Trending Events

لماذا يتعاطف المواطن العادي مع المتطرفين ”أحياناً“؟

-

يمر تعاطف الجمهور مع المتطرفين عر الاقتناع بداية برسائلهم الدعوية التي تغلف أعمالهم الإرهابية، ويصبح السؤال إذاً لماذا يصدقونهم؟ قبل أن نتساءل لماذا يتعاطفون معهم؟

تفيض دراسات علم النفس الإعلامي بأسس لقياس مصداقية الداعية: هل يتقاضى الداعية أجراً مقابل ممارسته الدعوة؟ هل يعتمد في معاشه على الدعوة؟ هل يحكم دعوته حكم الدين فعلاً، أم هو موظف عند الدولة لتوفير الغطاء الديني لممارساتها؟ ليس ثمة ما يمنع نظرياً من تقاضي الأجر والاقتناع الشخصي، لكن الأمر يظل مثار شبهة. وعلى الأغلب يكون الجمهور أقرب لتصديق تهمة تلقي التمويل بالنسبة لدعاة "الوسطية" الذين تلاحقهم دائماً "تهمة" موالاة الدولة، في حين أن الصورة الذهنية لدى الجمهور للداعية المتطرف تكون باعتباره مناهضاً للدولة، رافضاً لسياساتها، مضطهداً من قبل أجهزتها؛ أي أنه يدفع ثمن دعوته بدلاً من أن يتقاضى ثمناً مقابلها.

اأولاً: جمهور اأميل اإلى التطرف

مع غياب الدولة التي تشبع احتياجات وتطلعات مواطنيها "كافة"؛ فإنه بقدر اتساع رقعة المحبطين والمهمشين تكون الأرضية خصبة للتعاطف مع دعاوى التطرف، ولا نعني بالإحباط والتهميش في هذا السياق الجوانب المادية فقط، فثمة تهميش سياسي وتهميش فكري أيضاً. وليس صحيحاً تماماً أن الداعية المتطرف يحلق في فضاء وسطي، بل الأقرب للحقيقة أنه يتحرك بين جماهير جاهزة للتطرف، ومتعطشة لغطاء ديني يرفع عن كاهلها التحرج من ممارسة العنف.

إن اكتساب الفرد الاتجاهات المتطرفة يتم من خلال تدريب اجتماعي يغرس قيمة "تقديس التطرف" بتأكيد أن الشخص القوي صاحب الموقف القاطع الواضح، بل القادر على إلحاق الأذى بالآخرين هو الشخص "المحترم"، في مقابل أن الشخص الوسطي الهادئ المسالم، الذي لا يرى الأمور من خلال ثنائية الأبيض والأسود، هو شخص متردد ضعيف لا يستحق الاحترام. ويبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة التطرف دعماً وتشجيعاً لا تجدهما ثقافة الوسطية؟

تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف على مجرد الإعلان عن وجودها، بل بقيام ثقافة مساندة للسلعة، تضمن لها دوام وتصاعد الطلب، ويتطلب إيجاد مثل تلك الثقافة تشكيلاً لخريطة الوعي، يصدق ذلك على صناعة السياحة بقدر صدقه على صناعة السينما وكذلك الأسلحة. وكون صناعة الأسلحة من أضخم الصناعات وأكثرها ربحية، فمن الطبيعي أن تسعى لدعم الثقافة التي تساندها وتساعد على ترويجها، من خلال نشر ثقافة الحرب.

وهكذا شهدنا ومازلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام والكتب ودواوين الشعر، بل والدراسات "العلمية" التي تصب جميعاً في تقديس التطرف والعنف واعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية، والسبيل

الأوحد للحصول على الكرامة والحفاظ على الحقوق. ولم يعد أمام الدول والجماعات، بل والأفراد مهرب من غواية التهيؤ للتطرف وممارسة العنف. وامتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التي مارسناها ونمارسها كآباء وتربويين وإعلاميين ومسؤولين، ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً.

وقد أدت بنا تلك الممارسة إلى حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا أحد سبيلين: إما التصدي بالعنف لإزالة ما يحول بينه وبين ما يريد، ذلك إذا استطاع؛ فإذا ما لم يستطع، وكان الآخر أقوى من إمكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام من دون شروط وتقبل دور الضحية، وهو في الحالتين ملتزم بالطاعة والانصياع، الطاعة شرط لإتقان التدريب على العنف، وهي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام.

ثانياً: الهروب من الحرية

منذ نحو نصف قرن أصدر عالم النفس الشهير أريك فروم كتاباً ذاع صيته، بعنوان "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوماً عنصريته أو دكتاتوريته، وهاجر فروم إلى الولايات المتحدة، حصن الحرية، ولم يمض زمن طويل وإذا به يكتشف تلك الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. وتوصل فروم إلى أن المجتمع في مرحلة معينة من تطوره يشكل أبناءه وينشئهم على النفور من الحرية، ويسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها، فيسارعون إلى الالتفاف حوله والسير وراءه. ربما بدا الأمر للوهلة الأولى متناقضاً ويصعب التسليم به، فالدول جميعاً، ومهما كانت بشاعة وحشيتها، تعلن أنها محبة للحرية، تستوي في ذلك الولايات المتحدة وهي تغزو العراق، وإسرائيل وهي ترتكب مذابحها، حيث تصور أنها تفعل ما تفعله من أجل الحرية. ولو نظرنا في بلادنا لوجدنا التيارات السياسية كافة، المشروعة وغير المشروعة، تعلن جميعاً أن الحرية هي الهدف المقدس والنهائي الذي تسعى إليه. أين المشكلة إذاً والكل يسعى لتحقيق الحرية؟ يؤكد فروم أنه لكي يتخلص الإنسان في الحضارة الرأسمالية من شعوره غير المحتمل بالعزلة وقلة الحيلة، أي لكي يهرب من الحرية، ليس أمامه سوى أن تمارس الميكانيزم­ات اللاشعورية فعلها، وأهم تلك الميكانيزم­ات في رأي فروم هي: 1- ميكانيزم المازوشية – السادية: وهو محاولة التخلص من ذلك الشعور غير المحتمل بالعزلة وقلة الحيلة، إما بالضياع الكامل في آخر، أو بعبارة أخرى التخلص من أزمة الحرية بإفنائها في آخر، وإما بمحاولة نفي ذلك الشعور ببديل له هو ممارسة سيطرة معذبة على الآخر. 2- ميكانيزم التدمير: وهو محاولة للهرب من ذلك الشعور غير المحتمل بتحطيم العالم الخارجي، أي بتحطيمك مصدر ذلك الشعور المؤلم، على الرغم مما يؤدي إليه ذلك الميكانيزم – الذي تختلط فيه الكراهية بالعدوان – من تضاعف الشعور من جديد بالضعف والعزلة. 3- ميكانيزم الانصياع الآلي: وهو أكثر الحلول انتشاراً بين أبناء مجتمع الحضارة الغربية، وهو محاولة للخضوع لمعايير السلطة أياً كانت تلك السلطة، ومن ثم إلقاء الحمل عليها والانصياع لها من دون تفكير تخلصاً من الشعور بالضياع.

ثالثاً: الدين الو�صطي لا يحر�ص على العنف

لعله مما يلفت النظر حقاً أن قوائم قيادات وممارسي العنف السياسي الديني حتى قبيل سنوات تكاد تخلو من أبناء التعليم الأزهري، على الرغم من أنهم الأقرب إلى مصادر المعرفة الدينية، والأقرب للانتماء إلى الفئات الأكثر فقراً والأشد معاناة، كما أنهم أميل للتحفظ حيال المستحدث من أنماط السلوك ومستجدات العصر، وأميل للنظر لأنفسهم باعتبار أنهم حماة تراث مقدس لا يأتيه الباطل، وهم الأكثر إتقاناً لمفردات الفكر الديني والأكثر ألفة بجذوره. ترى، لماذا إذاً لم تجتذبهم تيارات العنف السياسي، خاصة المتسربلة برداء الدين؟

حين لجأت إلى بعض القراءات في تاريخ التعليم الأزهري وجدت أنه يقوم في الأساس على تدريس عدد من المذاهب الإسلامية باعتبارها جميعاً مذاهب شرعية، وأن طالب الأزهر منذ البداية الأولى لتعليمه يعتاد سماع أساتذته خلال عرضهم آراء المذاهب المختلفة حول قضية مطروحة، ولا بأس بعد ذلك من أن يعلن الأستاذ الشيخ انتماءه لواحد من تلك المذاهب، مرجحاً صواب توجهه، مختتماً حديثه بتلك العبارة بالغة الدلالة "واله أعلم".

ومع مضي السنوات يصبح ذلك التعبير ضمن مفردات طالبنا الأزهري، ولا يزعجه اختلاف الاجتهادات ما دامت لم تتجاوز الحدود، وأن رأيه – كما قال الشافعي – صواب يحتمل الخطأ، وأن رأي الآخر خطأ يحتمل الصواب، ويظل متمسكاً حتى النهاية بأن "اله أعلم".

لقد أتيحت لي قراءة كتاب الدكتور أيمن الظواهري "الولاء والبراء" وافتقدت بشدة تعبير "اله أعلم" الذي لم يرد سوى مرات ثلاث على وجه التحديد ضمن كلمات الكتاب التي تجاوزت (11165 كلمة) وقد ورد التعبير في المرات الثلاث الاستثنائي­ة ضمن نصوص لابن كثير والشافعي، أما فيما عدا ذلك فالأحكام والتفسيرات قطعية يقينية مطلقة.

ليس صحيحاً تماماً أن الداعية المتطرف يحلق في فضاء وسطي، بل الأقرب للحقيقة أنه يتحرك بين جماهير جاهزة للتطرف ومتعطشة لغطاء ديني يرفع عن كاهلها التحرج من ممارسة العنف.

 ??  ??
 ??  ?? أ.د.قدري حفني أستاذ علم النفس السياسي
بجامعة عين شمس
أ.د.قدري حفني أستاذ علم النفس السياسي بجامعة عين شمس

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates