Trending Events

أزمة هيكلية:

تصاعد التحديات التي تواجه تماسك الاتحاد الأوروبي

- كارن أبو الخير المستشار الأكاديمي لشؤون العلاقات الدولية بالمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيج­ية بالقاهرة

كارن أبو الخير

يواجه الاتحاد الأوروبي جملة تحديات سوف تكون لها آثار على مساره المستقبلي، ومدى قدرته على تحقيق مزيد من الاندماج، خاصة على المستويات المالية والاقتصادي­ة.

وفي مقدمة تلك التحديات تراجع النموالاقت­صادي في أغلب دول القارة، بما فيها ألمانيا، واستمرار التداعيات المالية والاجتماعي­ة لأزمة اليورو في دول جنوب القارة، وأبرزها اليونان، بالإضافة إلى تراجع الثقة الشعبية في المشروع الأوروبي، وفي النخب والأحزاب السياسية التي قادت المسيرة الأوروبية خال العقود الماضية، وظهور أحزاب وتيارات سياسية تتبنى خطاباً شعبوياً مناهضاً إلى حد كبير لسيطرة مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

اأولاً: ت�ش�عد الخلاف�ت البينية الاأوروبية

تسود الانقسامات على الساحة السياسية فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الأزمات الاقتصادية المتصاعدة، فبينما تدفع دول أوروبية مهمة، مثل فرنسا وإيطاليا بضرورة اتباع سياسات تحفز النمو، تصر ألمانيا على ضرورة مواصلة سياسات التقشف المالي التي تم فرضها على دول أوروبية متعددة، مثل اليونان وإسبانيا. من ناحية أخرى، هناك صعوبات كبيرة تواجه تحقيق التوافق حول اتفاقية تحرير التجارة المقترحة مع الولايات المتحدة، التي من المفترض أن تعطي اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي دفعة قوية. ويواجه الاتحاد الأوروبي أيضاً مشكلة "إقناع" بريطانيا بالبقاء ضمن أعضائه، مع خافات حول قضايا متعددة، منها تحديد نصيب المملكة المتحدة من ميزانية الاتحاد الأوروبي، والتي تم الإعان عن إعادة تقييمها أواخر أكتوبر 2014، لترتفع بشكل كبير ومفاجئ، ما دعا دافيد كاميرون للإعراب عن غضبه بشكل عنيف وعلني. كما فجرت محاولات بريطانيا اقناع دول الاتحاد الأوروبي بوضع قيود على حركة الأفراد والعمالة الأوروبية المهاجرة إلى بريطانيا اعتراضات شديدة من الدول الأوروبية الأخرى، ما دفع ميركل للإعان عن عدم قبولها بمراجعة مبدأ أساسي من مبادئ الوحدة الأوروبية، أي مبدأ حرية حركة الأفراد، وأن بريطانيا بموقفها هذا "تقترب من نقطة الاعودة" فيما يتعلق بوجودها داخل الاتحاد.

وفي هذا الصدد، يرجع موقف كاميرون إلى ضغوط سياسية داخلية، حيث تذهب دوائر معارضة إلى أن العمالة الأوروبية تأتي بحثاً عن المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة البريطانية، ما يضع عبئاً على الخزانة العامة، ويحرم مواطني الدولة نفسها

من الاستفادة من هذه الامتيازات، وذلك على الرغم من أن دراسة صدرت في أوائل شهر نوفمبر 2014 عن جامعة بريطانية، أظهرت أن ما تدفعه العمالة الأوروبية المهاجرة من ضرائب إلى الخزانة البريطانية يفوق بكثير تكلفة ما تحصل عليه من خدمات حكومية، مثل الخدمات التعليمية والصحية. وهو مؤشر جديد على أن القضايا التي تتعلق بالأجانب في المجتمعات الأوروبية يتم تناولها بقدر كبير من "التسييس"، والبعد عن الموضوعية.

ث�نيً�: �شعود النزع�ت القومية وكراهية الاأج�نب

يرتبط التحدي المجتمعي للتماسك الأوروبي بصعود التيارات القومية وثقافة كراهية الأجانب عبر القارة الأوربية، حيث حذرت نافي بياي، المفوضة السامية لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة في جنيف في 10 يونيو 2014 من تصاعد خطاب كراهية الأجانب من جانب النخب السياسية في بعض الدول الأوروبية، وحذرت من أن ذلك الخطاب قد يؤدي لحدوث انتهاكات لحقوق الأجانب، وسيادة عدم التسامح الديني والعنصرية والتمييز، واستدلت بياي على رأيها بالهجوم على معبد يهودي في بروكسل، وتصريحات يودو فويجت الرئيس السابق للحزب الوطني الديمقراطي الألماني، والذي قال إن "أوروبا هي قارة ذوي البشرة البيضاء ويجب أن تبقى كذلك".

ولا تنفصل حالة كراهية الأجانب عن أحداث الاعتداء العنصرية التي تكررت في عدد من العواصم الأوروبية، ففي أثينا تعرض مهاجر أفغاني للطعن في مارس 2013، بينما شهدت المجر تظاهرات حادة من مجموعات يمينية متطرفة ضد الغجر، كما تكررت حوادث الاعتداء على العمال الأتراك في ألمانيا من جانب عصابات من النازيين الجدد، ولايزال الجدل محتدماً في النرويج حول تعرض 67 شخصاً لأحداث عنف من جانب جماعة يمينية متطرفة.

وفي هذا الصدد أفادت دراسة صادرة عن الشبكة الأوروبية للتمييز في عام 2013 بأن شعبية الأحزاب اليمنية المتطرفة تصاعدت بصورة غير مسبوقة في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، حيث كشف استطاع للرأي أجرته مؤسسة فريدريش إيبرت عن أن حوالي 40% من المشاركين في عدد من الدول الأوروبية أعربوا عن قلقهم من تزايد المهاجرين في أوروبا، كما عبر حوالي 50% ممن تم استطاع آرائهم عن قلقهم من تزايد أعداد المهاجرين من الدول الإسامية، وأشار 58% من المشاركين في الاستطاع في المجر إلى أنهم لا يسمحون لأطفالهم بالاختاط بأطفال من أصول أفريقية وفضل 46% ألا يجتمع أطفالهم مع أطفال من أصول يهودية.

وفي يناير 2014 ناقش البرلمان الأوروبي تقريراً حول العنصرية والتعصب في القارة الأوروبية، حيث تضمن التقرير إحصائيات على تصاعد جرائم الكراهية والعنصرية في القارة الأوروبية، ورصد التقرير تعرض نسبة تتراوح بين -32% 16من الغجر، وما بين -32% 19من الأفارقة للوقوع ضحية العنصرية والتمييز في الدول الأوروبية.

وفيما يتعلق بجرائم العنصرية وكراهية الأجانب، أكد التقرير أن تلك الجرائم وصل عددها إلى حوالي 5518 في السويد في عام 2013، وأنها استهدفت الغجر وذوي الأصول الأوروبية، وأشار التقرير إلى أن 57% إلى 74% من الأجانب والأقليات في دول الاتحاد الأوروبي يتعرضون لجرائم الكراهية والعنصرية وأن حوالي 75% من تلك الجرائم لا يتم الإباغ عنها، وورد في التقرير أن خطاب الكراهية بات منتشراً في جميع أنحاء القارة الأوروبية، وأنه بات متداولاً بقوة في الأوساط السياسية وعبر الانترنت، مشيراً إلى أن وجود أحزاب يمنية متطرفة مثل "حزب الفجر الذهبي اليوناني المتطرف"، والنازيون الجدد في ألمانيا، ما أدى لزيادة الجرائم ضد الأقليات والمهاجرين في شتي أرجاء الاتحاد الأوروبي.

ولا تقتصر جرائم الكراهية على الاعتداء الجسدي على المهاجرين والأجانب والأقليات، وإنما تشمل التهديدات والاعتداءا­ت الرمزية على غرار قيام مجموعة من المتطرفين من حزب الفجر الذهبي اليوناني في 18 أكتوبر 2014 بالاعتداء على المركز الثقافي العربي اليوناني في أثينا عقب قيامهم برسم صليب على الباب، وكتابة عبارات مهينة بحق المسلمين والعرب على الرصيف والحوائط وإلقاء رأس خنزير عند مدخل المركز الثقافي.

ولا ينفصل ذلك عن تصدر الأحزاب اليمنية المتطرفة لانتخابات البرلمان الأوروبي على غرار حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، الذي تصدر نتائج الانتخابات الأوروبية في مايو 2014 عقب فوزه بحوالي 25% من الأصوات مقابل 20% لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية وحوالي 14% للحزب الاشتراكي، وهو ما لا ينفصل عن حصول حزب اليمين المتطرف الهولندي على 12% من الأصوات وحزب الفجر الذهبي اليوناني المتطرف على 10% من الأصوات، وحصول حزب الحرية في النمسا على 20% من الأصوات، في حين تمكن حزب الاستقال اليميني المعادي للأجانب في بريطانيا من الحصول على 24 مقعداً من مقاعد بريطانيا البالغة 73 مقعداً في البرلمان الأوروبي، وحصل حزب التقدم اليميني المتطرف في النرويج على 29 مقعداً في الانتخابات الأوروبية، على الرغم من تورط قياداته في جرائم وانتهاكات بحق الأجانب والأقليات.

ث�لثً�: تهديدات عودة رو�شي� لدول �شرق وو�شط اأوروب�

تتفق تحليات خبراء التحليل الواقعي على أن استعادة روسيا قوتها "الإمبراطور­ية" لا تتحقق من دون إبقاء أوكرانيا ضمن دائرة نفوذها، التي تسعى لتقنينها عبر تحالف اقتصادي "أوراسي" جديد يضم دول الجوار التي كانت سابقاً جزءاً من الاتحاد السوفييتي، ومنها أوكرانيا، بل يذهب البعض إلى أن أولوية بوتين الأولى، بعد الحفاظ على سامة الأراضي الروسية، إبقاء أوكرانيا تحت سيطرته لعدة عوامل، من أهمها أن أوكرانيا تمثل "مهد" قيام الدولة الروسية تاريخياً،

وتتمتع بمكانة دينية أيضاً كموقع نشأة الكنيسة الأرثوذكسي­ة التي يتبعها غالبية الشعب الروسي.

كما تمثل أوكرانيا الممر الرئيسي الذي تمر منه إمدادات الغاز الروسي إلى عدة دول أوروبية، وتمثل أيضاً أوكرانيا ودول شرق أوروبا الأخرى بالنسبة لروسيا "حائط الصد الأول"، ولا تستطيع الاستغناء عنها، يضاف إلى ذلك تمركز أسطول البحر الأسود الروسي في شبه جزيرة القرم، حيث تمثل هذه القاعدة المنفذ الأساسي له للوصول إلى البحر الأبيض، ومن ثم لم يكن استبعاد روسيا من أوكرانيا قاباً لاستدامة والاستمرار.

وفي هذا الصدد تتبني بعض دول وسط أوروبا، التي كانت سابقاً جزءاً من الكتلة الشرقية، مثل المجر وجمهورية التشيك، مواقف تعد أكثر تحفظاً فيما يتعلق بشجب الموقف الروسي وتطبيق العقوبات، وتدعو بشكل صريح لتجنب المواجهات وتفعيل المسار الدبلوماسي، مع "تفهم" الدوافع والمصالح الروسية فيما يتعلق بأوكرانيا. في المقابل، تتبنى بولندا ودول البلطيق موقفاً شديد التخوف من الممارسات الروسية، وتحذر من أن ممارساتها في أوكرانيا قد تتكرر في دول أخرى تضم أيضاً أقليات معتبرة تتحدث اللغة الروسية.

كما توجد في لاتفيا أقلية كبيرة تتحدث الروسية، وأن قسماً كبيراً منهم يقع في خانة "غير المواطنين"، الذين يقيمون في الباد، لكن لا يتمتعون ببعض الحقوق، مثل التصويت في الانتخابات، وفي لاتفيا أيضاً حزب موال لروسيا، كان ترتيبه الأول في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر 2014، ويزيد من مخاوف دول البلطيق تصريحات بوتين من أن هناك ممارسات "نازية" أصبحت تتكرر بشكل روتيني ضد متحدثي الروسية في لاتفيا وغيرها من دول البلطيق، ما قد يستخدم كذريعة للتدخل وزعزعة الاستقرار في هذه الدول من قبل روسيا. وكل ذلك يصب في اتجاه رفع درجة التوتر على حدود أوروبا الشرقية مع روسيا.

يذكر أن دول البلطيق عضوة في كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وأن هناك تعهدات من الرئيس الأمريكي أوباما بحمايتها ضد أي اعتداء.

أما بولندا، فقد كانت تحت قيادة رئيس وزرائها السابق دونالد تاسك، والذي ترك منصبه في سبتمبر 2014، وهو من أشد الناقدين لروسيا والمحذرين من توجهاتها التوسعية، لكن رئيسة الوزراء الجديدة، آيوا كوباكز، طالبت بإعادة صياغة السياسة الخارجية للباد، وأخذت موقفاً أقل تشدداً تجاه روسيا، متخوفة من أن تصبح بولندا منعزلة داخل أوروبا بسبب مواقفها المتشددة. وكانت بولندا قبيل سبتمبر 2014 قد طالبت باتخاذ القوى الغربية والأوروبية عقوبات أكثر تشدداً إزاء روسيا، وهو ما رفضته القيادة الأوروبية، كما طالبت بتجاوز اتفاقية عام 1997 بين حلف الناتو وروسيا، ومبدأ العاقات السلمية، ووجه دبلوماسيون بولنديون انتقادات عنيفة لألمانيا واتهامها بمراعاة المصالح الروسية، عوضاً عن الحرص على تهدئة مخاوف جيرانها وحلفائها. وياحظ أنه من قبل التحول السياسي الداخلي في بولندا كانت جولات المفاوضات الأخيرة بقيادة ألمانية، لا تشتمل على مشاركة بولندية.

وتتخوف الدول التي تقف على خط المواجهة المباشرة مع روسيا من تحول اهتمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى إلى المواجهة العسكرية مع "داعش" في الشرق الأوسط، وتراجع اهتمامها بالقضية الأوكرانية، خاصة مع سيادة منطق عدم جدوى المواجهة العسكرية في حسم الموقف هناك. ويبدو أن هناك اتجاهاً لدى ألمانيا بشكل خاص للتوجه إلى أطراف خارجية لها عاقات وثيقة مثل الصين، للعب دور الوساطة بين أوروبا وروسيا فيما يتعلق بهذه القضية، نظراً لوجود مصالح كبيرة لها لدى الطرفين. لكن الصين لم تظهر حتى الآن استعداداً للعب مثل هذا الدور.

رابعً�: هل تنجح األم�ني� في الحف�ظ على التم��شك الاأوروبي؟

تعد ألمانيا بمنزلة القوة الدافعة التي حافظت على تماسك منطقة اليورو في ظل أزمة طاحنة هددت تماسك المشروع الأوروبي كله، وكما وضح من التفاعات المتعلقة باختيار القيادات الأوروبية الجديدة، فإن لها تأثيراً أساسياً على كل ما يؤخذ من إجراءات داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لكن الأنظار تتجه الآن إلى ألمانيا للعب دور أكبر في قيادة أوروبا للخروج من أزماتها المتصاعدة.

وتركز اهتمام ألمانيا في العقود التي تلت إعادة توحيدها على هدفين؛ إزالة آثار الانقسام على المجتمع والاقتصاد الألماني، وطمأنة الدول الأوروبية أن ألمانيا لن تعود بأي حال من الأحوال إلى السياسات التي تسببت في اندلاع حربين عالميتين.

ووجدت ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، والوحدة الأوروبية الموحدة، الوسيلة الفعالة لتحقيق الهدفين. فعلى الرغم من أن ألمانيا تحملت تكلفة باهظة من أجل تحقيق الإصاح الاقتصادي والسياسي في نصفها الشرقي، والذي تحمله الشعب الألماني كله، فإن السوق الأوروبية الموحدة دعمت الاقتصاد الألماني، موفرة له الفرصة لتنمية صادراته وصعوده مرة أخرى إلى صدارة الاقتصادات الأوروبية. من ناحية أخرى، دللت ألمانيا من خال عضويتها في الناتو، واهتمامها بدعم الوحدة الأوروبية، على أنها لا ترغب في أن تعاود ممارسة دور "القوة الإقليمية المهيمنة"، وعززت ألمانيا ذلك بإقرارها المستمر لمسؤولياته­ا التاريخية عن الممارسات النازية المتطرفة، وعملها الدائم على منع ظهور حركات سياسية مشابهة في العصر الحديث.

واستندت السياسة الخارجية الألمانية إلى ما أسماه البعض "الواقعية الاقتصادية"، حيث كان دعم قدراتها الاقتصادية، وفتح أسواق جديدة لصادراتها هو الدافع الأساسي، كما أن الدعم التنموي والمساعدات الإنسانية، ونقل الخبرات ودعم القدرات كانت أدواتها الأساسية في ممارسة التأثير على الساحة الدولية. أدى ذلك إلى بعض الخافات مع شركائها

في حلف الناتو وأوروبا، حيث إن هناك عزوفاً ألمانياً شديداً عن المشاركة في أي عمليات عسكرية، مثل تدخل الناتو في ليبيا، أو العمليات ضد "داعش".

من ناحية أخرى، توجد المصالح الاقتصادية عاقات قوية لألمانيا مع دول لها مواقف متناقضة مع المبادئ الأوروبية، ومنها الصين. وكثيراً ما تعرضت ألمانيا لانتقاد لأنها تغلب مصالحها الاقتصادية مع الصين على المواقف من قضايا تتعلق بالمبادئ الأوروبية، مثل قضايا حقوق الانسان. إن كان النقد الأوروبي قد تراجع في هذا الصدد مع تسابق كبريات الدول الأوروبية، مثل فرنسا وبريطانيا، على توثيق العاقات التجارية والاستثمار­ية مع الصين.

المثال الأبرز للتناقض بين المصالح الألمانية والأوروبية هو الموقف الألماني من روسيا؛ فألمانيا لها عاقات تجارية وثيقة بروسيا، كما أنها تعتمد عليها بشكل كبير فيما يتعلق بأمن الطاقة. وقد دفع ذلك الدول الأوروبية والولايات المتحدة لإعطاء ألمانيا الدور القائد في التحاور مع موسكو بشأن الأزمة الأوكرانية. وإلى وقت قريب، كانت النخبة الاقتصادية في ألمانيا هي التي لها أكبر التأثير على السياسة الخارجية في هذا الصدد. لكن من ناحية أخرى، فإن الشعب الألماني ليست لديه صورة إيجابية عن روسيا، كما أن الشعور السلبي تجاهها قد تصاعد بسبب ممارساتها في أوكرانيا، مع تصاعد الضغوط من الولايات المتحدة ودول أوروبية لأن تأخذ ألمانيا موقفاً أكثر صرامة تجاهها.

في هذا الإطار، أصبح على المستشارة الألمانية ميركل، التي تضطلع شخصياً بهذا الملف، وبالسياسة الخارجية الألمانية بشكل عام، أن تعيد النظر في سياستها، والمعروف عن ميركل أنها تتعامل بشكل هادئ ومتحفظ مع كل الأزمات التي واجهتها على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، وأنها تأخذ ما تحتاج من وقت للتوصل إلى قرار يأخذ في الاعتبار كل الأبعاد الداخلية والخارجية.

وفي السياق ذاته كشفت التسريبات المتعلقة باجتماعات القادة الغربيين حول أزمة اليورو أن ميركل تعرضت لضغوط شديدة من أوباما فيما يتعلق بضرورة أن تلعب ألمانيا دوراً محورياً في انقاذ الدول المتعثرة، خاصة اليونان من أزمتها. ما رأته ميركل ضغطاً "غير عادل"، لأن الرأي العام في بادها كان ضد تقديم العون لهذه الدول التي آثرت استخدام "الطريق السهل" في معالجة مشاكلها، حيث اتجهت لاستدانة ولتبديد مواردها في انفاق غير رشيد، بينما الشعب الألماني تحمل مشاق سياسات التقشف والإصاح الهيكلي ليصل بالاقتصاد إلى بر الأمان، لكن ميركل استطاعت التوصل إلى صياغة تساعدها في تجاوز الاعتراضات الداخلية، قانونياً وسياسياً، وتمكنها من انقاذ مشروع اليورو، وإن بشروط قاسية على الكثير من الشعوب الأوروبية.

تواجه ألمانيا حالياً تحدياً مماثاً، فعلى ميركل من ناحية إعادة النظر في سياسات التقشف التي فرضتها على أوروبا في ظل التباطؤ الاقتصادي الذي تشهده القارة، والذي طال ألمانيا نفسها، والذي يبدو أن العقوبات الأوروبية على روسيا تزيده سوءاً. من ناحية أخرى، تواجه ميركل ضغوطاً متصاعدة لتغيير موقفها "المنفتح" على التواصل مع روسيا، وتغليب المقاربة الدبلوماسي­ة في التعامل مع الأزمة الأوكرانية.

لكن في هذا الإطار، لا تتمتع ألمانيا بالقدرة نفسها على المناورة والتأثير، حيث أظهرت تقارير حديثة مدى ضعف قدرات ألمانيا العسكرية، ما يجعلها غير مؤهلة للعب دور محوري في أي مواجهة عسكرية، كما أنه من الواضح أن الولايات المتحدة ترى أنه على أوروبا التعامل مع هذه الأزمة، وهي ليست على استعداد لتحمل الشطر الأكبر من تبعات مواجهة عسكرية في أوروبا. وعلى الرغم من أن تصريحات ميركل تجاه روسيا تأخذ منحى أكثر تشدداً في الآونة الأخيرة، فإن ذلك لم يكن له أي تأثير على روسيا، والانفصالي­ين في شرق أوكرانيا، الماضين في إجراءات، مثل الانتخابات الأخيرة، والتي اعترفت روسيا بنتائجها، والتي تعزز من انفصال هذه المناطق عن الدولة الأوكرانية. كما أن روسيا تصعد بشكل عام من المواجهة بالتلويح بعدم مواصلة الانخراط في قضايا مهمة مثل عدم الانتشار النووي. وتذهب المقاربة التقليدية لثقل ألمانيا في النظام العالمي إلى أنها "كبيرة على أوروبا، صغيرة على العالم"، أي أن صعود قوتها يهدد الأمن على الساحة الأوروبية، لكنه لا يؤهلها لأن تلعب دوراً مؤثراً على الساحة العالمية، الوضع يبدو مختلفاً بعض الشيء اليوم، فألمانيا هي "القوة التي لا غنى عنها" لإنقاذ المشروع الأوروبي، وهو الدور الذي لا تملك أية دولة أوروبية حالياً مقوماته، وبالتالي فقوتها في صالح الاتحاد الأوروبي، إذا ما اضطلعت بدورها في الحفاظ على تماسك الموقف الأوروبي تجاه روسيا، وفي مواجهة مواقف داخلية تؤيد رفع العقوبات.

وفي المجمل ترتبط قدرة الاتحاد الأوروبي على التماسك وتجاوز هذه التحديات بنجاح قياداته في موازنة تأثير اتجاهين متصاعدين، أولهما يمكن أن نسميه "عودة التاريخ"، أو عودة التنافس والتباين بين المصالح والرؤى "القومية" على الساحة الأوروبية، والثاني هو تصاعد الإحساس أو الارتباط بهويات مناطقية أو إثنية أو قومية، والذي يهدد ليس فقط تماسك المشروع والهوية الأوروبية، بل يدفع أيضاً إلى ظهور نزعات انفصالية تهدد تماسك بعض الدول، مثل الدعوة إلى انفصال إقليم كاتالونيا في إسبانيا، والدعوة التي لاتزال نشطة لانفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة.

يرتبط التحدي المجتمعي للتماسك الأوروبي بصعود التيارات القومية وثقافة كراهية الأجانب عبر القارة الأوروبية، حيث حذرت نافي بيلاي، المفوضة السامية لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة في جنيف في

10 يونيو 2014 من تصاعد خطاب كراهية الأجانب من جانب النخب السياسية في بعض الدول الأوروبية

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates