Trending Events

الحائطيون:

"المجموعات المتأهبة" في شوارع الدول العربية

- هالة الحفناوي منسق وحدة التفاعلات المجتمعية، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

هالة الحفناوي

ماذا يحدث في شوراع الدول العربية؟!

سؤال أعادت الثورات العربية لفت الانتباه إليه بشكل غير مسبوق، نظراً لما يتضمنه الشارع من تفاعلات معقدة، امتدت في بعض الدول إلى تغيير أنظمة حاكمة، حيث أطلق العديد من علماء الاجتماع السياسي على تلك الظاهرة “سياسات الشارع”؛ الأمر الذي يعكس القوة غير المعهودة للشارع في المنطقة العربية، ففي لحظات حاسمة كان هو سيد الموقف، ومنه تفاعلت الأمور وتوالت الأحداث، وكان الرهان عليه أكبر بكثير من الرهان على القوى والمؤسسات الوسيطة كافة بين الدولة والمجتمع. بيد أن هذا الصعود “السياسي” لدور الشارع لفت النظر مجدداً إلى ما بلغت إليه شوارع المنطقة العربية، من حيث وجود ما يمكن أن يسمى “مجموعات الشارع”، ويقصد بها “هؤلاء الموجودون في الشوارع بشكل دائم أو شبه دائم”، فمنهم من يتخذ من الشارع مأوى وحياة خاصة ودائمة، مثل أطفال وعائلات الشوارع، وعمالة الشارع، والبلطجية والعصابات الصغيرة التي ترهب المارة والسكان، في ظاهرة سلبية وشديدة الخطورة على الدولة والمجتمع؛ ومنهم من يأوي إلى الشارع بشكل مؤقت، إما زمنياً بتخصيص وقت ما في اليوم أو الأسبوع لمشاركة الآخرين اهتمامات محددة، وإما موسمياً بحيث يبرز الموجودون في الشوارع من حركات مختلفة لتحقيق مطالب معينة، ويتضح ذلك في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادي­ة على وجه خاص.

في هذا السياق تأتي أهمية التعرف على مكونات الشارع العربي، في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار، والتوترات التي تشهدها بعض الدول العربية، واستمرار الترقب الدائم والحذر من حركة الشارع غير المتوقعة، وتصاعد حالات عنف مفاجئة من قبل مجموعات غير منظمة، موجودة لسبب أو لآخر في الشارع. ومن ثم تحاول الدراسة فهم التركيبة المتداخلة والمعقدة للشارع، ومعرفة الفئات الموجودة فيه باستمرار، والتي تشكل ظاهرة أمنية ومجتمعية خطيرة. كما تبرز كذلك تلك الشرائح التي توجد في الشارع لأهداف محددة لا تشتمل العنف، ولا تهدد بالضرورة استقرار المجتمع، وأخيراً توضح بعض الخبرات والسياسات الأولية المقترحة للتعامل مع ظاهرة الموجودين في الشوارع، لاسيما من يمثلون خطراً وتهديداً قاباً لانفجار في أي وقت.

اأولاً: مشطلح «الحئطيون».. النشأة والمغزى

تعبر كلمة "الحائطيون" في بعض المجتمعات العربية عن الفراغ واليأس والبطالة، فهي كناية عن مجموعات تعرف باسم "مجموعات تسنيد الحيطان"، وهو مصطلح معروف وأكثر انتشاراً بالجزائر وبعض باد الشام، حيث تقف مجموعة من الأفراد في الشوارع، متكئين على الجدران لساعات طوال من دون مقصد واضح؛ في مغزى يشير إلى أن هذا ليس عماً ضرورياً، لأن حوائط الشارع قائمة بذاتها ولا تحتاج إلى تسنيد.

وقد ارتبط ذلك بالجماعات المهمشة وجماعات الشارع ومن يعانون البطالة، ونتج عنه ظهور مفهوم "الحيطيست" أو "الحائطيون" بل دخل هذا المصطلح الأدبيات الفرنسية ليشير إلى واقع العاطلين عن العمل بالأساس،(1( وعرف باسم (Hittisme).

وتجد هذه الجماعات والأفراد في الشارع مجالاً للتفاعل فيما بينهم ومناقشة قضاياهم، في هروب من واقعهم الحياتي، وضيق حيزهم المكاني بالمناطق العشوائية مثاً، ويبلغ الأمر أنهم يشجعون بعضهم البعض على ممارسة بعض الأفعال الجماعية غير المرحب بها، والتي كان يستحيل أن يقوم بها فرد وحيد من دون هذه الجماعة، مثل التحرش بالفتيات، وإزعاج المارة، وربما إثارة الشغب، بل واستخدامهم كأداة سهلة وقت الأزمات والتظاهرات، وإشعال العنف بين المتخاصمين في المجتمع، تماماً كما حدث عقب الثورات العربية في مصر وتونس على وجه خاص؛ حيث أُضيفت إلى الفئات المرتبطة عضوياً بالشارع و"الساندين على الحوائط" من المراهقين والشباب والفئات والمجتمعات المتنوعة التي تحتمي بجدران الشوارع وتعيش بين طياتها؛ جماعات جديدة، سعى بعضها لفرض نوع من السيطرة على الشارع، والتعايش على الاضطرابات؛ بحيث أصبح الشارع مجالاً يضم جماعات متنوعة، وتتفاعل في إطاره منظومات اجتماعية معقدة، لا تنطبق عليها المعايير والأطر الاجتماعية التقليدية.

ثنيً: الحئطيون الدائمون

يقصد بهذه الفئة "تلك الجماعات التي شكلت، أو تكاد، مجتمعات متفردة خاصة بذاتها توجد كياناتها الخاصة، لها أسلوبها في الحياة وفي التفاعات، حتى أنها تخرج عن أنماط السيطرة المجتمعية السائدة، وهي جماعات تفتعل العنف إذا أُضيرت مصالحها، أو تُستغّل بسهولة وقت الفتن والأزمات، وتصل في كثير من الأحيان إلى أن الدولة تتركها حتى تستفحل، بحيث إذا سعت إلى عاج أزماتها لاحقاً ووجهت بمقاومة عنيفة". ولعل من أبرز هذه الجماعات، أطفال وعائات الشوارع، وجماعات البلطجة المنظمة وغير المنظمة، وعمالة الشارع، خصوصاً البائعة الجائلين.

ويكشف تنامي هذه المجموعات عن صور عديدة لتراجع "الدولة" وتآكل أدوارها في الضبط الأمني والسلوكي، وقبل ذلك قصور أدوارها الاجتماعية والاقتصادي­ة؛ فوفقاً لثنائية "الدولة والمجتمع"، كما أشار لها "جويل مجدال"، تقاس قوة الدولة بمدى قدرتها على منح ضروريات الحياة وتشكيل قيم الأفراد وتوجيه سلوكياتهم. فالدولة القوية هي التي تفرض أنماط السيطرة المجتمعية التي يخضع لها ويتمسك بها الأفراد، بحيث تكون كافة الفئات تحت مظلة شبه واحدة، بينما تفقد الدولة الضعيفة سيطرتها على مكوناتها الاجتماعية وعلى كافة قوى المجتمع( ).

وفقاً لهذا المدخل، يتأكد القول إن الثورات العربية كشفت بما لا يدع مجالاً للشك عن ضعف دول اعتقد البعض أنها قوية، وأثبتت التآكل الكبير في الأدوار التي كانت منوطة بالدولة في عهود سابقة؛ وهو ما برز في تكوين "مجتمعات هامشية"، ارتبطت بالشارع ارتباطا وثيقاً، وأوجدت فيه "امتداداً" موازياً للدولة، أو بدياً عنها، وطورت آليات للحياة على هامش الدولة، وأمام عينها نتاجاً لاستبعاد والتهميش وغياب الوظائف الاجتماعية والإنسانية للدولة. 1- مداخل نظرية لتفسير مجتمعات "الحائطيين الدائمين" لا توجد نظرية واحدة متكاملة تقدم تفسيراً لبروز مجتمعات "الحائطيين الدائمين"، لكن يمكن الاستناد إلى ثاثة مداخل نظرية/مفاهيمية رئيسية، قد يوجد بينها قدر من التداخل في الممارسة الواقعية، أولها، الاستبعاد الاجتماعي، وثانيها، المجتمعات الموازية، وثالثها، مجتمعات الادولة. أ- الاستبعاد الاجتماعي والتهميش يرتبط مفهوم الاستبعاد الاجتماعي (Social exclusion ) في أبسط تعريفاته بأنه "إقصاء بعض الأفراد عن مظلة رعاية الدولة". وينتج عن ضعف أو انعدام المساواة بما يقود لعدم اندماج الناس في المجتمع على المستويات كافة(3)، ويمكن لاستبعاد الاجتماعي أن يُمارَس، عن عمد أو من دون عمد، ضد أفراد أو مناطق جغرافية أو شرائح اجتماعية كاملة. ويترتب على ذلك ظهور المجتمعات الهامشية التي

اتسع وجودها في بعض الدول العربية، وبروز مجتمعات شبه منعزلة يشعر أفرادها بالإحباط الذي يدفع العديد منهم نحو اتخاذ سلوكيات مضادة للمجتمع والدولة، مثل ممارسة الجريمة والعنف والإدمان، فيما يمكن اعتباره "انسحاباً سلبياً" ورفضاً للمجتمع الذي يشعرون فيه بالنبذ والتمييز( ).

إن التفاعل داخل تلك المجتمعات يوجد ثقافات فرعية مخالفة لمجمل الثقافة العامة، تتشكل نتيجة الصراعات الناتجة من المعاناة اليومية، ومحاولات الكفاح من أجل البقاء، حيث تنتشر ثقافة الفقر وثقافة العنف، مما ينتج تفاعات غير سوية.

وتقدم ظاهرة العشوائيات بالمدن الحضرية مثالاً مادياً وملموساً على المجتمعات التي تنشأ على هامش الدولة، ولا تخضع للمنظومة العامة للمجتمع في معظم أمور حياتها، حتى أن الدولة قد لا تعلم التعداد الحقيقي لتلك المناطق، أو بوجودها أصاً، حتى يحدث ضجيج يثير الانتباه إليها. ب- المجتمعات الموازية تقوم فكرة إيجاد المجتمعات الموازية (Parallel societies ) على أساس وجود عناصر مقاومة لاندماج الاجتماعي داخل الدولة Integratio­n-resistant (elements in society )، سواءً بشكل غير متعمد كنتاج للإقصاء الاجتماعي، أو بشكل متعمد لإيجاد أطر مصلحية ذاتية ولكنها موازية للدولة، ففي كلتا الحالتين تفضل مجموعات محددة التقوقع داخل أطر موازية، وتبتدع روابط للتفاعل مع الدولة في المواقف الاضطرارية فقط، لأنهم ينعزلون بتفاعاتهم اليومية عن المجتمع العام، ويكونون لأنفسهم أطراً موازية للتفاعل الاجتماعي الاقتصادي، مماثلة لتلك الموجودة بالدولة.

ويظهر هذا النموذج جلياً في إطار بعض الجماعات العرقية أو الدينية أو الجماعات المهاجرة، حيث توجد هذه الكيانات ظواهر اجتماعية خاصة بها، فيظهر مثاً الاقتصاد الاثني، والاقتصاد الموازي، والإعام الإثني...إلخ.

وقد ظهر مفهوم "المجتمعات الموازية" في أدبيات علم الاجتماع في ألمانيا، للإشارة إلى جماعات العمالة المهاجرة، أو العمال الضيوف في ستينيات القرن الماضي( وحول خصائصها الأساسية، قدم عالم الاجتماع "توماس ماير" خمسة معايير، تتلخص في التالي( التجانس الثقافي أو الإثني أو الديني بين أفراد ذلك المجتمع. )2( تعرض أفراد هذا المجتمع لاستبعاد شبه كامل اقتصادياً واجتماعياً. )3) محاولة محاكاة المؤسسات الموجودة بمجتمعات الأغلبية. )4) الاتجاه نحو العزلة الاجتماعية الطوعية. )5( انفصال تلك المجتمعات في السكن وفي التفاعات الاجتماعية.

وتسود العديد من أنماط التفاعل بين هذه المجتمعات وبين الدولة وفق محددات مختلفة، فكلما زادت قوة التواصل والتفاعل بين أفرادها كلما تصاعدت قوتها في مواجهة الدولة وتصادمت مع المجتمع. ويصل الأمر ذروته حينما تتخطى هذه المجتمعات البعدين الاقتصادي والاجتماعي، لتأخذ أبعاداً أكثر تعقيداً في شؤون السياسة، أو ممارسة بعض أشكال القوة، لتقترب من فكرة إيجاد دولة داخل الدولة، ما يضفي عليها بعداً يهدد أمن الدولة ذاته في بعض الأحيان. ج- مجتمعات اللادولة تعد هذه الجماعات أخطر كثيراً من ظهور الجماعات الموازية، بل إنها تتجاوز التعبير عن ظاهرة "الحائطيين"، لكنها مع ذلك تعتبر إحدى المداخل المفسرة جزئياً لبروز جماعات منغلقة تضع قواعدها الداخلية، الأمر الذي أطلق عليه علماء الاجتماع حالة "مجتمعات الادولة" (stateless society)، والتي تظهر في غياب سلطة الدولة المركزية( ).

ومع أنه لا يوجد تعريف موحد لهذه الظاهرة، فإن السمة الرئيسية لها أنها جماعات خارجة عن مظلة "الحكومة" وعن "مؤسسات الدولة"، وقد يخرج أفرادها للشارع بشكل دائم في حالة الصدام والعنف مع الدولة، ليشكلوا عنصر ضغط ضد الدولة، كما أن خصائصها الأساسية تجعل منها ظاهرة أقرب ما تكون للموجودين بالشوارع، ولكن في حالة التصادم مع الدولة؛ حيث تعتبر هذه المجتمعات متعددة المراكز بما لا يمكن السيطرة على كل أفرادها، وتحمل مقومات العنف وفق أسس قبلية أو عرقية أو دينية، وينتج عن التفاعات المختلفة بينها وبين الدولة كأطراف متنازعة أزمات عدة، مثل إعادة توزيع للموارد وتقسيمها على أساس من شرعية معترف بها ضمنياً( ). 2- أبرز فئات "الحائطيين الدائمين" أضحت شوارع العديد من الدول العربية، خصوصاً في الجزء الأفريقي منها، تعج بظاهرة "الحائطيين" أو الموجودين بالشوارع، والمتأهبين لاتخاذ سلوكيات تحفظ مصالحهم ونمط حياتهم الذي اعتادوا عليه ولم يعرفوا سواه. ومن أبرز ما يمكن رصده في هذا السياق ما يلي: أ- أطفال وعائلات الشوارع ازداد الاهتمام بظاهرة أطفال وعائات الشوارع بعد تورط نسبة كبيرة منهم في أعمال العنف والتخريب خال السنوات الثاث السابقة. وعلى الرغم من أنهم نتاج التهميش والإقصاء وغياب دور الدولة، أو نتاج الصراعات والدمار الذي شهدته بعض الدول، فإنهم لم يتخذوا من الشارع

مأوى ومسكناً فقط، فيما يعرف بمصر مثاً ب "الساكنين تحت الكباري"، بل إنهم باتوا يشكلون أيضاً عنصر إزعاج اجتماعي لغيرهم من سكان المدن تحديداً، ويشاركون في التفاعات الصراعية، كما برز في دول الثورات العربية.

ولا تتوفر إحصاءات دقيقة ومحدثة عن جملة حجم أطفال الشوارع بالعالم العربي، خاصة مع تعقد وتداخل أنماط الموجودين في الشوارع، لكن تشهد هذه الظاهرة صعوداً لافتاً منذ عام 2000 عندما أشار تقرير منظمة الصحة العالمية إلى انتشار الظاهرة في مصر ولبنان وموريتانيا واليمن والجزائر والأراضي الفلسطينية المحتلة وتونس والعراق والأردن والمغرب والسودان( ).

وتعرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) أطفال الشوارع بأنهم "الأطفال ذوو الروابط المتعسرة مع أسرهم، والذين وجدوا في الشارع المأوى الوحيد لهم، بحيث يقيمون في الشارع يومياً، ويواجهون جميعاً المخاطر ذاتها، مثل الانخراط في تجارة المخدرات أو الدعارة، حيث يعطيهم الوجود بالشارع شعوراً بالحرية المطلقة. بينما تشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) إلى وجود ثاثة أنماط من أطفال الشوارع، كالتالي: الأطفال المقيمون في الشوارع هرباً من أسرهم، والأطفال الذي يعملون في الشارع، وكذلك الذين يقضون غالبية أوقاتهم في الشارع، لكنهم عادة ما يعودون لمنازلهم، والأطفال المولدون من عائات الشوارع، أي الذين يعيشون مع عائاتهم في الشوارع، حيث الأب والأم هما من أطفال الشوارع، عاشا وتزوجا في الشارع( ).

وتتمثل خطورة أطفال وعائات الشوارع، في الأوقات العادية، في ارتباطهم ببعض أعمال العنف والجريمة، حيث يظل "العنف" واحداً من عناصر تكوينهم الشخصي، وسلوكاً أساسياً في حياتهم اليومية. وتأخذ أشكال الجريمة التي يرتكبها أطفال الشوارع جانباً ثأرياً من المجتمع، فيلتصق بهم أعمال "السرقة للتحدي" وإثبات القدرة على البقاء، ومواجهة المجتمع الذي يتمردون عليه ويرغبون في إيذائه كتعويض عما يحدث لهم. وعاوة على ذلك فالحرمان العاطفي والاجتماعي لأطفال الشوارع يجعلهم أكثر سهولة وتوجهاً لانضمام إلى العصابات المنظمة، وقد ثبت في أحوال كثيرة انضمامهم إلى جماعات المخدرات والتسول والبغاء.

وخال الثورات العربية وما بعدها، لوحظ أن أطفال الشوارع كانوا مكوناً لتركيبة العنف في التظاهرات والصدامات بين المتظاهرين وقوات الأمن، وبرزت ظاهرة "الاستغال السياسي لأطفال الشوارع"، كما برز بوضوح في مصر، في ظل أعمال العنف التي لحقت بموجات الاحتجاجات التالية على ثورة 25 يناير 2011، لاسيما أن لدى هؤلاء بالفطرة دوافع انتقامية ضد الدولة والمجتمع، وهو ما سهل وجودهم أمنياً وسياسياً في وقت الاضطرابات، واستخدمهم البعض بقليل من المال لتأجيج العنف، فمنهم من ساعد المعتصمين من أجل تحمل فكرة البقاء في الشارع لفترة طويلة، ومنهم من استغل الأحداث للسرقات والأعمال غير المشروعة، ومنهم من تم توظيفه من قبل قطاعات سياسية متناحرة.

وتزيد خطورة الظاهرة في الدول التي تشهد حروباً أهلية، مثل العراق وسوريا وليبيا، فاحتمالات انضمام هؤلاء الأطفال للتطرف والعنف والتشدد تبقى كبيرة في ظل طبيعتهم العنيفة، وتعايشهم في سياق التطرف اليومي، واستهدافهم من قبل الجماعات المتطرفة، مثل "داعش" للتجنيد، بل إن بعضهم يباع في أسواق الرق، بحيث يتحول أطفال الشوارع لمورد بشري يغذي بعض الجماعات المتطرفة. ب- عمالة الشارع قادت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعي­ة السيئة في كثير من الدول العربية إلى انتشار العاطلين عن العمل، وتنامي عمالة الشوارع، بما أدى إلى بروز الأسواق غير الرسمية والاقتصاد الموازي، في ظاهرة تعكس ارتفاع أعداد الباعة المتجولين. ولا يعد تنامي السوق غير الرسمية بالدول العربية استثناءً، فهي نمط ينتشر في العديد من الدول النامية كبديل ونمط للنشاط الاقتصادي لفقراء المدن( ).

ويقضي الباعة الجائلون معظم ساعات اليوم في "الشوارع"، وهم غير ملتزمين بساعات عمل. ولا يصعب ماحظتهم في شوارع شمال أفريقيا (المغرب، والجزائر، وتونس، ومصر) منذ سنوات طويلة، لكن الجديد أن الفتيل الذي أشعل موجة الاحتجاجات العربية بدأ بمجموعة من الباعة الجائلين في تونس إثر تعرض الشرطة لهم، وإلحاق أحدهم الأذى بنفسه "محمد بوعزيزي"، ليتضامن معه باقي أفراد المجموعة الفئوية التي ينتمي إليها "الباعة الجائلون".

وتصاعدت قوة هؤلاء بعد الثورات، وشكلوا مجتمعاً يواجه الدولة، فكونوا في بعض الدول، مثل مصر "رابطة الباعة الجائلين"، لتنظيم أنفسهم والمطالبة بحقوقهم والتعبير عن آرائهم، واتخاذ مواقف موحدة أمام القوانين والتنظيمات التي تحاول الدولة وضعها.

ولا توجد إحصاءات دقيقة حول أعداد الباعة المتجولين بالدول العربية، لكن يقدر عددهم في مصر وفقاً لبعض التقديرات بحوالي 5 مايين بائع متجول في كافة

المحافظات( وينتشر الباعة المتجولون في شوارع المغرب، فيما يعرف بظاهرة "الفراشة"، حيث يفترشون أرصفة الشوارع لوضع بضائعهم، وقدر البعض عددهم في مدينة الدار البيضاء في عام 2008 بحوالي 128.128 بائعاً( ولا تخلو الجزائر من انتشار آلاف الباعة المتجولين باعتبارهم جزءاً من الاقتصاد غير الرسمي، حيث تساهم أنشطتهم بحوالي 40% من حجم الناتج المحلي الإجمالي بالجزائر( ).

وعاوة على الباعة المتجولين، يوجد نوع آخر من عمالة الشارع، هو" العمالة اليومية"، أو ما يعرفون في مصر باسم "الأرزقية"، والذين ينتشرون في الشوارع والميادين العامة ينتظرون من يستعين بهم لقضاء بعض الأعمال البدنية أو المقاولات الصغيرة، التي تأتي عليهم بأجر يومي غير ثابت، وتعرف شريحة من هذا النوع باسم "عمال التراحيل"، والذين يعملون في أعمال البناء والمعمار، ويقعون تحت خط الفقر، ولا يتمتعون بأي حقوق أو ضمانات اجتماعية.

وينضم لهذه الفئة ما يعرف ب "باعة الشاي" في الجزائر، والذين انتشروا بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة في شوارع العاصمة وعلى الطرق الرئيسية( الأمر الذي يطلق عليه بالجزائر شبكات "باعة الشاي"، وأحياناً "الطوارق" نسبة للقبيلة التي كانت تعد هذا النوع من الشاي "الطارقي"، والذي أصبح مصدر رزق لكثير من القادمين من مدن الجنوب.

وظهرت في مصر فئة أخرى أوجدت لنفسها وظيفة في الشارع من العدم، وأصبح وجودها في الشارع أمراً مسلماً به، فهم يحصلون على مال مقابل لا شيء، ولا يتهاونون في الحصول على المقابل، وهم يعرفون باسم "السايس" )حراس السيارات المصطفة في الشارع(، والذين هم في الغالب خليط من البلطجية وعائات الشارع.

وتحمل هذه الفئات مقومات العنف الكامن والغضب الصامت، والتي قد تنطلق منها ثورة جياع إذا زادت أعدادها بصورة متوحشة، فهم لا يعرفون نمط الاحتجاج السلمي ضد الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي أودت بهم لذلك( )، ويساعد وجودهم الدائم في الشوارع في حدوث تعبئة سريعة في حال وجود الأزمات أو التظاهرات حتى وإن كانت سلمية. ج- البلطجية وجماعات البلطجة المأجورة شهدت مرحلة ما بعد "الثورات" العربية تصاعد الاهتمام باستخدام بعض الجانحين من قبل الحكومات أو بعض التيارات السياسية لإثارة الاضطرابات بالشارع، وهؤلاء الأفراد يطلق عليهم في مصر "البلطجية"، ويطلق عليهم في اليمن "الباطجة" و"البلطجيين" في تونس، و"الشبيحة" في سوريا( ).

وتعد البلطجة "استعمال القوة أو الساح لترهيب الناس أو إيذائهم، أو لاستغالهم، أو لاعتداء على أموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم لتحقيق مصلحة". وفي بعض الحالات، يعتبر "البلطجي" هو "الخارج على القانون الذي يمارس ذلك لحساب نفسه أو لمصلحة غيره"، وتعني كلمة البلطجي "الرجل الماهر في إحداث ضرر معين، والذي يُستأجَر من قِبل طرف معين للإضرار بطرف آخر مقابل أجر"( ).

ويرتبط ب"البلطجة" تزايد الطلب على "العنف" في ظل تراجع سلطة الدولة، بحيث يتسع المجال لتعزيز وجودهم في الشوارع، بل ومحاولة بسط سيطرتهم عليها، واستعراض إمكانياتهم الإجرامية في تحد للمجتمع وللدولة؛ إذ تحول العنف لدى هؤلاء إلى مصدر لكسب العيش، وترتبط حياتهم باستمرار الطلب على خدمة "العنف".

وتقع الفئات العمرية الأصغر ضمن هذه المجموعات؛ فوفقاً لدراسة فادية أبو شهبة، فإن 50% من البلطجية تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 30 سنة، وترتفع الأمية بينهم، ويتمثل لسلوكهم الإجرامي الأساسي في السرقة بالإكراه (81%) ثم الاتجار بالمخدرات 72 (.

وقد عرف مجتمع البلطجية بعد الثورات العربية تطوراً ملحوظاً في ضوء عاملين، هما تراجع قدرة الدولة على السيطرة، وزيادة الطلب على البلطجية من قبل أطراف مختلفة للضغط على خصومهم؛ وهو الأمر الذي عزز وجود جماعات البلطجة في الشوارع العربية، ومحاولة بسط سيطرتهم عليها من خال فرض إتاوات إن أمكن، والانخراط في مزيد من الأفعال غير الأخاقية.

ويلفت النظر كذلك أن البلطجة أصبحت تمارس في مجموعات منظمة) أي يقوم بها مجموعة من الأشخاص معاً، وباتت لها جماعات كاملة تحولت إلى عصابات للبلطجة، فأصبحوا يستخدمون أسلحة أكثر خطورة، وانتشرت حوادث الاغتصاب التي تعرضت لها فتيات على يد مجموعات من البلطجية في الشوارع؛ ومن ثم أصبحت الشوارع الساحة العامة التي يمارس فيها البلطجية أعمالهم، لاسيما في أوقات الانفات الأمني.

وياحظ في كل من ليبيا وسوريا، تحول البلطجية إلى عصابات شوارع، فهم يُستأجرون من أجل ممارسة العنف، ومنهم تشكلت مجموعات عديدة تابعة إما لسياسيين أو لرجال بعض القبائل والعشائر، وباتوا يمارسون أدواراً هائلة تصعب

من مهمات استعادة الدولة وضبط الأوضاع الأمنية.

ث�لثً�: الح�ئطيون المو�شميون

إذا كان الشارع متسعاً لمجموعات "مهمشة" لم تجد لنفسها مكاناً ضمن السياق العام للمجتمع، ومأوى لمجتمعات لم تشملها الدولة، فخرجوا عن مظلتها وعن إطار القوانين والنظام العام؛ فإن للشارع وجهاً آخر ووظيفة أساسية ومختلفة لمجموعات متنوعة من المواطنين الذين يقضون ساعات طويلة من يومهم في الشارع ليس سعياً للرزق، وإنما من أجل المشاركة في الحياة العامة، وتبادل الأفكار والخبرات الحياتية والسياسية وللتعبير عن الرأي؛ فهؤلاء يتفاعلون في الشارع باعتباره "مجالاً عاماً" يتسع للجميع على اختاف الخلفيات الطبقية أو السياسية أو الأيديولوج­ية.

وقد أوضحت الثورات العربية أن الاحتكام للشارع من قبل المتخاصمين سياسياً كان بمنزلة أداة للحكم على قوة تيار ما ضد الآخر، فبات الشارع هو الكلمة الفصل في تبديل أنظمة سياسية قائمة، وعاماً محركاً لتحولات بنيوية عميقة في بنية الدولة العربية مثلما الحال في سائر دول العالم، إذ يبقى الشارع الفضاء الوحيد الذي يمكن من خاله للجماهير أن تعبر عن آرائها وطموحاتها واعتراضاته­ا.

في هذا السياق، يمكن التعبير عن ما يمكن أن يطلق عليهم "الحائطيون الموسميون" بأنهم شرائح وفئات تعتبر الشارع مجالاً ذاتياً وجماعياً، يتشاركون فيه الأفكار والعادات والتقاليد، ولكن بشكل مؤقت، أو لعدد محدود من ساعات اليوم الواحد. كما أن الشارع قد يصبح مكاناً لفئات أو لحركات تستخدمه بشكل مؤقت لحين تحقيق هدف ما، بحيث يعملون على الحشد والتعبئة بالشارع لأهداف محددة، وينتهي وجودهم به بمجرد نجاحهم في تحقيق ما يصبون إليه، أو لدى إدراكهم الفشل في ذلك".

ولعل من أكثر الفئات التي يمكن تصنيفها ضمن فئة من يستخدمون الشارع كمجال عام هم "الجالسون على المقاهي"، من أبناء الطبقة الوسطى، والمنتمون لحركات "فنون الشارع". أما الحركات التي تستخدم الشارع لتحقيق هدف ما بشكل مؤقت، فلعل منهم الحركات الاحتجاجية بمختلف أشكالها، والتي تظهر في الشارع من آن لآخر للتعبير عن الرأي "سلمياً"، ولا تنتمي بالضرورة لأحزاب سياسية أو نقابات أو منظمات للمجتمع المدني. 1- مداخل نظرية لتفسير ظاهرة "الحائطيون الموسميون" يمكن الاستناد إلى مدخلين نظريين لتفسير ظاهرة "الحائطيين الموسميين"، والتي لا تثير بالطبع المشكات الكبرى ذاتها التي يثيرها "الحائطيون الدائمون" الذين يشكلون مجتمعات "شارعية" بامتياز، فيصبح الشارع بالنسبة لهم هدفاً وغاية.

المدخل الأول هو مفهوم المجال العام، والذي يفسر إلى حد بعيد وجود قطاعات في الشارع لمشاركة الأفكار وقضاء أوقات محددة، بحيث أصبحت كأنها من العادات الاجتماعية. أما المدخل الثاني فهو مفهوم "الاحركات الاجتماعية"، والذي يعبر بشكل ما عن كيفية أن تتحول حركات غير منظمة، وليس بينها تنسيق مسبق لأن يصبح الشارع ميدانها الأساسي للتعبير عن مطالبها في وقت واحد تقريباً. أ- الشارع باعتباره "مجالاً عاماً" قدم المفكر الألماني يورجين هابرماس في بداية الستينيات من القرن الماضي مفهوم المجال العام، ليدرس من خاله العاقات الاجتماعية والسياسية في أوروبا الغربية منذ القرن الثامن عشر( حيث يعكس المفهوم فكرة مفادها وجود مستوى من الفعل الاجتماعي ومن الاتصال بين الأفراد، بحيث يتشكل فضاء اجتماعي يتفاعل فيه الأفراد العاديون ويتعاونون من خاله.

وينتمي الفاعلون لهذا المجال العام بالأساس إلى الطبقات الوسطى المتعلمة وإلى البرجوازية( كما ذهب هابرماس، إذ توجد بينهم مصالح مشتركة ومتجذرة في المجال الخاص والمجتمع المدني، ويتشكل المجال العام من خال تفاعل الأفراد عبر منتديات جماعية، مثل حلقات نقاش في المقاهي, والصالونات الأدبية, والنوادي, والروابط التي قد تصل إلى تشكيات حزبية جنينية( ).

مغزى ذلك أن المجال العام هو الإطار الذي يتم فيه النقاش والحوار الحر بين مختلف الأفراد، حول الشؤون العامة والمشتركة, وهو كذلك مجال لنقد السلوكيات والمعتقدات الامنطقية التي تأسست في المجال الخاص ويعاد تشكيلها باستعمال المنطق والعقل( ). ب- الشارع ملتقى "اللاحركات الاجتماعية" طور عالم الاجتماع "آصف بيات" نموذجاً جديداً لفهم الحراك المجتمعي غير المنظم الذي أصبح يأخذ مساحة واسعة في الشارع العربي، من خال ما أطلق عليه "الاحركات الاجتماعية" (Social Non-movements )، والتي يقصد بها "تلك الأنشطة الجماعية التي يقوم بها فاعلون غير جمعيين( )Non collective action ).

وعادة ما يتجمع هؤلاء الفاعلون من خال تكوين الشبكات السلبية (passive Networks )، التي ترتكز على فكرة إدراك عدد من الأفراد بوجود قواسم مشتركة بينهم، وهوية تجمهم، على الرغم من عدم معرفة أحدهم للآخر، فإنهم يتشاركون المعاناة ذاتها أو الخبرة المجتمعية، ويوجد

ذلك بينهم حالة من التضامن (solidarity) أو التعاضد، والتي تحمل مكونات الفعل الجمعي، مع إدراك هؤلاء الأفراد بوجود تهديد مشترك، يحاولون مواجهته عبر هذه الشبكات.

بكلمات أخرى، بينما ترتبط نشأة "الاحركات الاجتماعية" بأعمال فردية تهدف لإيجاد مكاسب على أرض الواقع، فإن الدفاع عن هذه المكاسب، في حالة تعرضها للتهديد، يتم على نحو جمعي، وحينها يتحول الفاعلون في الشبكات السلبية إلى التفاعل النشط والمقاومة المنظمة. وهنا يمثل الشارع مجالاً يتيح تعبئة الناس للقيام بعمل جمعي في لحظة ما، مثلما ظهر في حركة الباعة الجائلين بتونس، ومثلما حدث من نزول جماعات مختلفة إلى الثورة المصرية بعد أن كانوا يعبرون بشكل فردي عن مطالبهم في السنوات السابقة للثورة. 2- أبرز فئات "الحائطيين الموسميين" وفقاً لما سبق، يمكن وضع تصنيف متصور لما أطلقت عليهم هذه الدراسة "الحائطيين الموسميين"، اعتماداً على المدخلين النظريين السابقين، وذلك كالتالي: أ- الجالسون على المقاهي وفق فكرة المجال العام، فإن الشارع يعد ساحة يسمح باحتواء مختلف التفاعات. ولعل من أبرز الصور الواقعية الملموسة لذلك في الوطن العربي هم "الجالسون على المقاهي"، حيث تحتل المقاهي في الثقافة والأدب والوجدان العربي مكانة خاصة، وهي محطة يومية في حياة الكثيرين، وارتبطت بحياة العديد من المثقفين، والبسطاء، والشباب، وكبار السن. ولأن غالبية المقاهي مصممة بشكل مفتوح، أصبحت جزءاً من الشارع، ومتداخلة بشكل كبير في تفاعاته اليومية.

لقد باتت المقاهي مكاناً يصنع فيه الرأي العام على المستوى العربي، فهي توفر بين روادها "سلوكاً جمعياً" يرتبط بالزمان والمكان والتجمع، فكل فرد داخل هذا المجتمع قد يقوم بسلوك غير عادي في إطار التجمع، ومن غير المحتمل أن يسلكه بمفرده، وهو ما لوحظ خال الاحتجاجات بمختلف الأقطار العربية، إذ كان مرتادو المقاهي أول من يلبي نداء الاستجابة للتظاهرات السلمية.

ويرى البعض أن المقاهي في المملكة المغربية – على سبيل المثال - تلعب دوراً مهماً في تشكيل حالة التضامن بين الجماعات أو تضامن المجموعة، فهي وسيط وحاضن لتناقل المعلومات وتصاعد الجماعات المعارضة، وبعض أعمال العنف "التضامني" خارج إطار الأنساق أو المؤسسات السياسية والمدنية التقليدية أو المغلقة، بحيث أوجدت المقاهي بين أفرادها الدائمين مبادئ لمصالح مشتركة، وسياسات لهوية محلية، وسمحت لمجتمع مرتادي المقاهي بتطوير إحساس وإدراك مشترك لمفاهيم الطبقة وبفهم مشترك للمحرك الذي ينتظم عليه عالمهم( ).

وقد أظهرت الحركات الاحتجاجية المتكررة على مدار السنوات السابقة وجهاً ثورياً للمقاهي، التي كان يجتمع عليها الثائرون، ويتشاركون الرأي، ويتم فيها إعادة التعبئة وشحذ الهمم لاستمرار الممارسات الاحتجاجية، وضم بعض الرواد الآخرين للمقاهي لصف الثوار، أي أنها كانت بمنزلة المكان الذي شهد المرحلة التي أطلق عليها هابرماس "الحالة المثالية للمجال العام"، والذي يحدث فيه ذوبان للخلفيات الاجتماعية الأخرى كافة، كالطبقة أو الاختاف الديني أو الإثني، ليتحد المشاركون في المجال العام ويصلون به إلى موقف جمعي يتحدون عليه. ب- حركات فن الشارع يعرف فن الشارع street art بأنه شكل من أشكال الثقافة المرئية، ومن أبرز أشكاله "الجرافيتي" الذي يعتقد أنه جاء من جذور الطبقة الفقيرة، التي تهدف إلى التعبير عن نفسها أو للتمرد ضد السلطة. لذلك تميز فن الشارع بإحضار الاحتجاج مباشرة إلى حياة الشارع اليومية، ويتم إنتاجه واستهاكه مباشرة ضمن المجال العام المتاح للجميع، ليكون مظهراً لاحتجاج العلني( ).

ويمكن القول إن هذا الفن يمثل مجال تنازع بين شرائح بالمجتمع، لأنها تحاول إيجاد مجالها العام، وبين الدولة التي تحاول السيطرة على هذا المجال لصالحها، فترسل من خاله رسائل إيجابية عن إنجازاتها وعن قوة وجودها في الشارع؛ الأمر الذي جعل جدران الشوارع محل نزاع بين السلطة وحركات "فن الشارع" المستقلة في الغالب؛ وهو ما تجلى في كافة الثورات التي عرفتها دول أمريكا الاتينية.

في هذا الإطار، تشهد المجتمعات العربية تصاعداً ملحوظاً في نشاط حركة "فن الشارع"، خاصة في مصر وتونس واليمن بعد حركات الاحتجاجات والثورات في هذه البلدان. فقد سجل ما يعرفون باسم "ثوار الجرافيتي" مامح مختلفة لمراحل تلك الثورات. وشهدت الجزائر الممارسات ذاتها حتى قبل الثورات العربية فيما عرف بظاهرة "الحائطية"، ولا تخلو المغرب من الكتابات الحائطية أيضاً.

وينتشر فن "الجرافيتي" في الشوارع الرئيسية في العاصمة اللبنانية بيروت، وفي الحدائق العامة في مدن صيدا وطرابلس وغيرها؛ حيث يقدم رسائل متنوعة، مثل

تأييد الشعب السوري، أو الاعتراض على النظام الطائفي في لبنان. وعلى الرغم من أن "الجرافيتي" يعد مخالفاً للقانون اللبناني، حيث يصنف على أنه "مشوه للممتلكات العامة"؛ فإن حركات الجرافيتي قد تزايدت كثيراً لدرجة يصفها بعض المحللين بأنها تعبير عن "ثورة صامتة في لبنان". ج- الحركات الاحتجاجية غير المتوقعة ترتب على تراجع دور المؤسسات والتنظيمات السياسية التقليدية كالأحزاب والاتحادات، في مقابل تصاعد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في التعبئة السياسية؛ ظهور حركات اجتماعية غير تقليدية، وغير منظمة بالشكل المركزي التقليدي المتعارف عليه، حيث لا يعرف أعضاؤها بعضهم بعضاً بالضرورة، ولا يلتف حولها أعضاء دائمون، بل إنها حركات مرنة تسمح بدخول وخروج الأفراد منها في أي وقت، فالتنظيم ليس الجوهر، كما هي الحال في الأحزاب السياسية، بل الجوهر هو السياق الذي تعايشه مجموعة من الأفراد ويساهم في اتحادهم وتجمعهم، مع الإدراك بأنه لا يمكن معرفة هذه الحركات أو أعضائها أو التنبؤ بتحركاتها أو متى يتحول الفعل الافتراضي لها إلى فعل حقيقي.

وإذا كان الاحتجاج يعرف بأنه "خروج للمجال العام طلباً لإحقاق حق أو دفع ظلم"، أي نقل الحيز الخاص إلى الحيز العام، وهو الميادين والشوارع، فإن هذا ظهر بوضوح في سياق الثورات العربية، حينما تحول الشارع لساحة كبرى من الاحتجاجات، وأطلق لفظ "الشارع السياسي" باعتبار أن الشارع أصبح المسؤول في بعض الأحيان عن رسم بعض السياسات وإسقاط أنظمة وإحال أخرى محلها.

بناءً على ذلك، تحول الشارع قبل "الثورات"، وبعدها أيضاً، في ظل فشل مؤسسات الدولة عن أداء وظائفها، إلى ساحة جاذبة للعديد من الحركات والتجمعات الفئوية والمطلبية، والتي تصاعد وجودها بالشارع، لدرجة أنها أوجدت المناخ العام المحفز لاحتجاج الجماعي، والانتقال إلى مرحلة المطالب السياسية.

ومن المرجح أن يحتفظ "الشارع" برمزيته ودوره كساحة "متاحة" لاحتجاج، فهو ليس حكراً على فئة أو فصيل أو تيار، بل إن للجميع مكاناً ما في أحد أركانه، وهو ما يعطيه قوة وجاذبية دائمة بحكم خروجه عن الأطر التقليدية التي فقد المجتمع ثقته فيها وفي عملها، ليكون الشارع هو الوسيط الجديد، وأحياناً الوحيد، في إعادة رسم العاقة بين المجتمع والدولة في بعض الباد العربية وغيرها.

رابعً�: �شي��ش�ت الحد من م�شكلات «مجتمع�ت ال�شوارع»

مما لا شك فيه أن تركيبة الموجودين بالشوارع في المنطقة العربية هي أكثر تعقيداً، حيث لا تقتصر على تلك الفئات المذكورة في هذه الورقة فحسب، فالشارع العربي ينبض بحياة الكثيرين الذين لا ينفصلون عنه، بل لم تعد تقتصر ظاهرة "الموجودين" في الشوارع على مواطني الدولة فقط، لكن امتدت بمظلتها للغرباء المشتتين من اللاجئين أو المهاجرين غير الشرعيين، فيما يمكن تسميتهم ب "الحائطيين الغرباء"، حيث أصبح الشارع في العديد من الدول العربية يمثل ساحة للجوء.

وعلى سبيل المثال، تشير الصحف الجزائرية إلى تحول بعض شوارع وحدائق العاصمة الجزائرية، خاصة ساحة "بورسعيد"، إلى مخيم كبير للنازحين السوريين الذين لم يستطيعوا الوصول إلى مساعدات المؤسسات المختصة، وتكررت المشاهد ذاتها في لبنان والأردن ومصر وبعض الدول الأخرى.

وتظهر في شوارع بعض دول الخليج العربية ظاهرة المتسولين من بعض الوافدين، والافت للنظر أنهم قد يأتون في مناسبات معينة لمزاولة التسول، مثل شهر رمضان، ثم يعودون مرة أخرى لديارهم.

ولعل تصاعد ظاهرة "مجتمعات الشارع" ارتبطت مجدداً بالاضطرابا­ت الأمنية التي سادت بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة، لا لتعبر فقط عن إخفاق الدولة في أداء وظائفها وغض طرفها عن تلك الظاهرة سابقاً، ولكن لتكشف أيضاً عن أن ثمة ضرورة لوجود حلول غير تقليدية لمعالجة الأبعاد السلبية لتلك الظاهرة، خصوصاً تجاه "الحائطيين الدائمين" الذين حولوا الشارع إلى مجتمعات متعددة.

إن هذه الحلول يجب أن تتجاوز السياسات القديمة التي كانت السبب الرئيسي في ظهور هذه المشكات، بحيث يتطلب أي حل ناجح، لاسيما في الدول ذات الإمكانيات المحدودة، التعاون المتبادل بين الدولة والمجتمع المدني والمواطن، بما يؤدي إلى تطوير استراتيجيا­ت واقعية وسياسات متنوعة ومبتكرة للتغلب على هذه التحديات التي باتت مزمنة.

وربما يكون من المفيد الإشارة الموجزة إلى بعض الخبرات الدولية في التعامل مع مجموعات الشارع، مثل عائات الشارع والبلطجية والباعة المتجولين، والتي عملت على احتواء هذه المجتمعات داخل المجتمع، حيث يمكن انتهاج بعض الخطوات، ومن أبرزها: 1- إدماج عائلات الشارع والمشردين ثمة مثالان بارزان في هذا الصدد، أولهما يبرز في الدنمارك التي اتبعت الأسلوب التقليدي لحل مشكلة المشردين Homeless، فقد وضعت استراتيجية قومية للحد من الظاهرة والقضاء عليها على مدار أربع سنوات (2009 2012،) تمثلت أهدافها في أنه: لا ينبغي لأحد العيش بالشارع، ولا يجب أن يعيش الشباب أو الأطفال بدور الضيافة المخصصة للمشردين، ولا ينبغي أن يبقى أحد بدور

واستبدال منهجية التعامل الأمني مع الباعة المتجولين باستراتيجي­ة إعادة تنظيم الأمر الواقع بأطر ووسائل جديدة.

وعلى سبيل المثال، أقرت السلطات السعودية آلية لتنظيم الباعة المتجولين من خال تخصيص مواقع بيع لهم فقط، ومنحهم رخصة لذلك، وتم تحديد البضائع التي يمكن بيعها والبضائع الممنوع بيعها عن طريقهم حفاظاً على حقوق المستهلك، وتم تقنين شروط لمزاولة مهنة البائع المتجول، أهمها أن يكون سعودي الجنسية، وألا يقل عمره عن 18 سنة، بحيث يمتلك بطاقة هوية( ).

ولا تعد سياسات تقنين الباعة المتجولين جديدة تماماً، لكن ثمة مجموعة من الاعتبارات يتطلب أخذها بالاعتبار من واقع الخبرات الدولية، ومنها: أن الباعة المتجولين ليسوا فئة واحدة، فمنهم من يتخذ من الشارع مكاناً ثابتاً لممارسة البيع والشراء، ومنهم - كما يبرز في مصر مثاً - فئة كبيرة تمارس نشاطها داخل وسائل المواصات، وهؤلاء لا تنطبق عليهم فرص نقل النشاط لأماكن ثابتة، ولكن يحتاجون لسياسات مختلفة، كأن يتم الرجوع إلى المصدر الذي يشغلهم في هذه الأنشطة، ومعرفة أسباب لجوئهم لهذا النشاط، حتى يتسنى وضعهم في فئات واضحة بما يمكن من التعامل مع مشكاتهم والاستجابة لاحتياجاته­م.

ويرتبط نجاح سياسات تقنين أوضاع الباعة الجائلين بالحد من تكلفتها عليهم، فإذا كانت التكلفة أكبر من العائد، فا يتوقع أن يلتزم بها المستهدفون( ولكن لابد من كسب ثقة الدولة، وأنها لا تسعى إلى إضرارهم، بل تتيح لهم تنظيماً وفرصاً حقيقية لكسب أرزاقهم تحت مظلة الدولة الرسمية التي تضمن لهم قدراً مقبولاً من حقوقهم العمالية والإنسانية.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates