعود بصورة أخرى. - التفكيك، فالهدف ليس إبادة الخصم كبير العدد، وإنما تفكيكه باستهداف مفاصله في المستويات الوسيطة، وليس القيادات، لإخراجه من المعركة. - الثمن، فإذا لم يكن هناك حل مع العنف ذي الطابع الديني أو القومي سوى العنف، فإن ثمناً سيتم دفعه، إذ تكون هناك دماء وتضحيات، كما قال تشرشل في مواجهة حرب بريطانيا مع ألمانيا. - التحالف، فلا توجد دولة واحدة، وأولها الدول التي تشهد أعمال الإرهاب، يمكنها القيام بالمهمة وحدها، لذا برزت "تحالفات الراغبين"، والقوات الخاصة متعددة الجنسيات. - العرف، فالمسألة قد تتجاوز ما عرف في إطار الهجمات المتتالية، أو حالات الطوارئ إلى نوعية خاصة من الأعمال العسكرية، مع اتباع منطق الأحكام العرفية. - العزل، باتباع إجراءات غير معتادة لعزل مناطق، أو تهجير مواطنين، أو مراقبة اتصالات، وكل ما من شأنه أن يتيح التعامل مع الطرف الآخر بفعالية. بعد ذلك، ربما نجد أيضاً أنه لا حل فعالاً، لكن ليس معنى ذلك أنه لا يوجد حل، بحيث يصبح اليأس أو الارتباك سيد الموقف، وإنما يجب التفكير في الانتقال حتى إلى صندوق ثالث، وحتى إذا – وفق رأي أحد الأصدقاء في مناقشة بهذا الشأن - لم تعد توجد صناديق أصاً، فعلى القيادات أن ترتجل أو تغامر أحياناً، وإلا ستعود المنطقة إلى عصور الظام.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates