Trending Events

تطويق المدن:

دلالات فقدان سيطرة الدول على أقاليمها الجغرافية

- مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

يبدو أن الاتجاه الصاعد في منطقة الشرق الأوسط يتمثل في نزوع الفاعلين المسلحين من غير الدول إلى تطويق المدن الرئيسية ومن ضمنها عواصم واختراقها، بهدف إحكام السيطرة عليها.

من الواضح أن سيطرة الدولة على كامل إقليمها لم تعد أحد بديهيات اعتبارات السيادة في منطقة الشرق الأوسط، في ظل تصاعد التهديدات لوحدة وتماسك دول المنطقة، مع صعود سطوة الفواعل المسلحة من غير الدول، واتجاهها لاقتطاع دويلات من صلب الدول القائمة في الإقليم في أحد تجليات الإحلال محل الدولة، وتقديم بديل للكيانات السياسية الشرعية المعترف بها دولياً. وبات تطويق العواصم سواء عبر الانتشار العسكري والإحلال محل الدولة في فرض النظام والاستخدام القهري للقوة، وأيضاً الهيمنة على المؤسسات السيادية وانتزاع المقومات الرمزية والمؤسسية من قبضة الدولة اتجاهاً صاعداً في المنطقة.

اأولاً: موقع المدن في الاتجاهات النظرية

ظلت المدن أحد أهم معطيات سيطرة الدولة على إقليمها، وكأحد مقومات السيادة، وإن ظلت على هامش علم السياسة على حد تعبير بول بيترسون Paul Peterson في كتابه المعنون "City Limits" تعبيراً عن ضعف إسهامات السياسة فيما يتعلق بتناول ودراسة المدن من وجهة نظره. وفي هذا الصدد فسرت جيسكا تروستين Jessica Troustine هذا التهميش لمكانة المدن كوحدة تحليل في دراستها "صعود دراسة سياسة المدن" الصادرة في سبتمبر 2009 إلى تراجع أهميتها كفاعل في النظم السياسية في ظل تركز كافة الاختصاصات السياسية والاقتصادي­ة والمالية في المؤسسات المركزية ذات الطابع القومي، فضلاً عن أن المؤسسات الوسيطة الواصلة بين الدولة والمجتمع، مثل المجتمع المدني والأحزاب والإعلام، عادة لا تستحوذ على التأثير السياسي على عملية صنع القرار إلا إذا تم تمثيلها على المستوى القومي المركزي بافتراض تماسك الدولة واحتكارها لاستخدام القوة وفق المعايير التقليدية للسيادة.

إن سيطرة الدولة على المدن واحتكارها اختصاصات فرض القانون واستخدام القوة المسلحة ظلت حاضرة في خلفية التحليلات التي تناولت بناء الدولة State Building باعتبارها أحد المسلمات التاريخية المرتبطة بنشأة الدولة القومية منذ معاهدة صلح وستفاليا 1648، حيث أشار تشارلز تيللي Charles Tilly في كتابه المعنون " القهر ورأس المال والدول الأوروبية" إلى أن نشأة الدولة القومية شهدت ارتباطاً عضوياً بين رغبة النخب الحاكمة في الهيمنة على إقليم

الدولة وتأسيس المدن الكبرى كتكوينات إقليمية لممارسة تجليات السيادة التي تدعم نزعات التوسع الخارجي، والتي تمثلت في جباية الضرائب والرسوم وفرض التجنيد الإجباري وتنظيم العمل في المصانع اتساقاً مع التحولات المجتمعية التي فرضتها النهضة الصناعية.

وفي السياق ذاته، أشار كريستوفر كلافام Christophe­r Clapham في دراسته حول "السيادة في دول العالم الثالث" إلى أن أهم أزمات نشأة الدول النامية بعد الاستقلال تمثلت في تحويل الاعتراف الخارجي الذي نالته تلك الدول عقب الاستقلال إلى شرعية سياسية للنخب الصاعدة للسلطة، وهو ما جعل تأسيس المدن أحد أهم أركان سياسات التحديث Modernizat­ion لصهر الانتماءات الأولية والهويات الفرعية وبناء روابط المواطنة. وكان موقع العاصمة يعبر عن نطاقات نفوذ نخب الحكم والجماعات الإثنية والطائفية الداعمة لها والهوية الثقافية الغالبة للدولة، فضلاً عن اعتبارات الملاءمة الاقتصادية والمناعة الأمنية والعسكرية بما جعل توزيع المدن في الإقليم بمنزلة تصميم لجغرافية بناء الدولة الأمة في تلك الدول وفق الأدبيات.

في المقابل تفسر اتجاهات نظرية أخرى فقدان الدولة سيطرتها على المدن المركزية، باعتبارها أحد مظاهر إخفاق الدولة في استكمال عملية التنمية الحضرية Urbanizati­on ومأسسة التحديث نتيجة انتشار الفساد وشخصنة السلطة وعجز الدولة عن السيطرة على التكوينات المجتمعية الأولية كأحد أبعاد معضلة الدولة الضعيفة والمجتمع القوي Strong -Society Weak State التي أشار إليها جويل مجدال في تحليله لعلاقة الدولة بالمجتمع.

وفي السياق ذاته، يفسر براين سميث Brian Smith في كتابه "فهم سياسة العالم الثالث" فقدان الدول النامية سيطرتها على إقليمها واقتطاع بعض التكوينات المجتمعية والفاعلين المسلحين ما دون الدول لمساحات من تلك الأقاليم والإحلال محل الدولة بعدد من الخصائص البنيوية لدول ما بعد الاستقلال، أهمها ما يلي: 1- التعددية المجتمعية المعقدة: حيث أخفقت سياسات بوتقة الصهر Melting Pot التي اتبعتها النظم السلطوية الحاكمة في مراحل ما بعد الاستقلال لتحييد آثار التعددية المعقدة والانقساما­ت المتداخلة Cross Cutting Cleavages ذات الأبعاد الإثنية والطائفية والدينية واللغوية، مما أدى إلى إخفاق الاندماج الوطني، وتفكك إقليم الدولة إلى جيتوهات مغلقة منفصلة عن العاصمة التي تصبح التجلي الجغرافي الوحيد لكيان الدولة. 2- عسكرة التفاعات السياسية: إزاء الإخفاق في تحقيق التنمية والإحباط المجتمعي المصاحب، تصبح نظم الحكم مهددة بفقدان السلطة، وهو ما يدفعها للتشبث بتحصين نظام الحكم من خلال مضاعفة المخصصات المالية للأمن، وتعزيز الاندماج السياسي العسكري بزيادة نفوذ القيادات العسكرية، وهو ما يؤدي لتفجر الصراعات مع دول الجوار، وتآكل احترافية وتماسك المؤسسات العسكرية الوطنية. 3- مركزية الإدارة المحلية: حيث أخفقت النخب السياسية الحاكمة في الدول النامية في احتواء التعددية من خلال نموذج للحكم اللامركزي، لاسيما أن فكرة اللامركزية في النسق العقيدي للقيادات القومية السلطوية أضحت مرادفاً للانفصال والتفكك، وهو ما رسخ نموذج الدولة المركزية القائم على تحكم الدولة في التخصيص السلطوي للقيم والاقتصاد وأنماط التفاعلات المجتمعية كافة، بما أدى لأزمات التنمية غير المتوازنة والتهميش الاقتصادي للأقليات والأقاليم الطرفية، وهو ما يفسر التطلعات الانفصالية لتلك الأقاليم. 4- نموذج الدولة الرخوة: على الرغم من المركزية السائدة في أغلب الدول النامية فإنها اتسمت بكونها دولة رخوة Soft State نتيجة افتقادها كيانات مؤسسية وقواعد وآليات راسخة قادرة على ضبط التفاعلات المجتمعية والاقتصادي­ة بصورة تضمن لها البقاء، بما جعل إسقاطها من خلال الحروب الأهلية والانقلابا­ت العسكرية والاغتيالا­ت السياسية يسيراً، نتيجة الاندماج بين نظام الحكم والدولة، وهو ما ارتبط بالطابع النخبوي للدولة والارتباط العضوي بين نخب السلطة والثروة والتكوينات المجتمعية الأولية الداعمة لبقائها في السلطة، في مقابل إقصاء وتهميش الأقليات السياسية والمجتمعية التي احتلت موقع معارضة بقاء نظام الحكم، مما أجج الصراعات الداخلية بسبب اختلالات تقاسم السلطة والثروة بين الفرقاء المجتمعيين.

ثانياً: اأنماط فقدان ال�صيطرة على الاإقليم في ال�صرق الاأو�صط

لم يكن فقدان بعض دول الشرق الأوسط السيطرة على مساحات جغرافية من إقليمها أحد مستجدات الواقع الإقليمي، بقدر كونه انتشاراً عرضياً لظاهرة إقليمية كامنة، حيث كشفت الثورات العربية عن مدى الوهن الذي تغلغل في كافة أركان دول عديدة بالمنطقة، حيث تعرض إقليم الدولة للتفتت لنطاقات جغرافية منعزلة تخضع لسيطرة جيوش طائفية وعشائرية وميليشيات مسلحة، ولم يعد لتلك الدول سوى مظاهر الوجود الرمزي الاسمي الذي يستند لثبات عنصر الاعتراف الدولي، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة لعدة أنماط لتراجع سيطرة الدولة على إقليمها: 1- اختراق العواصم: إذ تصدعت أركان بعض دول الإقليم في خضم الفوضى المطلقة التي سادت على أثر تداعي سيطرة المؤسسات الأمنية والعسكرية على إقليم الدولة، على غرار إحكام الحوثيين سيطرتهم على العاصمة صنعاء ومؤسساتها السيادية كافة، مثل البرلمان والبنك المركزي وديوان مجلس الوزراء ومقرّ القيادة العامة للقوّات المسلحة ومقر قيادة الفرقة الأولى مدرع التي كان يقودها اللواء علي محسن الأحمر، الخصم الأهم للحوثيين، ومناطق تمركز الحماية الرئاسية بالعاصمة، وقاموا بالاستيلاء على الأسلحة الثقيلة بتلك المقرات العسكرية وإرسالها لمناطق تمركز الحوثيين في الشمال.

لم يكن استيلاء الحوثيين على العاصمة سوى امتداد للتوسعات العسكرية للحوثيين انطلاقاً من صعدة، وتطويقهم التدريجي

للعاصمة عبر السيطرة التدريجية على محافظتي عمران وزفار، بعد هزيمة الكتيبة 310 التابعة للجيش وقتل قائدها، وهزيمة الميلشيات القبلية التابعة لقبيلتي حاشد وآل الأحمر، المرتبطين بحزب التجمع اليمني للإصلاح، التابع لجماعة الإخوان المسلمين. ولم يتوقف الحوثيون عن التوسع في أقاليم الدولة عقب السيطرة على العاصمة، ففي منتصف أكتوبر 2014 استولى الحوثيون على مدينة الحديدة التي تعتبر أكبر المدن اليمنية التي تطل على البحر الأحمر، فضلاً عن الاستيلاء على مدينة رادع، على الرغم من التوافق على تشكيل حكومة يمنية توافقية بقيادة خالد محفوظ بحاح سفير اليمن السابق لدى الأمم المتحدة.

على مستوى آخر أدى انهيار مؤسسات الدولة في ليبيا إلى سقوط العاصمة طرابلس في قبضة قوات فجر ليبيا قبيل نهاية أغسطس 2014 عقب هزيمتها للواء القعقاع وكتيبة الصواعق التابعة للجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وسيطرتها على مطار طرابلس ومعسكر النقيلة الاستراتيج­ي، وهو ما دفع مجلس النواب المنتخب والمنعقد في مدينة طبرق الليبية لاعتبار قوات فجر ليبيا وكتيبة أنصار الشريعة جماعات إرهابية.

ويرتبط احتلال العاصمة من جانب ميليشيات فجر ليبيا بتنازع الشرعية القائم بين المؤتمر الوطني المنتهية ولايته الذي أعاده للانعقاد في طرابلس الإخوان المسلمون والفصائل الإسلامية، استناداً للدعم العسكري لتحالف فصائل الدروع، وتنظيم أنصار الشريعة وكتائب فجر ليبيا ومقاتلي مصراتة، حيث يدعي أعضاء المؤتمر الوطني أن مجلس النواب المنتخب غير شرعي؛ لأنه لم يبدأ جلسات انعقاده في العاصمة طرابلس، ولم يلتزم بمراسم تسلم السلطة المنصوص عليها في الدستور الليبي، بينما يستند مجلس النواب المنتخب والقائم بمدينة طبرق الليبية إلى دعم قوات الجيش الوطني الليبي وكتائب الصواعق، والقعقاع الذراع العسكرية لقوى التحالف الوطني المتمركزة في مدينة الزنتان، فضلاً عن دعم مجلس القبائل الليبية الذي ينتمي إليه أغلب قيادات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. 2- تطويق العواصم: عمدت بعض الميليشيات المسلحة لفرض حصار على العواصم في خضم الصراعات الأهلية الأكثر احتداماً في منطقة الشرق الأوسط. ففي سوريا أطلقت كتائب جيش الإسلام التابعة للجبهة الإسلامية "معركة تطويق مطار دمشق" قبيل نهاية أغسطس 2014، بهدف قطع تدفق الإمدادات والمتطوعين الداعمين لنظام الأسد والحد من التفوق الجوي لقوات النظام. ومن ثم كثفت قوات جيش الإسلام وأجناد الشام المتمركزة في محيط ريف دمشق، خاصة في الغوطة الشرقية قصفها المواقع العسكرية المحيطة بالمطار في العاصمة، فضلاً عن استهداف القصر الرئاسي والمؤسسات السيادية. ويحتدم الصراع المسلح بين القوات الداعمة لنظام الأسد وقوات المعارضة السورية في منطقة حي جوبر شرق العاصمة دمشق، لموقعه الاستراتيج­ي الذي يجعله خط التماس الأول بين ريف دمشق الشرقي، والعاصمة، فضلاً عن تحكمه في مواقع استراتيجية مثل ساحة العباسيين والطريق الدولي المؤدي لوسط العاصمة. وفي هذا الصدد استغلت فصائل الجيش الحر تمركزها على أطراف العاصمة في إنشاء شبكة أنفاق تخترق العاصمة لاستغلالها كخطوط إمداد، وفي تنفيذ هجمات نوعية ضد قوات نظام الأسد.

الأمر ذاته ينطبق على العاصمة العراقية بغداد، التي أحكم تنظيم "داعش" حصاره على أطرافها الجنوبية والشمالية والغربية، ففي منتصف أكتوبر 2014 تمكنت قوات "داعش" من السيطرة على معسكر هيت العسكري على حدود الفلوجة بعد انسحاب اللواء 27 منه وتراجعه باتجاه العاصمة، ويستدل على اقتراب "داعش" من اختراق العاصمة العراقية بتصريحات رئيس أركان القوات الأمريكية الجنرال مارتن ديمبسي حول التدخل الجوي الأمريكي لإنقاذ مطار بغداد من السقوط بيد "داعش"، فضلاً عن تكثيف "داعش" هجماته الانتحارية في قلب العاصمة، مثل التفجيرات الانتحارية بحي الكاظمية في قلب العاصمة العراقية بغداد التي أسفرت عن مصرع وإصابة ما لا يقل عن 70 قتيلاً.

وفي اليمن لم يخترق الحوثيون العاصمة اليمنية صنعاء قبل أن يقوموا بدحر القوات الحكومية اليمنية، وميليشيات القبائل في عمران وزفار والسيطرة الكاملة على ذمار؛ المعقل الثاني لمعتنقي المذهب الزيدي بعد صنعاء، وعقب سيطرتهم على العاصمة قامت ميليشيات الحوثيين بالتمدد عسكرياً في محافظات حجة والمحويت، ثم السيطرة على الحديدة؛ ثاني أكبر موانئ اليمن، والمركز الاقتصادي الرئيسي بها، ومحاولة السيطرة على منطقتي الجوف ومأرب، حيث منابع النفط في اليمن، بهدف تعزيز السيطرة الاقتصادية على الدولة. 3- انفصال المدن: حيث فقدت بعض دول منطقة الشرق الأوسط سيطرتها على مساحات من إقليمها نتيجة توسع الميليشيات المسلحة التي تمكنت من اقتطاع دويلات من أقاليمها وإحلالها محل مؤسسات الدولة الرسمية، فعلى الرغم من تكثيف الجيش الوطني الليبي حملاته على مناطق تمركز تنظيم أنصار الشريعة فإن التنظيم لايزال يحكم قبضته على مناطق واسعة من مدينة بنغازي، وهو ما دفع سكان المدينة للدعوة إلى التظاهر بالسلاح في منتصف أكتوبر 2014 تحت شعار "انتفاضة 15 أكتوبر"، والتي بدأت بوادرها بإغلاق الطرق الرئيسية بسواتر ترابية من قبل الشباب الليبي دعماً للجيش الوطني الليبي، بينما خرجت مدينة درنة عن سيطرة الدولة الليبية منذ إعلان مجلس شورى شباب الإسلام سيطرته عليها وانضمامه لتنظيم "داعش"، ومبايعتهم زعيمه أبوبكر البغدادي منذ يونيو 2014، وتشكيلهم إمارة

العقوبات الاقتصادية ليست فعّالة بين الدول الكرى وحتى في حالة فرضها تجاه بعض الدول الإقليمية الكرى؛ لأنها تملك المقومات الاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة والأهمية الجيواسترا­تيجية التي تجعلها تنوع علاقاتها الاقتصادية، وتدفع إلى تشكيل تحالفات جديدة تهدد استقرار النظام الدولي وتزيد من حالة الاستقطاب في العلاقات الدولية.

منفصلة على حد تعبير قياداتهم وتطبيقهم الحدود بالمدينة. الأمر ذاته شهدته الدولة السورية في خضم الصراعات الأهلية، حيث تقاسمت مختلف فصائل المعارضة المدن السورية وأعلنت دويلات محدودة النطاق في محافظات لحج والرقة وريف حلب في سوريا.

وتمكن تنظيم "داعش" من تأسيس دويلة ممتدة الأطراف عبر الحدود السورية العراقية، تمتد لتشمل الرقة ودير الزور وقطاعات من ريف حلب في سوريا والموصل ونينوى وصلاح الدين والرمادي في العراق، وعلى الرغم من تكوين تحالف دولي للتصدي ل"داعش" لايزال التنظيم قادراً على تمديد رقعة دويلته الناشئة، وهو ما يستدل عليه بمحاصرة مقاتلي التنظيم مدينة كوباني الكردية في سوريا لاختراق قلب منطقة تمركز الأكراد في سوريا، وقطع الاتصال بين مدينتي عفرين والجزيرة الواقعتين على أطراف الإقليم الكردي في سوريا. 4- انفات الأطراف: أصبح انحسار سيطرة الدولة بعيداً عن المناطق الطرفية نحو المركز أحد أهم تجليات حالة الضعف التي تعتري دولاً عديدة في منطقة الشرق الأوسط، ففي لبنان لاتزال التنظيمات الجهادية المرتبطة بجبهة النصرة تسيطر على قطاعات واسعة من مدينة عرسال، والتي تأكدت بأسر تلك التنظيمات عدداً من جنود الجيش اللبناني في منتصف سبتمبر 2014، واستهدافهم المتواصل مناطق تمركز الجيش على أطراف المدينة. الأمر ذاته ينطبق على منطقة جبل الشعباني على الحدود التونسية الجزائرية، التي لا تزال في قبضة خلايا "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، على الرغم من الحملات المتكررة للجيش التونسي. أما الجزائر فشهدت تصاعد نشاط تنظيم "جند الخلافة في أرض الجزائر" في المناطق الجبلية بولاية تيزي وزو، على الرغم من حداثة عهد التنظيم الذي تأسس في نهاية أغسطس 2014، معلناً مبايعته تنظيم "داعش" وانشقاقه عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بقيادة عبدالملك دروكدال، حيث نفذ التنظيم عمليات إعدام الرهائن الفرنسيين قبيل نهاية سبتمبر 2014.

وعلى الرغم من سيطرة القوات الصومالية وقوات الاتحاد الأفريقي في الصومال على مدينة براوي في مطلع أكتوبر 2014، التي تعتبر أهم مناطق تمركز حركة الشباب الإسلامية والميناء الوحيد الذي تسيطر عليه الحركة، فإن الحركة لاتزال تسيطر على المناطق الريفية والطرفية في الصومال، ومازال لديهم إمكانية تدبير تفجيرات انتحارية في قلب العاصمة مقديشو، كتلك التي استهدفت القصر الرئاسي، فضلاً عن محاولة اغتيال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود عبر استهداف الطائرة الرئاسية أثناء هبوطها في مدينة براوي في منتصف أكتوبر 2014. كما لم يؤد التدخل العسكري الفرنسي في شمال مالي لانتهاء سيطرة تنظيم "الموقعون بالدماء" بقيادة مختار بلمختار و"الحركة الوطنية لتحرير أزواد" على المناطق الطرفية من مالي، وهو ما دفع مسؤول عمليات حفظ السلام في الأمم المتحدة ايرفيه لادسو قبيل نهاية سبتمبر 2014 إلى التحذير من عودة التنظيمات الإرهابية لشمال مالي وكثافة عملياتها ضد قوات حفظ السلام الأممية في الوقت الذي بدأت فيه فرنسا سحب قواتها تدريجياً من مالي.

ثالثاً: دلالات تداعي ال�صيطرة الحكومية على المدن

يُعد إخفاق عدد من دول منطقة الشرق الأوسط في السيطرة على المدن المركزية بها أحد أهم تجليات حالة الإخفاق الوظيفي التي أصابت مؤسساتها الرئيسية، وهو ما أدى إلى تفتتها لنطاقات جغرافية منعزلة، حيث لم يعد للدولة سوى أداء وظائف رمزية في ظل صعود التكوينات الأولية الطائفية والمذهبية والقبلية، وأدائها أدواراً بديلة لسد الفراغ الناجم عن انحسار دور الدولة، وهو ما صاحبه فقدان الدولة الدعائم الجغرافية لبقائها نتيجة فقدانها احتكار استخدام القوة، وشيوع أنماط الحماية الذاتية لدى الجماعات المحلية، وانهيار حكم القانون تحت وطأة الصراعات الأهلية المتصاعدة بين مراكز متعددة للقوة في المجتمع، في ظل سيادة قوانين القوة وشيوع حالة "حرب الكل ضد الكل" السابقة على نشأة الدول القومية، مما أدى إلى تفكك روابط الولاء والمواطنة بين الأفراد والدولة وارتباطهم بدوائر الانتماء الأولية. أما التحول الفاصل في هذا الصدد فيتمثل في تكون تحالفات اجتماعية عسكرية بين التكوينات المجتمعية المذهبية، والطائفية والعرقية وميليشيات عسكرية تكفل لها تحقيق الأمن والتصدي للجماعات المعادية فيما يمكن اعتباره أحد تجليات عودة نموذج "دولة المدينة" السائد في الممارسة السياسية التاريخية. ولا ينفصل ذلك عن مدى الزخم الاستثنائي الذي اكتسبته أدوار الفاعلين المسلحين ما دون الدول، ونزوعها لإعادة صياغة خريطة الشرق الأوسط بتفكيك الخطوط الفاصلة بين الدول وتكوين دويلات عابرة للحدود على غرار هيمنة "داعش" على نطاق جغرافي ممتد عابر للحدود الفاصلة بين سوريا والعراق والسعي لتشكيل نموذج لدولة الخلافة وفق الحدود التاريخية للدولة الإسلامية في أقصي توسعاتها. وعلى النقيض، تصدعت جيوش بعض الدول تحت وطأة افتقادها الهوية الجامعة، نتيجة هيمنة الانتماءات القبلية والمذهبية، على غرار انقسام الجيش اليمني بين الكتائب الموالية لآل الأحمر، التي كان يقودها اللواء على محسن صالح الأحمر، في مقابل ولاء بعض وحدات الجيش لقياداتها من أقارب الرئيس السابق علي عبداله صالح، خاصة في الحرس الجمهوري. وهو ما ينطبق على الجيش العراقي الذي ظلت الانتماءات المذهبية حاكمة لتكوينه، بينما ظلت التناقضات حاكمة للمشهد اللبناني بين محدودية حجم وتسليح الجيش، وتصاعد سطوة حزب اله وتوطد شبكة تحالفاته الإقليمية المستندة للدعم الإيراني. إجمالاً يمكن اعتبار انفراط عقد إقليم بعض دول منطقة الشرق الأوسط وفقدانها السيطرة على المدن الرئيسية والمناطق الطرفية الحدودية وتصدع كياناتها الجغرافية، أحد أهم مؤشرات تشكل اتجاهات جنينية جزئية لتغير خريطة منطقة الشرق الأوسط بانحسار نموذج الدولة القومية الموحدة تحت وطأة العوامل الدافعة للتفكك وصعود كيانات جغرافية بديلة يتم انتزاعها من صلب الدول القائمة، ترسم حدودها الخطوط الفاصلة بين الانتماءات الأولية المذهبية والطائفية والقومية وتوازنات القوى الهشة بين الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية والفصائل المسلحة والتحالفات الإقليمية الداعمة لكل طرف.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates