Trending Events

توتر منضبط:

أبعاد الصراع على القطب الشمالي بين القوى الكبرى

- د. إلينا سوبونينا باحثة سياسية ورئيسة مركز آسيا والشرق الأوسط للدراسات

د. إلينا سوبونينا

أدى ارتفاع درجة الحرارة في منطقة القطب الشمالي إلى زيادة حدة الاهتمام بالمنطقة، ذلك أن ذوبان الجليد القطبي فتح الباب أمام طرق مائية جديدة، بالإضافة لإمكانية استغلال الثروات الكامنة هناك، مما يجعل التنافس عليها أمراً محتوماً، إذ إن ثمة حرباً دائرة غير معلنة، دبلوماسية حتى الآن، بين الدول الكبرى الطامعة في خيرات القطب الشمالي.

اأولاً: مجموعة الخم�ص الكب�ر في القطب ال�شم�لي

تضم هذه المجموعة الدول التي تقاسمت فيما بينها، في مطلع القرن العشرين، القطب الشمالي، وقسمته إلى خمس مناطق أساسية، نظراً لأن أراضيها تمتد إلى القطب الشمالي، وهذه الدول هي: روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والنرويج والدنمارك وكندا، ولاتزال الخافات قائمة فيما بينها حول عدد من القضايا أبرزها: ترسيم الحدود البحرية، وتحديد امتداد المياه الإقليمية، وبالتالي تحديد أماكن الاستغال الاقتصادي أمام السواحل والبحار المطلة عليها، وتفتح هذه الخافات الباب لنزاعات حادة مستقباً قد تتحول إلى صدامات مسلحة للسيطرة على الموارد الطبيعية، إلا أن تفاديها لايزال أمراً ممكناً.

وقد تأسس في عام 1996 "مجلس القطب الشمالي"، وهو منظمة دولية تهتم بتيسير التعاون بين الدول التي تضم حدودها أراضي في القطب الشمالي، وتضم في عضويتها الدول الخمس المذكورة سابقاً، بالإضافة إلى بلدان أخرى تقع بالقرب من القطب الشمالي، وهي إيسلندا والسويد وفنلندا وغيرها. ومن الملحوظ أن العديد من الدول تعتبر انضمامها إلى هذا المجلس يوازي في أهميته الانضمام لعضوية مجلس الأمن الدولي، إذ تبدي الكثير من دول أوروبا وآسيا اهتماماً ملحوظاً بالقطب الشمالي، وتسعى إلى الدفاع عن مصالحها في تلك المنطقة.

ث�نيً�: ت�شلل اآ�شيوي اإلى «المحفل القطبي»

وإلى جانب البلدان دائمة العضوية، ثمة أخرى تحظى بصفة مراقب في مجلس القطب الشمالي، منها على سبيل المثال، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بالإضافة إلى منظمات دولية، كما أنه في العام 2013 حصلت خمس دول آسيوية على صفة مراقب، هي: الصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والهند(1،( وقد كان هذا حدثاً فارقاً، إذ لم تتمتع أي دولة من خارج أوروبا بهذه الصفة من قبل، وهو ما يشير إلى اهتمامهم المتنامي بهذه المنطقة، كما تجدر الإشارة هنا إلى أن الموافقة على مطالب هذه الدول بالانضمام للمنظمة استغرق سنوات عدة، فاليابان، على سبيل المثال، تقدمت بطلبها في 2009 ومنحت صفة المراقب بعد أربع سنوات.

ويرجع ذلك للصعوبة التي يجدها الأعضاء الأصليون في التفاهم فيما بينهم، الأمر الذي يعني أن دخول أعضاء جدد، ذات مصالح متباينة، يعني إثارة مزيد من الخاف.

وقد بلغ نشاط الدول الآسيوية في مجال استكشاف واستغال ثروات القطب الشمالي مستويات متقدمة، فالدول

الآسيوية الخمس أقامت في العقد الأخير معاهد متخصصة للبحث العلمي هناك، مثل إنشاء الصين في عام 2004 لأول محطة قطبية للبحث العلمي فوق جزيرة سبيتسبرغن، فضاً عن إنشاء مجموعات عمل متخصصة في شؤون القطب الشمالي في وزارات الخارجية، وشركات النفط والغاز، كما تسعى الصين، وغيرها من الدول الآسيوية، إلى صياغة عاقات شراكة مع الدول القطبية، كالنرويج وروسيا وغيرهما، بغرض دراسة واستثمار منطقة الشمال القطبي.

ومن ذلك اتفاق الصينيين مع النروجيين على إجراء مشروع مشترك لدراسة المناخ في المنطقة، فيما تعوّل الشركات النفطية الهندية على العمل المشترك مع نظيراتها الروسية في استكشاف واستغال حقول طاقة جديدة هناك، وقد كانت هذه القضية من محاور المحادثات التي ناقشها الرئيس فاديمير بوتين أثناء زيارته الأخيرة إلى الهند في ديسمبر 2014.

ومن ناحية أخرى تعرض سنغافورة خدماتها في بناء المنصات المائية العائمة في المنطقة القطبية سواء لأغراض التنقيب أو غيرها، أما البلدان العربية، فلم تبد اهتماماً مماثاً، وهو الأمر الذي يعد بمنزلة خطأ استراتيجي ينبغي تصحيحه قبل فوات الأوان.

ث�لثً�: م�ش�ع رو�شية لتو�شيع حدوده� الûشمالية

بدورها ترى روسيا، بحكم موقعها الجغرافي، أن لها الأحقية في استثمار خيرات القطب الشمالي، والتي تشكّل، بحسب مختلف التقديرات، ما بين 90 إلى 106 مليارات طن من النفط(2،( كما يكتنز القطب الشمالي احتياطياً هائاً من الغاز الطبيعي، وتشير التقديرات إلى احتواء القطب الشمالي على 25% من إجمالي النفط والغاز(3( في العالم، بالإضافة إلى الفحم الطبيعي والمعادن الخفيفة والباتينيو­م، كما ساهمت هذه المنطقة بحوالي 11% من الدخل الوطني للباد(4،( وذلك على الرغم من أنها تضم أقل نسبة سكانية في روسيا، أو 1,95 مليون نسمة من مجموع السكان الذي يصل إلى 143 مليون نسمة.

وبهدف تعزيز حقها، تسعى موسكو منذ بضع سنوات، للحصول على اعتراف رسمي من الأمم المتحدة بتوسيع حدود جرفها القاري في الشمال، إذ يجادل العلماء من فرع سيبيريا في أكاديمية العلوم الروسية بأن الجرف القاري الخاص بها يتصل بالساسل الجبلية تحت الماء، بما يعني أحقيتها في السيادة على ما يقرب من نصف مساحة المحيط، وإذا تمّ إثبات ذلك علمياً، فإن حدود روسيا يمكن أن تتسع لتغطي هذه المساحة، وفقاً للقانون الدولي، وبالتالي يحق لروسيا استغال النفط والغاز في ذلك الجزء، والذي يحتوي بمفرده، وفقاً للتقديرات، على احتياطي من الطاقة يفوق 35 مليار طن، كما ذهبت التقديرات الروسية بأنه من حقها ملكية 43 من إجمالي 61 حقل نفط وغاز مستكشفاً، علماً بأن المنطقة الروسية غنية بالغاز بعكس المنطقة الأمريكية الغنية بالنفط(5).

وفي هذا الصدد، تقدمت موسكو، أكثر من مرة، بطلب لتوسيع حدود الجرف القاري إلى اللجنة الخاصة في الأمم المتحدة، لكن الطلب رُفض كونه لا يستوفي الحجج الدامغة، وقد دفع هذا الكرملين للدفع في اتجاه تجميع معطيات أكثر علمية، وذلك قبل تجديد تقديم الطلب إلى الأمم المتحدة في ربيع العام 2015، كما أعلن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف في ديسمبر )6 2014،( غير أن ما زاد الأمر تعقيداً هو شروع كل من الدنمارك وكندا في تقديم طلب مماثل.

رابعً�: تعزيز الو�شع الع�شكري الرو�شي في القطب ال�شم�لي

لم ترتكن روسيا على الحجج والقرائن العلمية وحدها لدعم مطالبها، إذ إنه في فبراير 2013 أقرّ الرئيس فاديمير بوتين البرنامج الاستراتيج­ي – الاقتصادي – الاجتماعي لتطوير منطقة القطب الشمالي، والذي يمتد حتى العام )7 2020،( ويضم البرنامج جملة إجراءات، تهدف لتعزيز القدرة الدفاعية لروسيا عند حدودها الشمالية، وكذلك حماية البيئة والعالم النباتي والحيواني هناك. وقد أجرى الروس للمرة الأولى في عام 2014 مناورات عسكرية لمكافحة الإرهاب في أراضي القطب الشمالي والمجال المائي الشمالي لروسيا، كما تشهد السنوات الأخيرة نشاطاً روسياً ملحوظاً في تكوين الوحدات القطبية الخاصة، والتي تتمتع بمهارات قتالية تفوق قدرات القوات التقليدية، كما تجري تلك الوحدات تدريبات على عمليات الإنقاذ في حالات الكوارث التقنية أو المناخية.

وبالإضافة لما سبق، تمتلك القوات المسلحة الروسية الطائرات المقاتلة الاعتراضية، القادرة على التحليق لمسافات طويلة من طراز ميغ – 31، وكذلك القاذفات الاستراتيج­ية وحاملة الصواريخ تو – 95، وهي كلها قادرة على التحليق في منطقة القطب الشمالي، ولكن تبقى القوة الأساسية والأكثر أهمية في الأسطول الروسي الشمالي هي الغواصات الذرية الحديثة من طراز "أكولا" )القرش(، والتي تستطيع استهداف الغواصات والسفن المعادية(8،( ويضاف إلى ذلك تفوق روسيا في استخدام كاسحات الجليد العاملة بالطاقة الذرية، وما زال أسطول الكاسحات الروسي الأكبر والأقوى في العالم، سواء العامل بالوقود النووي أو التقليدي.

تبقى مخاطر اندلاع صراع مسلح أمراً مستبعداً في المدى المنظور، على الرغم من الاهتمام المتصاعد بالمنطقة، ومع ذلك، فإنه من المرجح استمرار التنافس الدولي على المكاسب الاقتصادية في تلك المنطقة، مع سعيها في الوقت عينه إلى التوصل لتفاهمات فيما بينها.

خ�م�شً�: الطريق الم�ئي ال�شم�لي وقن�ة ال�شوي�ص

لا ينحصر اهتمام الدول الآسيوية بالثروات الطبيعية في القطب الشمالي، بقدر ما يهمها إمكانية تقليص نفقات النقل

في حال تم استخدام طريق القطب الشمالي، وهو الأمر الذي لن يتحقق، إلا في حال استمرار ذوبان الجليد القطبي، كما ترغب الدول الآسيوية في أن تكون الرقابة على طرق الماحة في تلك المنطقة تخضع لإشراف دولي، وليست بيد دولة واحدة في إشارة لروسيا، وتعوّل في ذلك على تأييد الولايات المتحدة لها، وهو ما يتعارض مع المصالح الروسية، التي تمر الطرق المائية بمحاذاة شواطئها.

ووفقاً للتقديرات العلمية، فإن طريق القطب الشمالي يسمح بتقليص نفقات نقل البضائع من اليابان إلى أوروبا ثاث مرات، مقارنة بنفقات نقلها عبر قناة السويس، كما يقلص هذا الطريق حوالي عشرة أو خمسة عشر يوماً من عمر الرحلة، مما يوفر نفقات حوالي 800 طن من المحروقات للسفينة الواحدة متوسطة الحجم، ناهيك عن المصاريف الأخرى، فمساحة الطريق البحري بين مدينتي سان بطرسبورغ في شمال روسيا وفاديفوستو­ك في الشرق الأقصى الروسي يقدر ب 23 ألف كيلومتر، في حال تم السير من خال قناة السويس، في حين أنه لا يتجاوز 14 ألف كيلومتر بين المدينتين عبر طريق القطب الشمالي(9).

لكن، من جهة أخرى، تبقى عقبات الظروفُ المناخيةُ الصعبة، كالصقيع والجليد، والافتقارُ إلى البنى التحتية المائمة، فا يزيد موسم الماحة عن خمسة أشهر في أفضل الحالات، إذ ينحصر بين يونيو ونهاية نوفمبر، ولذلك فإنه في حين شهدت قناة السويس عام 2011 عبور 18 ألف سفينة، عبر من طريق القطب الشمالي 34 سفينة فقط في الفترة ذاتها(10،( وعلى الرغم من أن العام 2013، شهد بعض التحسن، فإن عدد السفن المارة لم تزد عن 71 سفينة( 11 ).

الخ �تمة

يبدو أن مستقبل منطقة القطب الشمالي واعدة، غير أنه من الحكمة أيضاً الاتزان وعدم تضخيم ثقل تلك المنطقة في ظل عدم دراسة التحولات المناخية بالقدر الكافي، إذ يذهب بعض العلماء إلى أن الاحتباس الحراري يمكن أن يتحول إلى برودة عالمية، وهو الرأي الذي يتبناه الأكاديمي الروسي يفغيني فليخوف(12).

يضاف إلى ما سبق حقيقة أن تكلفة استخراج النفط والغاز باهظة الثمن في المنطقة القطبية، وهو ما يتطلب توظيف موارد هائلة لاستغالها، غير أنه في ضوء انخفاض أسعار النفط، تصبح عملية الاستخراج أمراً غير مجد اقتصادياً، خصوصاً بالنسبة لروسيا التي يعاني اقتصادها من آثار العقوبات الاقتصادية، والانخفاض العالمي لأسعار الطاقة، وتدفع هذه العوامل مجتمعة إلى إبطاء عملية استغال ثروات المنطقة الشمالية.

ولهذه الأسباب أيضاً، تبقى مخاطر اندلاع صراع مسلح أمراً مستبعداً في المدى المنظور، على الرغم من الاهتمام المتصاعد بالمنطقة، ومع ذلك، فإنه من المرجح استمرار التنافس الدولي على المكاسب الاقتصادية في تلك المنطقة، مع سعيها في الوقت عينه إلى التوصل لتفاهمات فيما بينها، خاصة أن سياسة الخطوات الأحادية، التي غالباً ما تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية، لن تكون مجدية في تلك المنطقة، ولذلك يجب التركيز على أهمية التعاون، وهو ما يتضح في تأكيد الرئيس فاديمير بوتين ضرورة أن تكون "منطقة القطب الشمالي أرض الحوار"(13).

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates