Trending Events

التجمعات الإرهابية:

تمركز ”الجهاديين“ في مناطق التماس الحدودية بالمنطقة د. خالد حنفي علي

- د. خالد حنفي علي باحث في الشؤون الأفريقية - مجلة السياسة الدولية – الأهرام

تشكل نظرية “ملء الفراغ”، والتي يقضي مضمونها بأن “كل فراغ يحتاج إلى قوة لملئه تناسب طبيعته”، أحد أبرز الاقترابات المفسرة لتمركز الجماعات الجهادية المسلحة في مناطق الحدود، التي لا تمتد لها يد سلطات الدول المتماسة معها.

وتمثل الجماعات الجهادية باعتبارها فواعل غير رسمية، ما يشبه "القوة البديلة" للدول في تلك المناطق الفارغة سكانياً وتنموياً وأمنياً، والتي تستغلها في تكريس ظاهرة "الانتقالات الجهادية المتبادلة" بين ساحات الصراع، سواءً في شمال وغرب ووسط أفريقيا، أو في منطقة المشرق العربي.

ولا تعبر التمركزات الجهادية في مناطق الحدود عن تآكل قدرة الدولة على بسط نفوذها على جغرافيتها فحسب، بل تؤكد أن تصاعد حدة الصراعات بين دول الجوار جعلت من هذه المناطق بؤراً مصدرة للإرهاب وعدم الاستقرار، سواء إلى داخل الدول أو عبرها. فأحد التقديرات الأمنية الأساسية لعملية الفرافرة التي قتل فيها 22 عسكرياً في غرب مصر في يوليو 2014 تشير إلى أن المجموعات المسلحة المنفذة لها استغلت دعماً لوجستياً قادماً من المناطق الحدودية بين مصر والسودان وليبيا وتشاد. وقبل ذلك بنحو عام ونصف، مثلت عملية عين أميناس الشهيرة في الجزائر نموذجاً للتلاقي الجهادي متنوع الجنسيات بين المناطق الحدودية على حدود جنوب ليبيا وشمال مالي.

ومفهوماً، أن منطقة الحدود، هي التي تقع بين خط الحدود الفاصل بين دولتين، على أن الأهم هنا، هو ارتباطها عادة ب "بظهير جغرافي حاضن" في إحدى الدولتين يرتبط بتفاعلات المنطقة الحدودية. فعلى سبيل المثال، ترتبط المنطقة الحدودية بين مصر والسودان وليبيا وتشاد ب"الكفرة" في جنوب شرق ليبيا. ويمثل شمال مالي إقليماً متصلاً بتفاعلات عدة مناطق حدودية تربط دول المغرب العربي وغرب أفريقيا، خاصة بين مالي والجزائر وموريتانيا والمغرب والنيجر وبوركينا فاسو.

ولا يختلف الأمر في منطقة المشرق العربي، وإن كانت خصائصه مختلفة، فأماكن سيطرة تنظيم "داعش" على الحدود بين سوريا والعراق وتركيا تتصل بوجود منصات دعم وتغذية للتنظيمات على المناطق الحدودية، مثل الأنبار العراقية أو دير الزور السورية.

لذا لا يمكن فصل طبيعة الأنماط المتعددة لوجود الجماعات الجهادية في المناطق الحدودية عن "البؤر الخلفية ذات الارتباط الجغرافي"، وطبيعة العلاقات بين الدول المتماسة مع المنطقة الحدودية، وعلاقة الجماعات الجهادية بالفواعل الأصلية في المنطقة الحدودية، ومدى ما تمثله تلك

المناطق من أهمية في استراتيجيا­ت القوى الكبرى.

اأولً: عوامل جذب المناطق الحدودية للجهاديين

إذا كانت المناطق الحدودية، هي بمنزلة "جغرافيات طاردة" للسكان والتنمية، ومن ثم الأمن، فإنها في المقابل تشكل "نطاقات جاذبة" لتجمع الجماعات الجهادية المسلحة، لعوامل عديدة، من أبرزها: 1- "الجغرافيا الدفاعية": تتمتع المناطق الحدودية بميزة "الحصن الطبيعي الآمن" لأي أنشطة للجماعات الجهادية، بفعل بطبيعتها الصحراوية القاسية، حيث تنتشر فيها الجبال والوديان والكهوف والكثبان الرملية، والتي لا يتكيف معها سوى القبائل التي ارتبطت بتاريخ هذه المناطق.

ينطبق هذا الوصف على نماذج لبعض المناطق الحدودية بين مصر والسودان وليبيا وتشاد، وكذلك بين شمال مالي والجزائر وموريتانيا والمغرب، وكذلك بين جنوب غرب ليبيا والجزائر والنيجر، أو المناطق الحدودية غير المسيطر عليها التي تصل شمال نيجيريا بكل من النيجر مع الكاميرون.

وثمة نمط جغرافي آخر للمناطق الحدودية، خاصة تلك التي تقع بين تركيا وسوريا والعراق، إذ يغلب عليها الطابع الريفي السهلي، علاوة على قربها من موارد مهمة مثل، النفط في المنطقة الشرقية في سوريا. وفي المقابل فإن الجغرافية الصحراوية المكشوفة في المناطق الحدودية بين الأردن والعراق قد تحد من توغل تنظيم "داعش" باتجاه شرق الأردن، حيث تقل أماكن الاختباء من أجهزة الأمن، بحسب تقدير لرئيس الوزراء الأردني الأسبق معروف البخيت.

يضاف لما سبق، أن جغرافيا المناطق الحدودية تشكل معابر جيوسياسية مؤثرة، بما يساعدها على جذب الجماعات الجهادية التي تتبني خطاباً أيديولوجياً أممياً، وتحركات ميدانية ذات طبيعة عابرة للحدود. فمثلاً تملك المناطق الحدودية، خاصة التي تدور في محيط الجغرافيا الليبية، سواء من جهة، مصر والسودان وتشاد أو من جهة النيجر والجزائر، محفزاً لتجمع الجهاديين، لأنها تعد مناطق انتقال استراتيجي (للأفراد والسلع والأفكار) من قلب أفريقيا إلى أوروبا وبالعكس. كما أن شمال مالي الذي يربط بين عدة مناطق حدودية يمثل نقطة مرور استراتيجية للجريمة المنظمة من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا عبر أفريقيا الغربية.

تتضافر مع ذلك معضلة طول خطوط الحدود بما يصعب من مراقبتها ويمنع تسرب تهديدات الجماعات الجهادية، فتبلغ حدود ليبيا مع جيرانها الإقليميين المتماسين معها 4383 كم، بينما تصل الحدود بين شمال نيجيريا والنيجر، حيث تتمركز جماعة بوكو حرام النيجيرية، إلى 1500 كم، ويزداد الطول إلى 1600كم بين نيجيريا والكاميرون، فيما يبلغ 1250كم بين العراق وسوريا.

وتترافق معضلة مراقبة الحدود مع أزمات سياسية واقتصادية تجعل منها مكاناً أكثر أماناً للإرهابيين، فلم تستطع ليبيا بناء جيش وطني يؤمن حدود الدولة بفعل انتشار الميليشيات المسلحة التي تغولت على سلطة الدولة الأمنية بعد سقوط القذافي. وتواجه نيجيريا صراعات داخلية تارة نحو الشرق مع الأيبو، حيث المواجهات المسلحة مع حركة دلتا النيجر بسبب عدم العدالة في تقسيم الموارد النفطية، علاوة على بوكو حرام في الشمال الشرقي، وما خلفها من ولايات إسلامية شمالية تضم جماعات دينية متشددة تغذت على البيئة الفقيرة للهوسا والفولاني في هذا الجزء من الدولة. ولم تستطع العراق بعد الغزو الأمريكي بناء مؤسسات سياسية وأمنية توافقية بين الطائفية البازغة، إذ غلب عليها السمت التسلطي الشيعي، والتهميش السني. ومما يستدل على تراخي الوظيفة الأمنية للدولة وتأثيره على المناطق الحدودية. 2- "الموارد الجهادية": توجد علاقة بين مناطق تجمع الجماعات الجهادية، ومسارات التهريب (سلاح، مخدرات، هجرة غير شرعية، سلع) في المناطق الحدودية، وذلك لتوفير بنية اقتصادية، سواء للتدريب أو تمويل العمليات الارهابية وشراء الأسلحة. وتمتد تلك الموارد في بعض الحالات لتشمل مصادر الطاقة النفطية ذاتها، كما في نموذج "داعش" بين العراق وسوريا وتركيا.

وهنا تبرز أيضاً مجموعة من المناطق الحدودية التي تشكل مورداً للجهاديين، ومنها منطقة تجارة الموت الحدودية التي تقع بين شمال مالي وشمال موريتانيا والحدود المغربية الجزائرية الجنوبية، ويترافق فيها نشاط كل من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي والطوارق وجماعات من جبهة البوليساري­و مع انتعاش أنشطة تهريب السلاح.

كذلك، فإن مثلث السلفادور الواقع بين مالي والجزائر والنيجر يمثل هو الآخر معبراً لتهريب السلاح والمقاتلين، سواءً من داخل ليبيا أو إليها من المغرب العربي.

أما الكفرة في جنوب شرق ليبيا، والتي تشهد صراعات بين قبائل التبو الأفريقية والزوي العربية على مسارات التهريب، فهي تمثل مغذياً رئيسياً لاقتصادات التهريب في المنطقة الحدودية بين مصر والسودان وليبيا وتشاد، بحسب دراسة معهد السلام الأمريكي في فبراير 2014، والتي حددت مسارات التهريب، سواء للسلاح أو المخدرات والهجرة غير الشرعية بين الدول الأربع عبر المناطق الحدودية.

وتبرز جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا كنموذج للجماعات الجهادية التي انخرطت في اقتصادات التهريب في مناطق الحدود بين مالي والجزائر وموريتانيا والمغرب، والتي تعد إحدى واجهات تجارة المخدرات. كما تمثل تجارة الرهائن – بحسب دراسة لمعهد كارنيجي حول الجريمة المنظمة والصراعات في الساحل والصحراء- مصدراً مالياً للمسلحين في شمال مالي، حيث يُختطَف مواطنون غربيون بهدف ممارسة ابتزاز مزدوج، يتمثل في أخذ الفدية وإطلاق سراح أعضاء الجماعة المسجونين، فبخطف 80 سائحاً غربياً، وقبض فديات بقيمة 183 مليون يورو، تمكن تنظيم القاعدة من بناء قاعدة كبيرة في المنطقة الصحراوية التي تمتد على حدود الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر.

يضاف لذلك ما تتيحه المناطق الحدودية من موارد بشرية تسعى لتجنيدها الجماعات الجهادية، فتشير تقارير غربية (معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى) إلى وجود معسكرات للتدريب خاصة لجماعة أنصار الشريعة في جنوب ليبيا، حيث يتم تجنيد مئات الجهاديين من المناطق المحيطة ليتم إرسالهم فيما بعد إلى شمال مالي أو سوريا أو العراق.

وتعد منطقة تندوف جنوب غرب الجزائر، والمتماسة مع موريتانيا والمغرب عند الصحراء الغربية، إحدى أبرز مناطق تجنيد المقاتلين للعديد من التنظيمات الجهادية بالتعاون مع جبهة البوليساري­و، مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وبوكو حرام، وأنصار الدين، والتوحيد والجهاد في غرب أفريقيا.

وفي هذا السياق أيضاً، تشير دراسة لمشروع مسح الأسلحة الصغيرة حول الحدود الليبية التونسية إلى أن المنطقة الممتدة جنوب جبال نفوسة في غرب ليبيا إلى غدامس على الحدود الليبية التونسية الجزائرية، تتم عبرها عملية التهريب من قبل "القاعدة في بلاد المغرب العربي" وتنظيم "الموقعون بالدماء" بالتعاون مع قبائل الطوارق. 3 "التحالفات السكانية": استغلت الجماعات الجهادية الطبيعة السكانية ذات الطابع الصراعي الممتد، سواء مع الدول المتماسة في المناطق الحدودية أو فيما بينها، إما لتدعيم وجودها أو لإيجاد تحالفات دينية – قبلية.

في هذا السياق، يمثل شمال مالي نموذجاً للتحالفات السكانية بين الجماعات الجهادية (أنصار الدين، والتوحيد والجهاد، والقاعدة في بلاد المغرب) مع الفواعل القبلية (الطوارق وما تفرع عنهم من حركات سواء علمانية أو إسلامية) في المناطق الحدودية. وبالمثل، استطاع "داعش" صياغة تحالفات مع بعض القبائل والقوى السنية المضطهدة من قبل النظام العراقي، ليتمكن من التواجد في المناطق الحدودية بين سوريا والعراق وتركيا.

أما المنطقة الحدودية بين مصر والسودان وليبيا وتشاد، فإن بعض الدراسات الميدانية لمشروع مسح الأسلحة الصغيرة تشير إلى أن الفواعل القبلية في جنوب ليبيا أكثر تأثيراً في تفاعلات المنطقة من الجماعات الجهادية، لكن ثمة تقارير غربية أخرى تشير إلى تمركز جماعات جهادية، مثل أنصار الشريعة في أم الأرانب وتمسة وأوباري بغرض التدريب وشراء الأسلحة عبر المناطق الحدودية، وصياغة تحالفات متغيرة تستغل الصراعات القبلية في المنطقة.

من جانب آخر، ساهمت طبيعة المناطق الطرفية (الحواضن الممتدة على خطوط الحدود) في أن تصبح مصدراً لدعم المناطق الحدودية، لاسيما أنها تعرضت لمشكلتين أساسيتين، أولاهما نمط التهميش والإقصاء في النموذج التنموي المركزي الذي اتبع في تلك الدول على حد سواء، على الرغم من اختلاف التجارب السياسية، حيث حاز المركز السلطة والثروة، بينما تعرضت الأطراف إلى التهميش التنموي في الخدمات وغيرها. ويجد ذلك تطبيقات عدة، سواء في شمال مالي وجنوب ليبيا وشمال نيجيريا وجنوب تونس وغرب السودان وغرب مصر. ولعل انتفاضة الشباب العاطل في منطقة بن قردان على الحدود التونسية الليبية في 2010، جاءت على خلفية إغلاق البوابة الحدودية في رأس أجدير، مما يعني تعطل قدرتهم على الكسب من اقتصادات التهريب في المناطق الحدودية.

المشكلة الثانية تتعلق بالانتماء المزدوج لدى قاطني تلك المناطق، بفعل التداخلات القبلية بين مناطق الحدود، مما جعل سكان الحدود محل شك من السلطات المركزية، وهو أمر شائع في التعامل مع سكان الحدود كما في غرب مصر (مرسى مطروح) وشرقها (سيناء)، وغرب السودان وشمال تشاد، وشمال مالي. 4 صراعات الجوار الإقليمي: سمحت هذه الصراعات بتحول المناطق الحدودية إلى نقاط جذب وتمركز للجماعات الجهادية، خاصة أنها ساهمت في ضعف التنسيق الإقليمي لمراقبة وتنمية المناطق الحدودية. وثمة أمثلة عديدة للتوترات في العلاقات بين دول الجوار الاقليمي المتماسة مع المناطق الحدودية، ومنها العلاقات الفاترة بين مصر مع كل السودان وليبيا بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013، ومعضلة دارفور في العلاقات السودانية – التشادية، ومعضلة الصحراء الغربية في العلاقات المغربية - الجزائرية، والعلاقات المتوترة بين سوريا والعراق، خاصة إبان حكم صدام حسين، بعد أن سمح نظام بشار الأسد بعبور مقاتلين جهاديين من سوريا إلى العراق آنذاك، أضف إلى ذلك العلاقات المتوترة بين الحين والآخر بين نيجيريا مع كل من النيجر والكاميرون بفعل نزاعات حدودية.

وتمثل المناطق الحدودية إحدى أدوات الضغط الإقليمي على الأمن القومي للدول، فعلى سبيل المثال، تحولت المناطق الحدودية بين ليبيا وتونس بعد الثورة في البلدين إلى منفذ لقوى إقليمية لدعم أطراف القتال بالسلاح، إذ يشير تقرير لمشروع مسح الأسلحة الصغيرة إلى أن الأسلحة القطرية التي وصلت إلى غرب ليبيا جاءت عبر معبر الذهبية – وزان الحدودي، وأشرفت عليه الحكومة التونسية.

لا تعبر التمركزات الجهادية في مناطق الحدود عن تآكل قدرة الدولة على بسط نفوذها على جغرافيتها فحسب، بل تؤكد أن تصاعد حدة الصراعات بين دول الجوار جعلت من هذه المناطق بؤراً مصدرة للإرهاب وعدم الاستقرار، سواء إلى داخل الدول أو عبرها.

ثانياً: اأنماط تمركز الجهاديين في المناطق الحدودية

ثمة ثلاثة أنماط أساسية لتمركز الجماعات الجهادية في المناطق الحدودية، فإما أن تكون تلك المناطق بمنزلة "ملاذات آمنة" أو "مستوطنات جهادية" أو "ممرات عبور". ويتحكم في كل نمط مجموعة من العوامل، مثل، درجة قوة الفواعل القبلية السكانية وطبيعة التحالفات القائمة معها، ومدى خضوع المنطقة للضغط

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates