Trending Events

ماذا تريد تركيا؟

-

غالباً ما تحرك المشاريع الكبرى “فكرة كبيرة” أو “عظيمة”، تتمحور في أيديولوجيا أو منظومة متماسكة من الأفكار، على سبيل المثال بنت الولايات المتحدة الأمريكية إمبراطوريت­ها أو حلمها على فكرة الحرية.

هناك أمثلة أخرى تؤيد هذه الفكرة، فالدولة الإسامية، على الرغم من أن رسالتها كانت للعالم أجمع، فإنها بدأت مرتكزة على عصبية العروبة. كذلك حفزت وبنيت الثورة الإسامية في إيران على عقيدة دينية، من جانبه قام الاتحاد السوفييتي على عقيدة شيوعية.

وخاصة الأمر، أنه لا توجد مشاريع كبرى في التاريخ من دون أن تنطلق من أفكار كبيرة أو أحام عظيمة. وفي الحالة التركية لا يختلف الأمر كثيراً عما أوردناه من أمثلة.

جاء مصطفى كمال أتاتورك ليعيد بناء الدولة والمجتمع عبر فلسفة بناء "المحارب" التركي الجديد، وفق توجهات علمانية وقومية، بحيث ذهب في الاتجاه المعاكس، الذي كانت عليه الدولة العثمانية، فقد تخلى عن العقيدة الدينية في الداخل، وعن التوسع والتمدد خارج حدود الأناضول، وطرح شعار "سام في الوطن سام في العالم" في السياسة الخارجية.

وبعد الحرب العالمية الثانية التحقت تركيا بركب المنظومة الغربية، وإسرائيل جزء منها، وانضمت الى حلف شمال الأطلسي، ومن وقتها باتت رهينة القرار الغربي في السلم والحرب، وكذلك في مساحة الدور الذي يمكن أن تلعبه. وإن ظلت تعاماتها في المنطقة العربية والإسامية تعتمد على العاقات الثنائية، وليست الأحاف، تستوي في هذا التوجه الحكومات التي تعاقبت بمختلف انتماءاتها السياسية، سواء كانت علمانية يسارية، أم علمانية يمينية، أم قومية أم إسامية (نجم الدين أربكان)، أم حكومات الانقابات العسكرية. واستمر هذا الواقع حتى العام 2002، الذي شهد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.

اأولاً: �شعود النموذج

كان وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة معبراً عن مشروع "أولي" تبلور مع تجربته في السلطة في السنوات الأولى. لبنة المشروع توظيف تركيا لموقعها، ولدورها اللذين لم تكن توظفهما من قبل. عنوان هذا المشروع، بل فكرته هو "العمق الاستراتيج­ي"، وهو عنوان الكتاب الذي كتبه أحمد داود أوغلو في أبريل 2001، أي قبل سنة ونصف من وصول الحزب الى السلطة.

حدد أوغلو المكانة والدور اللذين يجب على تركيا الاضطاع بهما، فهي بلد متعدد الأبعاد؛ أوروبية، وبلقانية، وغربية، وأطلسية، وشرق أوسطية، وإسامية وعلمانية وقوقازية، وتنتمي أيضاً إلى العرق الساڤي، ومن ثم قامت الرؤية على أن تركيا يجب أن تكون كل هذه العوالم، وتوظفها مجتمعة أو منفردة، حيث تقتضي الضرورة.

وفي التنفيذ، حمل هذا المشروع أكثر من عنوان، وكانت الآلة الاقتصادية إحدى أهم دعائم تطبيق المشروع. كما ارتفع شعار القوة الناعمة وصفر المشكات، ونسجت تركيا عاقات مميزة مع كل الدول المجاورة والبعيدة،

حتى في المسألة الأرمنية والقبرصية، أحدثت خروقات غير مسبوقة. وكانت العاقات مع العالم العربي وإيران في أفضل حالاتها، وكانت نقطة البدء سوريا، حيث دخل البلدان بدءاً من عام 2004 في حقبة ذهبية، ونظرت تركيا إلى سوريا باعتبارها بوابتها إلى العالم العربي. وهو ما حدث بالفعل فدخلت تركيا في عاقات مع العراق ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتدفقت الاستثمارا­ت الخليجية، لاسيما السعودية والإماراتي­ة والقطرية إلى تركيا.

من جانب آخر نجح "النموذج التركي" داخلياً في تعزيز الحريات والديمقراط­ية، ما فتح له أبواب المفاوضات المباشرة مع الاتحاد الأوروبي في خريف عام 2005. ومن ثم بزغ نجم تركيا كنموذج يجمع بين الإسام والعلمانية، وبين الإسام والديمقراط­ية، ويعتمد على القوة الناعمة لحل المشكات مع الآخرين، بل لحل المشكات بين الآخرين عبر دور الوسيط، الذي تصدت له في أكثر من نزاع. لكن ظلت التجربة التركية مع ذلك بعيدة عن اختبار حقيقي يفصل بين "التبر والتراب"، حتى بداية مرحلة الثورات العربية التي لعبت دوراً حاسماً في التعبير عن المشروع التركي بقوة، وإظهار مفاصل كانت موجودة فيه لكنها غير مكتملة.

ث�نيً�: «العثم�قية» الجديدة

عبرت تركيا في فترة ما سمي "بالربيع العربي" عن نفسها من خال عدد من الصور منها: 1- الظهور بمظهر اللاعب الأوحد في المنطقة: فقد وجدت تركيا مع هذه الأحداث الفرصة مواتية لكسر صيغة الهيمنة الثاثية من قبل إيران ومصر والسعودية على المنطقة، والتي استمرت سنوات طويلة، واعتمدت تركيا تكتيكاً تدريجياً في ذلك، فبدأت بكسر الدور الإيراني أولاً، من خال السعي لضرب النظام في سوريا، حتى إذا سقط تسقط معه، أو على الأقل يضعف المحور الذي تقوده إيران من بيروت إلى دمشق وبغداد، ثم انتقلت إلى كسر الدور المصري، ثم في مرحلة لاحقة العمل على زعزعة الاستقرار في الخليج العربي. وتمحورت هذه الخطة في كلمة وزير الخارجية التركي داوود أوغلو في 27 أبريل 2012 أمام البرلمان التركي، عبر فيها عن "شرق أوسط جديد ترسم مامحه تركيا وتقوده هي"، مختصراً أوغلو بهذه الكلمات، الدور التركي في المنطقة. 2- صورة اللاعب "العثماقي": وهي خليط من كلمتي العثمانية والسلجوقية، والتي تعبر عن مرتكز أساسي في المشروع التركي. وهو أمر سابق على "الربيع العربي" حيث عبر عنه أوغلو عام 2008 في حديث له مع الواشنطن بوست، مشيراً إلى "كومنولث عثماني" تكون تركيا زعيمته.

ويضم الدول التي كانت تحت السيطرة العثمانية. ومع "الربيع العربي" تكثفت الإشارة الى إرثين: الساجقي والعثماني، وبات ذكر السلطان محمد الفاتح يستتبعه ذكر أكبر ساطين الساجقة الشاه ألب أرسان. وباتت "العثماقية" عنصراً ظاهراً في السلوك التركي، فمثاً "القصر الأبيض" الذي بناه أردوجان مؤخراً، وأقام فيه بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في أغسطس 2014، وتكلف بناؤه 700 مليون دولار، أسس على العمارة الساجقية. وعند تبرير الاهتمام بسوريا، تأتي الإجابة، "نحن أحفاد الساجقة والعثمانيي­ن .. نحن بقية الدولة العلية". إنه المشروع العثماني – الساجقي الذي يتجاوز بعده التاريخي ليحمل أبعاداً أكثر خطورة تتصل بالهيمنة على المنطقة، وفقاً لقالب محدد.

فهذا المشروع يحمل رأسي حربة، الأول قومية تركية يغلب العنصر التركي على ما عداه، وهذا جوهر النزعة الساجقية والعثمانية، ما يعني العمل على إلغاء العناصر الأخرى في المنطقة، وأولها العنصر العربي، وكذلك الفارسي والكردي والأرمني وغيرها. ورأس الحربة الثاني هو النزعة المذهبية ببعد إيديولوجي واحد هي إيديولوجيا الإخوان المسلمين. وفي هذا البعد إلغاء لكل العناصر الإقليمية غير الإسامية وغير السنية وغير الإخوانية مجتمعة. وفي هذا تجديد لحرب الإبادة العثمانية على الأرمن وعلى الوهابيين في الجزيرة العربية إبان عهد محمد علي باشا في مصر. 3- صورة اللاعب الأطلسي: ظهرت تركيا أيضاً خال الربيع العربي بصورة الاعب الأطلسي، وباتت بنظر قادة حزب العدالة والتنمية بلداً حدوداً حدود الأطلسي، وخارج أي اعتبار للهوية المشرقية أو الإسامية للمجتمع التركي. واتكأت تركيا في اللحظات الحرجة على النزعة الأطلسية، والتي هي من ثوابت سياساتها الخارجية.

ث�لثً�: النه�ية الحتمية

يمكن إيجاز محصلة الدور الذي سعت إليه تركيا في أنها أصبحت عدواً لكل جيرانها، وانقلبت سياساتها من صفر مشكات إلى صفر عاقات، وباتت بلداً معزولاً. وبدلاً من مراجعة هذه السياسات التي قادتها إلى هذه العزلة، فإنها أوغلت في سياسة الهروب إلى الأمام، إلى خيارات أكثر تطرفاً في الداخل والخارج.

ومن ثم انقلبت على كل المكتسبات الديمقراطي­ة، وتحولت تركيا اليوم الى أكبر سجن في العالم في الهواء الطلق، وألغيت المسافة بين السلطات، ومضى أردوغان في سياسة تصفية كل خصومه، ولم يبق له حليف حتى ضمن التيارات الإسامية، وباتت أكثر بعداً من أي وقت مضى عن المعايير الأوروبية التي يفترض أن تلتزم بها في مسارها نحو التوحد مع أوروبا. وأصبحت الاستراتيج­ية التركية بعد سنوات قليلة من تطبيقها أقرب إلى الانهيار، وبات مصير تركيا بقيادة أردوغان واحداً من اثنين: إما التخلي نهائياً ورسمياً عن أوهام "العثماقية الجديدة" وهذا يعني تلقائياً سقوطه هو ومشروعه، وإما استمرار التخبط وتخريب الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني في المنطقة في انتظار الخاتمة الحتمية، ألا وهي مواجهة "المصير الأسود" نفسه لكل المشاريع العنصرية مثل النازية والفاشية.

 ??  ??
 ??  ?? د. محمد نورالدين
(أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية - باحث في
الشؤون التركية)
د. محمد نورالدين (أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية - باحث في الشؤون التركية)

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates