Trending Events

متى تستقر ليبيا؟

د. خالد حنفي علي

-

لا يمكن فهم حالة عدم الاستقرار في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي في العام 2011، ومن ثم الولوج إلى مشروطيات للاستقرار في هذا البلد، من دون النظر إلى معضلة “اختلال القدرة” التي رافقت الدولة الليبية منذ استقلالها في العام 1951، وحتى المرحلة الانتقالية المتعثرة، التي تشهد اقتتالاً داخلياً مسلحاً.

تمثل هذه المعضلة المزمنة أحد المداخل التفسيرية لفهم مسار التفاعات الصراعية في الداخل الليبي، التي أفرزت تفككاً لسلطة الدولة بين فواعل قبلية وسياسية ومليشياوية ودينية جهادية، ساهمت كلها بدرجات متفاوتة في تغذية عدم الاستقرار. وتتعلق معضلة "اختال القدرة" بمتغيرين أساسيين، أولهما، طبيعة مقومات الدولة ذاتها، وما تحمله من سمات قوة وضعف. أما المتغير الثاني فيرتكز على مدى قدرة النظام السياسي على انتهاج سياسات تقلص هذا الخلل أو بالعكس تعمق آثاره. في الحالة الليبية، يظهر اختال القدرة في معادلة، أحد طرفاها يشير إلى نقاط القوة التي تملكها الدولة مثل، الجغرافيا الشاسعة ذات الطابع الجيو–استراتيجي كممر دولي، سواء تجاه أفريقيا جنوب الصحراء أو المنطقة العربية، عاوة على حيازتها مورداً نفطياً يمكن أن يشكل مرتكزاً لبناء التنمية والتواصل بين الأقاليم الثاثة المشكلة للجغرافيا الليبية (فزان، برقة، طرابلس). الطرف الآخر للمعادلة يتعلق بمكامن الضعف البنيوي في ليبيا، فالمساحة الشاسعة التي تربو على مليون و800 ألف كيلومتر موزعة جغرافياً بين إقليمين، أولهما صحراوي، وهو يشكل غالبية مساحة الباد، والآخر متوسطي يقع على الأطراف في الشريط الضيق على البحر المتوسط، مما أدى إلى خريطة سكانية، ومن ثم قبلية مبعثرة تميل للتركز بجوار الساحل، الأمر الذي جعل نواة الدولة، وكثافتها السكانية الأعلى في الأطراف (طرابلس)، وليس في القلب الذي أمسى ميتاً، بحسب العامة المصري جمال حمدان. ومع سيطرة القذافي على الحكم من خال انقاب عسكري في العام 1969، باتت ليبيا أمام مشهد متجزئ ثقافياً وتنموياً وقبلياً، فطرابلس في الغرب والقريبة من أوروبا أكثر انفتاحاً وتعليماً وسكاناً، تليها برقة في الشرق، من حيث السكان المرتبطين أكثر بالمنطقة العربية ثقافياً والأقل تنمية، بينما الجنوب ظل أكثر عزلة وتهميشاً وتماساً في الوقت ذاته مع الثقافة الأفريقية. تعزز هذا التباعد بين الأقاليم الثاثة بتباين الموارد، فالشرق يتركز فيه غالبية النفط ومصفاته، بينما الجنوب يعد موطناً للمياه الجوفية، أما الغرب فيملك القليل من احتياطيات الغاز والنفط، وفي الوقت نفسه غابت "القبيلة القائدة"، فعلى الرغم من أن الورفلة هم الأكثر عدداً وفقاً لبعض التقديرات المتفاوتة التي تقدرهم ما بين 400 ألف ومليون شخص، فإنها لم تستطع ممارسة هيمنة على القبائل المنافسة، كالمقارحة ومصراتة وترهونة والزنتان، عاوة على قبائل الشرق كالمسامير والعبيدات والعواقير، والجنوب، حيث يتمركز التبو والزوي والطوارق.

اأولاً: الا�شتبداد المركزي

وبدلاً من أن يكون النفط مدخاً لبناء لحمة بين الأقاليم والسكان والموارد المشتتة، استغله نظام القذافي على مدار 42 عاماً في تعميق اختال القدرة، وإعطائها أبعاداً أكثر تجذراً في المجتمع، سواء قبلياً عبر ممارسة سياسة التفرقة بينها في تخصيص موارد الدولة، ونسج شبكات زبائنية تتصارع على الولاء له لا الدولة، وفي الوقت نفسه، أضعف المؤسسة العسكرية وحولها إلى كيان متخم بالأسلحة من دون كفاءة أو ولاء وطني، خوفاً من أن تكون وسيلة للتغيير.

وعلى الرغم من أن مركزية القذافي مارست تسكيناً مؤقتاً لمعضلة خلل القدرة لدى الدولة، فإن الانتماءات الأولية، سواء المناطقية أو القبلية أو الدينية ظلت تتوق إلى كسر تلك المركزية الاستبدادي­ة التي لا تتفق مع طبيعة بنية المجتمع الليبي. وعلى ذلك، لم يكن غريباً أن تصطبغ الثورة الليبية في 17 من فبراير 2011 بصبغة مناطقية في بدايتها، على الرغم من طابعها المدني الظاهر، فهي لم تكن مجرد اعتراض على الاستبداد والتهميش وعدم العدالة تجاه الشرق مقارنة بطرابلس وحسب، وإنما كشفت مساراتها عن محاولة لحيازة مكامن القوة في الدولة.

ث�نيً�: الثورة ومعركة حي�زة القوة

نظراً لأن التدخل الخارجي لم يعمل على تمكين أي طرف من السلطة أو بناء مؤسسة أمنية قد تقود المشهد السياسي ولو مؤقتاً، بدت المرحلة الانتقالية في ليبيا كساحة صراعية حادة بين فواعل متعددة، يستند بعضها لبنى أولية (مناطقية وقبلية ودينية) والآخر يستند لأشكال سياسية حداثية (أحزاب مدنية وإسامية) ومليشياوية وظفت الحالة الثورية العابرة للحدود في الإقليم، وبدا أن على السلطة الانتقالية بعد الثورة أن تدير مشهداً معقداً لا تملك إزاءه السلطة التمثيلية الكافية لبناء دولة ونظام سياسي من نقطة الصفر، ولذا، مارست تكيفاً مع معضلة خلل القدرة، بل ووضعت قواعد تقنن تشظي القوة داخل المجتمع. فبدلاً من بناء مؤسسة عسكرية وطنية، شهدت المرحلة الانتقالية نشوء نظام أمني هجين يسمح بالتنسيق بين السلطة والميليشيا­ت المسلحة المتناثرة بأشكالها القبلية والدينية في مجمل الجغرافيا الليبية من دون استيعابها في الجيش النظامي، عبر اللجوء لها لممارسة وظائف أمنية هي من صميم الدولة كفض المنازعات القبلية، وحماية السفارات وغيرها. وسياسياً، بدت السلطة الانتقالية أكثر هشاشة وقابلة لتعديل قراراتها وفقاً للضغوطات وتوزعات القوة، وهو ما برز في عدة قوانين أساسية تشكل جوهر النظام السياسي، منها على سبيل المثال، تراجع المجلس الوطني الانتقالي عن منع قيام الأحزاب على أساس مناطقي أو ديني. وتعمق مأزق السلطة الانتقالية مع انتهاج سياسة عدم الحسم مع الجماعات الجهادية البازغة في الشرق والرافضة لمنظور الدولة الوطنية أصاً، كما بدت السلطة الانتقالية عاجزة أمام تنامي النزعات الانفصالية والصراعات القبلية في الشرق والجنوب، كرد فعل على غياب تصور واضح لإدارة الموارد، خاصة النفط، بما يقضي على معضلة التهميش السياسي والتنموي. من هنا، فليس غريباً بعد أربع سنوات من الثورة أن تتحول الدولة الليبية إلى تحالفات متصارعة ذات أبعاد دينية ومناطقية وقبلية، بل وممتدة إلى الإقليم ذاته، ومن هنا برزت تحالفات كرامة ليبيا، والمكونة من قوات حفتر ومجلس النواب وحكومة الثني ومؤيديها من الأحزاب والقبائل، سواء في الشرق أو الغرب، وذلك في مواجهة معسكر فجر ليبيا، والذي يضم ميليشيا درع ليبيا وغرفة ثوار ليبيا، وإساميين بشقيهم المسيس (إخوان وسلفيين) والمسلح (مجلس شورى ثوار بنغازي) ومؤيديها من الأحزاب الإسامية والسلفية، بينما ظل الجنوب على الرغم من ارتباطاته ببعض أطراف التحالفات، يشهد صراعاً حاداً على التجارة غير الشرعية بين التبو والزوي.

ث�لثً�: فر�ص الت�شوية

سعت بعض القوى الإقليمية والدولية – في سياق هذا المشهد المعقد – للحوار بين المعسكرات المتنافسة متعثرة، غير أنه لا يمكن لأي حوار أن ينجح طالما أن الأطراف الليبية المتنازعة لجأت إلى ساحات القتال الميداني لحسم الصراع، ولعل ذلك يبدو مؤخراً في محاولة عملية فجر ليبيا وشركائها للسيطرة على الهال النفطي والضغط على معسكر الكرامة وحلفائه، خاصة أن ثمة قاعدة مهمة في ليبيا تشير إلى أن من يسيطر على النفط يتمكن من فرض رؤيته ولو بالقوة على هذا المشهد الليبي المتجزئ. إن استقرار ليبيا يكمن في بناء شراكة متوازنة ولا مركزية في آن واحد للسلطة والثروة والهوية، تتوافق عليها القوى المتعددة في بنية المجتمع الليبي، وتتعاطى في الوقت ذاته مع مفردات القوة والضعف لدى الدولة الليبية في إطار نظام فيدرالي يتوافق فيه الفرقاء على الدولة أولاً، ثم أسلوب إدارة سلطاتها بين الأقاليم، بما يراعي قضايا أساسية، مثل العدالة والأمن والتنمية، على أن بلوغ تلك اللحظة قد لا يتم عادة في المجتمعات التي تمتد فيها الصراعات إلى بنيتها التحتية، إلا إذا ارتفعت تكلفة القتال الميداني إلى الحد الذي لا يستطيع المجتمع والإقليم المجاور تحملها، وبالتالي يتم إجبار أطراف الصراع على التفاوض والدخول في تسوية سياسية تاريخية تحدد مساراً جديداً يمكن عبره تجاوز معضلة "اختال القدرة" الزمن في الدولة الليبية.

إن استقرار ليبيا يكمن في بناء شراكة متوازنة ولا مركزية في آن واحد للسلطة والثروة والهوية، تتوافق عليها القوى المتعددة في بنية المجتمع الليبي، وتتعاطى في الوقت ذاته مع مفردات القوة والضعف لدى الدولة الليبية في إطار نظام فيدرالي يتوافق فيه الفرقاء على الدولة أولاً، ثم أسلوب إدارة سلطاتها بين الأقاليم بما يراعي قضايا أساسية مثل العدالة والأمن والتنمية.

 ??  ??
 ??  ?? د. خالد حنفي علي
باحث مصري في الشؤون الأفريقية
د. خالد حنفي علي باحث مصري في الشؤون الأفريقية

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates