Trending Events

الجيوش العشائرية:

تصاعد الدور الأمني للقبيلة في المنطقة العربية أحمد زكريا الباسوسي

- أحمد زكريا الباسوسي باحث بالمركز الإقليمي للدراسات الاسراتيجي­ة بالقاهرة

شهدت دول الإقليم صعوداً لأدوار ووظائف القبائل، في ظل حالة الضعف والاختلال الوظيفي، الذي اعرى دولاً عديدة بمنطقة الشرق الأوسط على أثر الثورات العربية بالنظر إلى مركزية القبيلة في الوعي الجمعي، والذاكرة التاريخية لمجتمعات عديدة في منطقة الشرق الأوسط، ناهيك عن تصدرها التفاعلات السياسية قبيل التحرر من الاستعمار، وتأسيس الدول القومية.

ساهمت الثورات العربية في انتشار الميليشيات القبلية التي باتت تؤدي أدوراً أمنية كبديل عن الدولة في ظل تصاعد التهديدات الأمنية بالتوازي مع انحسار السيطرة الأمنية لبعض دول الإقليم، وعدم قدرة المؤسسات الأمنية والعسكرية على مواجهة الطفرة التي لحقت بنشاط التنظيمات الإرهابية منذ صعود تنظيم "داعش"، وانتشار الفاعلين المسلحين من غير الدول؛ مما دفع القبائل لتكوين وحدات عسكرية للدفاع عن ذاتها، أو المساهمة في تعزيز الأمن الداخلي أو لتحقيق مصالحها وترجيح وزنها في الترتيبات السياسية الجديدة لنظم الحكم في المنطقة، بالاستناد لظهير عسكري في مواجهة خصومها السياسيين.

اأولاً: خريطة انت�سار الميلي�سيات القبلية الم�سلحة

انتشرت الميليشيات أو الجيوش القبلية على نطاق واسع في مختلف دول المنطقة العربية، خاصة ليبيا واليمن وسوريا والعراق والصومال، حيث أضحت أدوارها تتراوح بين دعم الاستقرار ونظم الحكم في بعض الدول وتقويض الاستقرار والأمن في دول أخرى، وتعتبر حالة القبائل الليبية من أبرز الأمثلة في تكوين الميليشيات القبيلة، فغالبية القبائل الليبية لديها ميليشيات عسكرية، ويأتي في مقدمتها ما يطلق عليه جيش القبائل العربية، والذي يتركز بالأساس في المناطق غير الساحلية في ليبيا، ويبلغ قوامه ما يقرب من 50 ألف مقاتل، حيث يخوض هذا الجيش معارك مستمرة مع الميليشيات المسلحة التابعة للجماعات الإسامية، كما تضم فئة الميليشيات القبلية تحالف قبائل الزنتان الذي يضم عدداً كبيراً من المقاتلين، فضاً عن ميليشيات تحالف قبائل مصراتة المتحالفة مع التنظيمات الإسامية المسلحة، مثل الجماعة الليبية المقاتلة، وجماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من التنظيمات التي تقاتل في إطار تحالف فجر ليبيا، الذي يسيطر على العاصمة الليبية طرابلس.

وفي اليمن، تعد الميليشيات القبلية المسلحة إحدى الحقائق المجتمعية غير الاستثنائي­ة؛ نتيجة لانتشار الواسع للقبائل، باعتبارها الوحدة الأكثر تماسكاً داخل المجتمع اليمني، حيث إن غالبية القبائل لديها ميليشيات عسكرية، خاصة قبائل حاشد وبكيل والأحمر وعبيدة، والتي ارتبطت بعاقات وثيقة بوحدات الجيش اليمني، وتصدت لتوسعات جماعة

أنصار اله بقيادة عبدالملك الحوثي، والتي انتهت بالاستياء على العاصمة اليمنية واقتحام القصر الرئاسي في صنعاء.

في السياق ذاته، لم تخل الحالة السورية من انتشار ظاهرة الجيوش القبلية، إذ ساهم الصراع في سوريا بين المعارضة بمختلف فصائلها ونظام الأسد في ظهور ميليشيات قبلية وعشائرية لمواجهة قوات نظام الأسد وتنظيم "داعش"، وهو ما تأكد في مارس عام 2012 بتشكيل القبائل السورية لجناح عسكري يضم ما لا يقل عن 24 كتيبة مقاتلة، تتكون كل منها من 700 مقاتل في المتوسط بالتنسيق مع كتائب الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة السورية.

أما الدولة العراقية، فلها تجربة سابقة لقوات الصحوة التي تشكلت بالأساس من أبناء العشائر عام 2006 بالتعاون مع الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم القاعدة في الأنبار آنذاك، حيث استطاعت تلك القوات تطهير المحافظة بشكل كبير من عناصر التنظيم، لكن مع التمدد الواضح لتنظيم "داعش" في العراق اتسعت ظاهرة الميليشيات القبلية، خاصة بين العشائر السنية، لاسيما بين عشيرتي "البونمر" و"الدليم" في الأنبار، التي تعد إحدى مناطق تمركز رئيسية للسنة العراقيين.

وفي الصومال، تنتشر الميليشيات القبلية المسلحة في مختلف المناطق والمحافظات، خاصةً في محافظات "هيران" و"جوبا"، بينما تتركز بشكل أكبر في إقليم "شبيلي السفلي" جنوب الصومال، والذي تسيطر عليه نسبياً ميليشيات قبيلتي "هبرجيدر" و"بيمال"، في ظل الصراع العسكري المحتدم بينهما للهيمنة على جنوب الصومال منذ انهيار مؤسسات الدولة الصومالية.

ثانياً: العوامل الدافعة لظهور الميلي�سيات القبلية

يأتي انتشار الميليشيات القبلية نتيجةً لمجموعة من العوامل التي ساهمت في تصاعد الطلب المجتمعي على الأدوار الأمنية للقبيلة، ويأتي في مقدمة هذه العوامل تصدع بنية الدولة العربية المركزية، حيث أدت الثورات العربية لإضعاف أبنية الدولة المركزية، سياسياً وإدارياً، وتقويض احتكار الدولة للقوة المسلحة مع انتشار الفوضى الأمنية، مما أدى لتزايد الأدوار الأمنية للقبائل كبديل لضعف قوة الدولة، وعدم قدرتها على أداء وظائفها وتلبية الطلب المتصاعد على الأمن.

ويضاف إلى ذلك أن تدهور الأوضاع الأمنية في دول عديدة بمنطقة الشرق الأوسط على أثر الثورات العربية، مصحوباً بتفكك للجيوش المركزية، مما أدى لفقدان دول عديدة السيطرة على أراضيها، ففي اليمن أضحت المناطق الجنوبية شبه خارجة عن سيطرة الدولة، خاصةً أبين وشبوة، التي ينتشر فيها تنظيم القاعدة بصورة غير مسبوقة، فضاً عن سيطرة الحوثيين على محافظات صعدة وعمران والحديدة، والعاصمة صنعاء، وهو ما تكرر بشكل واضح في حالة ليبيا، خاصة المنطقة الشرقية، والمناطق التي تسيطر عليها قوات فجر ليبيا في بنغازي والعاصمة طرابلس، وهو ما دفع القبائل لتطوير جيوش بديلة لحماية ذاتها ومصالحها من التنظيمات الإرهابية المسلحة، التي باتت تسعى لتوسيع رقعة سيطرتها في الأراضي الليبية.

في السياق ذاته، اكتسبت القبائل قدراتها العسكرية نتيجةً لانتشار الكثيف للأسلحة بأنواعها كافة، سواء الثقيلة أو المتوسطة أو الخفيفة، سواء نتيجة لتصاعد التهريب عبر الحدود، أو الاستياء على مخازن الأسلحة المملوكة للجيوش الرسمية، فوفقاً لتقرير ((Small Arms Survey فقد حدث اتساع مضطرد في انتشار الأسلحة الصغيرة والمتوسطة في دول الإقليم، حيث أشار التقرير إلى وجود ما يقرب من 60 مليون قطعة ساح في اليمن، في الوقت الذي أشارت فيه بعض التقارير إلى انتشار ما بين 22 مليوناً إلى 25 مليون قطعة ساح في ليبيا، فضاً عن قيام الأجهزة الأمنية في مختلف دول المنطقة بضبط كميات كبيرة من الأسلحة المهربة، تتنوع بين الأسلحة الصغيرة، مثل البنادق الآلية، وبين الأكبر حجماً، مثل الصواريخ المضادة للطائرة، التي استخدمت بكثافة في الصراع الأهلي الدائر في سوريا، والصراع المحتدم بين الجيش الوطني وميليشيات فجر ليبيا.

وتضاف إلى ذلك السياسات الحكومية غير الرشيدة في التعامل مع أبناء العشائر والقبائل، مما يدفعهم لتكوين ميليشيات لحماية بنية القبيلة من سياسات نظم الحكم التي تهدد بقاءها وتماسكها، وتمثل حالة ميليشيات القبائل السنية العراقية أحد أهم النماذج على الصراع بين القبائل والمؤسسات الأمنية الرسمية التابعة للدولة، حيث اتجهت فصائل المعارضة السنية في العراق في أبريل 2013 لتكوين جيش من العشائر السنية، ونشره في محافظات كركوك والأنبار والموصل، لتأمين أنفسهم على خلفية قيام الجيش العراقي باقتحام وفض اعتصامهم بالحويجة، واستندت فصائل المعارضة والعشائر الداعمة لها إلى فتوى لرجل الدين السني عبداله ملك السعدي، تتضمن إقراراً بحق السنة في التصدي لأي اعتداء من القوات الحكومية باعتبارها اعتداءات غير شرعية.

ثالثاً: محددات الدور الاأمني للميلي�سيات القبلية

يمكن اعتبار القبائل بمنزلة كيانات ذات تأثيرات محايدة، بمعنى أن توظيفها لحفظ الأمن واستعادة الاستقرار وتدعيم بقاء الدولة يكاد يقابلها وجود احتمالات لتوظيفها لتقويض بنية الدولة وزعزعة الاستقرار والأمن أو اختراق الدولة من قبل عناصر خارجية، ومن ثم يتوقف تعزيز القبيلة للأمن والاستقرار في الدولة على عدة أبعاد أهمها ما يلي: 1- مواجهة التنظيمات الإرهابية المسلحة: حيث قام بهذا الدور العديد من القبائل في مختلف البلدان، ففي العراق لعبت القوات التابعة لبعض العشائر السنية، خاصة عشيرة "البونمر" دوراً بالغ الأهمية في مواجهة خطر تمدد تنظيم "داعش"، وهو ما تكرر مع بعض قبائل المنطقة الشرقية في

سوريا حينما انضموا لقوات الأسد لمواجهة تنظيم "داعش"، خاصة بعد تمدده في منطقة دير الزور الشرقية، مما يعني أن دعم الميليشيات القبلية لاستقرار يرتبط بتعارض مصالح القبيلة مع انتشار التنظيمات الإرهابية المسلحة ومنازعتها للقبيلة في المناطق والموارد التي تهيمن عليها مما يدفعها للتحالف مع نظم الحكم للتصدي لها. 2- التصدي للمجموعات المذهبية والطائفية: إذ يتجلى هذا بوضوح في حالة اليمن، حيث قامت الميليشيات القبيلة التابعة للقبائل، خاصةً حاشد وبكيل وآل الأحمر بمواجهة تمدد الحوثيين في أقاليم اليمن عقب سقوط سيطرة الأجهزة الأمنية الرسمية في مواجهة ميليشيات الحوثيين، حيث أضحت الميليشيات القبلية خط الدفاع الأخير في مواجهة توسعات الحوثيين، واتضح ذلك في تكوين تحالف قبائل رداع لمواجهة الحوثيين، لاسيما عقب الاشتباكات الدامية في منتصف نوفمبر من العام الفائت التي أسفرت عن مقتل وإصابة ما يزيد على 90 عنصراً من الطرفين. 3- المساعدة في حماية المناطق الحدودية: ففي بعض الحالات الاستثنائي­ة، قد تلجأ الدولة للعناصر القبلية لمساعدتها في حماية المرافق العامة في بعض المناطق التي توجد فيها، ومن أمثلة ذلك، استعانة السلطات المصرية ببعض القبائل في منطقة العين السخنة والسويس، خاصة قبيلة العامرين لتأمين طريق العين السخنة وبعض المنشآت السياحية، أما فيما يخص تأمين المناطق الحدودية، فيبدو أن القبائل والعشائر العراقية بدأت تعلب دوراً جديداً في تأمين الحدود العراقية-السورية بالاتفاق مع الولايات المتحدة، الأمر ذاته ينطبق على اعتماد الجزائر على قبائل الزوية والتبو جنوب غرب ليبيا في تأمين خطوط الحدود المشتركة بين الدولتين، وتواصل مصر مع قبائل شرق ليبيا للإفراج عن المحتجزين من سائقي الشاحنات العابرة للحدود. 4- تأمين وحماية آبار النفط: مع اتساع حالة الانفات الأمني في مختلف دول المنطقة، باتت آبار النفط هدفاً استراتيجياً للتنظيمات المسلحة، سواء الراديكالي­ة، متمثلة في تنظيم "داعش"، والتنظيمات القاعدية الأخرى في ليبيا، أو المذهبية، خاصةً جماعة أنصار اله في اليمن، وهو ما دفع الميليشيات التابعة للقبائل للقيام بدور في حماية آبار النفط وشبكات الأنابيب وموانئ التصدير، حيث قامت العناصر التابعة لقبيلة "دهم" بمحافظة الجوف باليمن بتوفير حماية لشركات نفط تقوم بالاستكشاف والتنقيب في المنطقة قبيل نهاية عام 2013، فضاً عن الدور الذي قامت به الميليشيات القبلية في محافظة مأرب لحماية آبار النفط من الحوثيين، مهددين أنه في حالة استياء الحوثيين على منابع النفط في مأرب فإنهم سوف يقومون بتفجيرها، وذلك للحيلولة دون استفادتهم منها، الأمر ذاته ينطبق على سوريا وبالتحديد في محيط منطقة دير الزور، حيث دخلت القبائل في مواجهات مسلحة مع جبهة النصرة، في محاولة منها لمنع سرقة جبهة النصرة للنفط السوري وتصديره للخارج عبر الحدود مع دول الجوار، خاصةً تركيا. في المقابل، توجد مجموعة عوامل مناقضة من شأنها أن تدفع الميليشيات القبلية نحو تقويض الأمن والاستقرار في دول المنطقة، ويأتي في مقدمتها ما يلي:1- الدخول في مواجهات عسكرية ضد النظام: ينتشر هذا النمط من التفاعات بين الدولة والقبيلة في بعض الدول، حيث يتجلى في القبائل المتمركزة في محافظة مأرب اليمنية، والتي خاضت عناصرها المسلحة عدة مواجهات عسكرية مع النظام اليمني، ممثاً في قوات الجيش اليمنى، كان آخرها في الأول من يناير من العام الجاري، حينما سيطرت القبائل على كتيبة تابعة للجيش بكافة عتادها وجنودها، عقب معارك دامية أدت لوقوع قتلى وجرحى من الطرفين، وهو الدور الذي قامت به القبائل والعشائر السورية، التي انحازت للثوار والمعارضة، وقامت بتشكيل جناح عسكري بالتنسيق مع الجيش السوري الحر لمواجهة قوات نظام الأسد في مختلف المناطق السورية. 2- التحالف مع التنظيمات القاعدية: يبدو أن تطور الأوضاع وتشابكها في بعض الدول، خاصة اليمن، وما أسفرت عنه من سيطرة الحوثيين شبه التامة على مفاصل الدولة، قد أعادة تشكيل طبيعة التحالفات للقوى العسكرية المتحاربة على الأرض، ولعل أخطر ما في ذلك التحالف الجديد بين القبائل السنية في الجنوب اليمني، خصوصاً في أبين وشبوة وبعض المنطق الأخرى، مثل البيضا ورداع، مع التنظيمات التابعة للقاعدة، لاسيما "تنظيم أنصار الشريعة" في تحالف سني لمواجهة الحوثيين الشيعة، وتكمن خطورة هذا التحالف، ليس فقط في تغلل التنظيم القاعدي داخل بنية الدولة اليمنية بدعم من القبائل، ولكن أيضاً لكونه تحالفاً تتحكم فيه النزعات المذهبية والطائفية، وهو ما يمثل خطراً حقيقاً، ليس فقط على اليمن، وإنما على المنطقة بأثرها، خاصة مع انتشار الانقسامات الطائفية والمذهبية في مختلف أرجاء الإقليم. 3- الامتدادات والعاقات القبلية العابرة للحدود: كشفت التحولات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط عن اتساع نطاق مدى تأثير التفاعات القبلية العابرة للحدود، سواء عبر امتداداتها الطبيعية أو عاقات مع حكومات البلدان الأخرى، وعلى الرغم من كونها أداة يمكن الاستفادة منها كعنصر في ضبط إيقاع العاقات بين الدول، فإنها في الوقت ذاته يمكن أن تشكل مدخاً لاختراق، ومن ثم تهديد وتقويض أمن الدولة، فعلى سبيل المثال، قامت الجزائر بفتح قنوات اتصال مع القبائل في غرب ليبيا، باعتبارها القادرة على

يمكن اعتبار القبائل بمنزلة كيانات ذات تأثيرات محايدة، بمعنى أن توظيفها لحفظ الأمن، واستعادة الاستقرار، وتدعيم بقاء الدولة، يكاد يقابلها وجود احتمالات لتوظيفها لتقويض بنية الدولة، وزعزعة الاستقرار والأمن، أو اخراق الدولة من قبل عناصر خارجية.

ضبط السيولة وتأمين الحدود، إضافة لوجود امتدادات قبلية ممتدة بين مصر والسودان، ومصر وليبيا، وبين المغرب والجزائر وتونس، وبين اليمن والسعودية، وهو ما قد يؤدي لتقويض سيطرة الدولة على التفاعات العابرة للحدود بين القبائل، خاصة حركة التجارة والأفراد، مما يمثل تهديداً لاستقرار العاقات بين دول الجوار.

رابعاً: تداعيات انت�سار الميلي�سيات القبائلية وال�سعائرية

لم يكن الانتشار الواسع للميليشيات والتنظيمات العسكرية القبلية سوى نتاج لسياقات انتشار القوة، وتعدد مراكز النفوذ في عدد من دول منطقة الشرق الأوسط، على أثر الثورات العربية في ظل تآكل قدرة المؤسسات الأمنية الرسمية على الحفاظ على الهامش النسبي للأمن، مما أدى لتكوين ميليشيات قبلية تقوم بأدوار متعددة لحفظ الأمن والنظام ومواجهة الخصوم السياسيين والمذهبيين، إلا أن انتشار هذه الميليشيات لم يؤدِ سوى لمزيد من حالة انعدام الأمن وسيادة منطق القوة في التفاعات بين القبائل والعشائر المختلفة، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى عدة تداعيات لتكوين الميليشيات أهمها ما يلي: 1- انتشار الجيوش العشائرية الموازية: فقد أدى هذا الانتشار للميليشيات القبلية إلى وجود عدد كبير من الجيوش داخل الدولة تنازع الأجهزة الأمنية الرسمية اختصاصاتها في فرض القانون والنظام، مما أدى إلى إيجاد مراكز قوى متعددة تستطيع أن تعيد توجيه الترتيبات السياسية والاجتماعي­ة لما يحقق مصالحها، وهو ما يعد مدخاً للصراع بين مكونات الدولة ذاتها من جانب، وبين القبيلة والدولة من جانب آخر، ولعل ارتباط بعض هذه الجيوش بمناطق بعينها فيما يعرف باسم "الجيوش المناطقية" مثل جيش برقة، وكتائب مصراتة، يعزز من التهديدات لتماسك بنية الدولة الوطنية، ويجعلها أقرب للتفكك والانقسام. 2- الصراعات القبلية البينية: وتجلى هذا النمط بوضوح في حالة ليبيا بين قبائل الزنتان ومصراتة، فعلى الرغم من التحالف الذي جمعهما خال الثورة الليبية قبيل سقوط نظام القذافي، فإن الاختاف حول توزيع المنافع، لاسيما السياسية والاقتصادي­ة، قد أدى لتأجيج الصراع العسكري المستديم فيما بينهم، الذي تطور فيما بعد وانطوى على استخدام الأسلحة الثقيلة والصواريخ، مما أسفر عن قتلى وجرحى، فضاً عن اتخاذ الصراع أبعاداً أخرى غير عسكرية، تمثلت في محاولة كل منهم استقطاب القبائل الأخرى لتقوية جبهته، مما ينذر بمزيد من التصعيد المستقبلي ليس بين القبيلتين فحسب، وإنما على الصعيد الليبي بشكل عام، في السياق ذاته شهدت بعض المناطق في الصومال صراعات بين الميليشيات القبلية، لاسيما منطقة "ديفو"، التي تقع على بعد 40 كيلومتراً تقريباً شمال مدينة بلدوين بمحافظة هيران، والتي أوقعت العديد من الضحايا في منتصف عام 2013، وهو ما تكرر في يونيو 2014 بعد دخول قبيلتي "هبرجيدر" و"بيمال" في مواجهات مسلحة أسفرت عن سقوط ما يزيد على أربعين قتياً. 3- انقاب القبيلة على الدولة: أدى تكوين الميليشيات لتصاعد سطوة القبيلة في مواجهة الدولة، وهو ما قد يدفعها لانقاب على دولة، أو حتى الدخول معها في صدامات أو مساومات على أقل تقدير لتحقيق مكاسب، وقد تجلى ذلك في حالات كثيرة أبرزها؛ الصراع المسلح بين قبائل مأرب والجيش اليمنى بسبب توزيع عوائد النفط، والتي سعت أوساط وشخصيات قبلية للتوسط لإنهائها، فضاً عن القبائل السنية في العراق، التي من المؤكد أنها ستطالب بحقوق أكبر في السلطة في حالة زوال خطر "داعش"، لاسيما بعد الدور الذي لعبته في مواجهة التنظيم، كما تجلى الدور المركزي للقبيلة بوضوح أيضاً في سوريا، فعلى الرغم من قيام نظام الأسد باحتواء القبائل والتحالف معها طيلة عقود طويلة، فإنها بادرت بالانقاب السياسي عليه مع انطاق الثورة، ثم بعد ذلك الانقاب العسكري بالمشاركة في الحرب ضده بالتنسيق مع الجيش السوري الحر. 4- تخلي الدولة عن وظيفتها الأمنية: إن الدور الأمني الذي أصبحت تقوم هذه الميليشيات القبيلة من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الدولة عن الاستمرار في القيام بوظيفتها الأساسية المتمثلة في توفير الأمن العام، وحفظ النظام وتطبيق القانون، وهو ما اتضح في تخلي بعض الأجهزة الأمنية في بعض الدول عن بعض وظائف تأمين المنشآت والحدود، وإعطائها بشكل جزئي أو كلي للقبائل وميليشياته­ا، خاصةً في ظل تنامي واتساع نطاق مصادر التهديدات من تنظيمات قاعدية، ومجموعات مذهبية وطائفية وعرقية، وعصابات جريمة منظمة عابرة للحدود.

وأخيراً، من المرجح أن يتخذ مستقبل الميليشيات والجيوش القبيلة مساراً تصاعدياً متصاً، وذلك لاستمرار وجود المسببات الموضوعية في أغلب دول منطقة الشرق الأوسط، والتي يمكن تلخيصها في عدة عاقات ارتباطية، أولها أنه كلما زادت حالة التصدع في بنية الدولة المركزية وفشلها في أداء وظائفها الأمنية والعسكرية، دفع ذلك باتجاه تزايد أهمية الميليشيات القبلية، وثانيها أن تصاعد حالة الانفات الأمني نتيجة ضعف وتفكك المؤسسات الأمنية والعسكرية يؤدي لتعزيز دور الميليشيات القبلية، أما العاقة الارتباطية الثالثة فتتلخص في أن انتشار الأسلحة الثقيلة والمتوسطة في المجتمعات، وعدم قدرة المؤسسات الأمنية على ضبط تجارة الساح العابرة للحدود، يؤديان لتصاعد القدرات العسكرية للجيوش القبلية بصورة غير مسبوقة تكاد تضاهي الجيوش النظامية، وتتمثل العاقة الارتباطية الرابعة في أن استحكام الصراع والتناحر بين الدولة والقبائل، وإخفاق الدولة في احتواء التكوينات المجتمعية الأولية، يؤديان لتكوين القبائل ميليشيات مسلحة لحماية بقائها في مواجهة الدولة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates