Trending Events

هل يمكن معاقبة ”دولة كرى“ بحجم روسيا؟

-

فرضت الدول الغربية منذ مارس 2014 عقوبات عدة ضد روسيا طالت مجموعة من السياسيين ورجال الأعمال والشركات الروس، بل وهددت بتوسيع هذه الإجراءات العقابية.

اعتبر الغرب أن روسيا قامت بما يحتم معاقبتها، بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، واتهام موسكو بالتدخل في الشؤون الداخلية لأوكرانيا، من جانبها ردت روسيا بحظر توريدات بعض المنتجات الغذائية والزراعية من الدول التي قامت بفرض عقوبات بحقها. وتعيد مثل هذه التطورات إلى الأذهان عودة العقوبات الاقتصادية كإحدى أدوات السياسة الخارجية للدولة، وتطرح التساؤل حول مدى فاعليتها، خاصة مع تشكيك العديد من الدراسات في جدواها.

اأولاً: اأ�صباب ف�صل العقوبات الاقت�صادية تاريخياً

إن العلاقات الاقتصادية بين الدول الكبرى هي علاقة اعتماد متبادل بسبب حجم الاستثمارا­ت والتجارة الخارجية والشركات الكبرى التي تعمل في هذه الدول، كما أنه نظراً للترابط الكبير بين اقتصادات الدول الكبرى، فإنها تتأثر بالتقلبات الاقتصادية التي تحدث في أي من دولها، فارتفاع الدولار أو انخفاضه له تأثير بالتالي على اليورو والين الياباني، وفي الوقت الذي يكون هناك اعتماد متبادل بين الدول الكبرى، تكون العلاقة بين الدول الكبرى وأغلب الدول النامية أو "دول العالم الثالث" هي علاقة تبعية (Dependency)، نظراً لامتلاك الدول الكبرى القدرة على التأثير الأحادي على الدول النامية، ولكن في المقابل، فإن الدول النامية ليست لها القدرة على التأثير على الدول الكبرى، لأنها لا تملك مقومات قوة التأثير العسكرية أو الاقتصادية أو حتى القوة الناعمة، وبالتالي فإنه إذا كانت احتمالات نجاح العقوبات المفروضة على الدول النامية كبيرة بدرجة كبيرة، فإنها في حالة الدول الكبرى، تكون فرص نجاحها ضئيلة، كما أن تكلفتها تكون مرتفعة حتى على الدول التي قامت بفرضها.

وتشير بعض الدراسات إلى أن 50% من العقوبات الاقتصادية الأمريكية أحادية الجانب، التي تم فرضها في فترة ما قبل السبعينيات من القرن الماضي، قد نجحت بصورة جزئية أو كلية، وأن نسبة النجاح تراجعت إلى 21% في الفترة ما بين 1970 و1990. ولا شك أن فاعلية العقوبات الاقتصادية تتراجع بصورة كبيرة إذا ما تم فرضها بين الدول الكبرى، خاصة مع امتلاك مثل هذه الدول إلى بدائل وخيارات متعددة قد تلجأ إليها، ولذلك فإن الإشارة إلى عدد من النماذج التاريخية سوف تكشف عن مدى فاعلية هذه الأداة.

عندما شعرت بريطانيا قبل عام 1914، أن ألمانيا أصبحت قوة عسكرية واقتصادية تنافسها في القارة الأوروبية، حشدت دولاً كبرى إلى جانبها، مثل فرنسا وروسيا القيصرية لتحجيمها، غير أنها فشلت في مسعاها هذا، واندلعت الحرب العالمية الأولى. وبانتهاء الحرب وبتوقيع معاهدة فرساي عام 1919، سعى زعماء الدول المنتصرة إلى إضعاف ألمانيا حتى لا تنهض مرة أخرى وتهدد مصالحهم وتنافسها على المستوى الدولي، فتم فرض العقوبات الاقتصادية على ألمانيا، والتي أخذت حينها شكل تعويضات الحرب،

فضلاً عن سلبها كل مستعمراتها. وكان لهذه العقوبات المجحفة تداعيات سلبية على ألمانيا، فقد أثارت الشعور القومي الألماني، فالألمان لم يقبلوا الهزيمة المذلة، فكانت النتيجة فوز حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني (النازي) بالانتخابا­ت، ووصول هتلر للحكم في عام 1933، لأنه رفض التعويضات المذلة على ألمانيا.

وعندما حدثت الحرب بين إيطاليا وأثيوبيا (1935 – 1936،) فرضت عصبة الأمم عقوبات اقتصادية على إيطاليا أيدتها بريطانيا، بينما رفضت فرنسا تطبيقها، إذ إن مصلحتها لم تتفق مع فرنسا، والتالي فإن اختلاف مصالح بعض الدول الكبرى حيال دولة أخرى يضعف من احتمالات نجاح العقوبات الاقتصادية المفروضة من جانب الدول الكبرى، وهو الأمر الذي أدى لفشل العصبة ونشوب الحرب العالمية الثانية.

ثانياً: جدوى العقوبات على رو�صيا

تبادلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع روسيا الاتحادية فرض العقوبات الاقتصادية، غير أن دول الاتحاد الأوروبي مترددة في فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا بسبب التداخل الاقتصادي بينهما، فهو الشريك التجاري الأول لروسيا، فقد بلغت صادرات الاتحاد الأوروبي لروسيا نحو 12 مليار دولار عام 2013، شكلت الصادرات الغذائية 42% منها، بينما تعتبر روسيا الشريك الثالث للاتحاد الأوروبي. وتختلف الدول الأوروبية في علاقتها الاقتصادية مع روسيا، فتأتي ألمانيا على رأس دول الاتحاد الأوروبي في علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، إذ تأتي 30% من واردات روسيا من الاتحاد الأوروبي من ألمانيا وحدها، وتليها إيطاليا 12%، ثم فرنسا 10%، ومن جهة ثانية، تشكل استثمارات الاتحاد الأوروبي في روسيا 75% من جملة الاستثمارا­ت الأجنبية، وهناك 6200 شركة ألمانية تعمل في روسيا توفر نحو 300 ألف فرصة عمل. وتعتمد أوروبا على الغاز الطبيعي من روسيا (ألمانيا 36% من استهلاكها من روسيا)، بينما تحتل العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا مرتبة متدنية، فصادرات المواد الغذائية الأمريكية لروسيا تبلغ نحو 1.2 مليار دولار، أي أقل من 1% من الصادرات الغذائية للولايات المتحدة، لذلك يبقى الموقف الأوروبي أكثر تأثراً بالعقوبات على روسيا من الولايات المتحدة التي تستفيد كثيراً من تدهور العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي.

وفي مجال تقييم تأثير هذه العقوبات على بعض دول الاتحاد الأوروبي، نجد أن فرنسا ذهبت إلى أنه في حالة فرض العقوبات على روسيا، فإن هذا سيهدد نحو ألف وظيفة مباشرة، وكذلك صفقات الأسلحة الفرنسية التي تم إبرامها مع روسيا، في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الفرنسي هولاند لحل مشكلة البطالة في فرنسا. ولذلك قال وزير الخارجية الفرنسية فابيوس إن فرنسا تحترم الاتفاقيات الموقعة، وهو ما ينذر بأن يبقى جانب من العقوبات شكلياً لا أكثر. ومن جهة ثانية، فإن عدم استيراد روسيا المواد الغذائية من إيطاليا سيكلفها خسارة تقدر بملياري يورو، وتكلف الاتحاد الأوروبي 67 مليار دولار. ومن ثم ففي العقوبات الاقتصادية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، هناك خسارة متبادلة، وليس هناك منتصر فيها، ولكن درجة التأثر تتفاوت من دولة أوروبية لأخرى.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن روسيا تمتلك خيارات متعددة من أجل تحدي العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، من خلال إقامة علاقات بديلة مع الصين والهند وأعضاء منظمة شنغهاي للتعاون وتكتل البريكس، الأمر الذي يساعد على تشكيل تكتل مناهض للغرب عموماً، لكن هناك تداعيات أشد خطورة تتمثل في تزايد الشعور القومي الروسي الذي شعر بالذل مع انهيار الاتحاد السوفييتي، فنجد أن ضم القرم زاد من شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فحسب استطلاع مركز "ليفادا" للرأي العام، فإن شعبيته وصلت 87%، بعد الضم، كما أنه من المتوقع أن تستمر شعبيته حتى في مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية.

ثالثاً: جدوى العقوبات على اإيران

بالنظر إلى دولة إقليمية كبرى مثل إيران، وعلى الرغم من العقوبات المتتابعة المفروضة عليها، سواء تلك الصادرة من مجلس الأمن الدولي أو من جانب الاتحاد الأوروبي، فإنها لم تدفع إيران لتغيير سياستها الخارجية أو التراجع عن برنامجها النووي، كما أن دولاً مثل تركيا والهند رفضت تطبيق جانب من العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، بل قد تكون الشركات الأمريكية هي الخاسر الأول من تطبيق الولايات المتحدة الحظر التجاري ضد إيران، وتشير دراسة نشرت في يوليو 2014 عن المجلس الوطني الأمريكي الإيراني (NIAC) في واشنطن أعدتها باربرا سلفن ":Losing Billions The Cost of Iran Sanaction to US Economy ،" إلى أن الخسائر الأمريكية للعقوبات المفروضة على إيران منذ أزمة الرهائن الأمريكيين في 1980، خلال الفترة ما بين 1995 و2012، تكون الولايات المتحدة قد ضحت بعائدات تقدر قيمتها ما بين 134.7 و175.3 مليار دولار بسبب حظر تصدير البضائع الأمريكية لإيران.

والخلاصة أن العقوبات الاقتصادية ليست فعّالة بين الدول الكبرى وحتى في حالة فرضها تجاه بعض الدول الإقليمية الكبرى؛ لأنها تملك المقومات الاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة والأهمية الجيواسترا­تيجية التي تجعلها تنوع علاقاتها الاقتصادية، وتدفع إلى تشكيل تحالفات جديدة تهدد استقرار النظام الدولي وتزيد من حالة الاستقطاب في العلاقات الدولية، ولعل بروز تكتلات مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس مؤشرات على ذلك.

العقوبات الاقتصادية ليست فعّالة بين الدول الكرى وحتى في حالة فرضها تجاه بعض الدول الإقليمية الكرى؛ لأنها تملك المقومات الاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة والأهمية الجيواسترا­تيجية التي تجعلها تنوع علاقاتها الاقتصادية، وتدفع إلى تشكيل تحالفات جديدة تهدد استقرار النظام الدولي وتزيد من حالة الاستقطاب في العلاقات الدولية.

 ??  ??
 ??  ?? أ.د أحمد الرصان أستاذ العلاقات الدولية – قسم العلوم السياسية، جامعة الملك
عبدالعزيز
أ.د أحمد الرصان أستاذ العلاقات الدولية – قسم العلوم السياسية، جامعة الملك عبدالعزيز

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates