Trending Events

لماذا تدنت لغة الحوار في مواقع التواصل الاجتماعي؟

د. سعيد المصري

- د. سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع – جامعة القاهرة

قدمت أدوات التواصل الاجتماعي فرصاً غير مسبوقة لتوسيع آفاق التواصل، وحرية التعبير بين الشباب في عالمنا العربي، لكنها من جانب آخر أظهرت بعض الظواهر المصاحبة الجديرة بالدراسة، ومنها تدني وابتذال لغة الحوار.

لقد حملت أدوات التواصل الاجتماعي الجديدة ميزة حرية التعبير وأتاحتها بكثافة بين جيل الشباب بصفة خاصة، ولكن من جانب آخر صاحب هذه الحرية وجود محتوى لغوي مليء باستخدام كثيف لمفردات لغة في الحوار توصف بالتدني والسوقية والابتذال والإهانة، إلى غير ذلك من الأحكام الأخاقية الممتعضة. وللأسف لا توجد دراسات عربية أو محاولات لرصد بيانات دقيقة عن هذه الظاهرة بين المستخدمين العرب لمواقع التواصل الاجتماعى. ولاتزال الدراسات والبيانات في هذا المجال محدودة على المستوى العالمي، وإن كان بعضها يشير إلى أن 47% من المستخدمين لديهم محتوى من البذاءة على حساباتهم. ولهذا السبب، هناك محاولات عالمية تبذل من أجل تطوير آليات وقوانين وتطبيقات برامج لرصد وحجب المحتوى البذيء على شبكة الانترنت، والذي يشكل ضرراً بالغاً على المراهقين، ويلحق الضرر عن طريق الإساءة أو التحرش والترهيب فيما سمي بالبلطجة الرقمية أو السيبرية.

اأولاً: تحديد مفاهيمي

تعرف البذاءة في اللغة العربية بأنها التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، يحدث ذلك من خال التعبير بكلمات محظور استخدامها في التواصل اللغوي المعتاد. وهناك با شك اعتراف علمي بوجود ما يسمي باللغة الكريهة أو الوقحة في التواصل اللغوي. وتضم مواقع التواصل الاجتماعي مظاهر لهذه اللغة، فهناك اللغة السوقية التي تتضمن عبارات فيها غلظة وتعبيرات وقحة بها إشارات صريحة ومسيئة (لغة إباحية) التي تشير إلى تصوير موضوعات "جنسية صريحة"، واللغة البغيضة التي تحض على الكراهية وتشمل مفردات تنتقص من شخص أو جماعة على أساس بعض الخصائص المرتبطة بالتمايزات النوعية واللونية والعرقية والسالية والدينية.

وبصفة عامة فإن البذاءة والرقي ثنائية شائعة في الحكم على السلوك الإنساني في المجتمعات والثقافات كافة وعلى مر التاريخ، ولا تخلو أي لغة من وجود مفردات تنم عن البذاءة والفحش. وهذا يعني أن اللغة البذيئة موجودة دائماً في الحياة الإنسانية، قبل ظهور الانترنت، وتستخدم في ظل سياقات وضوابط محددة قد تضيق أو تتسع بحسب مقدار القيود الاجتماعية التي تفرضها الجماعة ومواضع السلطة داخلها على اللغة.

ولا توجد حدود مطلقة أو قاطعة بين ما هو لائق وغير لائق في اللغة، بل إن الحدود بينهما نسبية وتختلف باختاف المجتمعات والثقافات الإنسانية والفئات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد. كما أن معايير الرقي والقبح في اللغة ليست ثابتة وإنما تتغير دائماً عبر الزمن ، فكلمة "الشاطر" مثاً كانت تعني قديماً الخبيث الفاجر، تغيرت لتصبح تعبيراً عن الذكاء والفطنة والنباهة والدهاء.

ثانياً: البذاءة وموروث اللغة

لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نغفل

كون البذاءة في اللغة تمثل جزءاً لا يتجزأ من التراث الشعبي الشفهي الذي يذخر بمفردات هائلة من تراث الشتائم والتجريح والإهانة والسخرية، وكذلك الغزل الصريح بمفرداته وصوره الباغية، ومن أشهر النصوص الشعبية المليئة بلغة إباحية "ألف ليلة وليلة "التي سبق أن رفعت بشأنها قضايا في مصر عامي 1986 و 2010 لمنع وزارة الثقافة من طباعتها بدعوى الحفاظ على القيم والأخاق والحياء العام. كما أن هناك حضوراً للبذاءة في نصوص أدبية مكتوبة تحتوي على مفردات ولغة قبيحة، في محاولة لكسر الحواجز المقدسة والأخاقية، واقتحام العوالم المسكوت عنها.

ولا يخلو الشعر العربي الحديث من هذه اللغة الجريئة، خاصة لدى مفردات نزار قباني، بالإضافة إلى شعر أحمد فؤاد نجم، الذي وصف أحياناً بالشاعر البذيء، وهناك أيضاً كتابات أدبية مختلفة تستخدم هذه اللغة الجريئة، وصفت بالكتابات ما بعد الحداثية.

ثالثاً: البذاءة ومواقع التوا�سل

وإذا انتقلنا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فسوف ناحظ أن البذاءة في اللغة ليست قاصرة على الحوارات والتعليقات التي ترد على مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن الروابط التي تنقل إلى هذه المواقع من ألوان الغناء، مثل أغاني الراب المنتشرة في عدة دول عربية، والتي توصف في نظر السلطات السياسية والدينية والأخاقية والفنية بأنها أغان رديئة في افتقادها للرقي في الكلمات والألحان وطريقة الأداء. لكن من جانب آخر وحول هذه الأغاني من المهم ماحظة أن ما يوصف بالمحتوى السوقي أو المبتذل في تلك الأغاني يتحدى موانع ومحرمات ومثل عليا وأذواق ومعايير فنية سائدة، ومن جانب آخر فإن أداءها يعطي متسعاً للتحرر من القيود المجتمعية، ويخاطب مشاعر كتل سكانية تعاني التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، كما يخاطب الشباب بصفة عامة والمشكات التي يعانونها، وكل ذلك يلعب دوراً بالغاً في قبولها وانتشارها الكبير.

على ضوء كل ذلك يتعين الأخذ بعين الاعتبار أن الحوارات التي توصف بالبذاءة على مواقع التواصل الاجتماعي باتت ظاهرة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية ونفسية، ومرتبطة بالشباب إلى حد كبير، وشائعة لدى الذكور والإناث على حد سواء. وتشير الماحظات الميدانية الأولية لواقع الاستخدام العربي للغة المحظورة على مواقع التواصل الاجتماعي أن ثمة عاقة ارتباط بين العمر والمكانة الاجتماعية من ناحية، واستخدام تلك اللغة البذيئة من ناحية أخرى، فالحوارات على فيس بوك وتويتر، التي تتم بين الشباب من أعمار ومستويات اجتماعية اقتصادية متقاربة، تشهد استخداماً للكلمات المحظورة بصورة كبيرة، وفي مقابل ذلك يحجم الشباب عن استخدام أي عبارات بذيئة إذا كان أحد المشاركين في الحوار من الوالدين أو من الأكبر سناً.

ينطبق ذلك أيضاً على الذكور من الشباب الذين يحجمون عن استخدام هذه اللغة في الحوارات الجادة وحوارات التسلية والتهكم، التي قد تتم مع الإناث والعكس صحيح أيضاً، ما عدا لو كان المقصود استخدام الحوارات بهدف الإثارة أو التحرش أو البلطجة الإلكتروني­ة، حيث تصل البذاءة إلى أقصى مدى يمكن تصوره، بين الذكور والإناث من الشباب. وكلما كانت العاقة حميمة بين الشباب، فإن استخدام اللغة البذيئة في الحوار يمكن أن يعكس قدراً كبيراً من مشاعر الصداقة الحميمة، بينما تعبر الشتائم والإهانات والازدراءا­ت الصريحة في حوارات الشباب، والمصحوبة دائماً بانفعالات حادة عن عمق الخاف بينهم ومؤشر على مدى هشاشة العاقات فيما بينهم. وقد مثلت الحوارات السياسية خال الفترة بين 2011 و2013 مجالاً خصباً لظهور مشكات كارثية في لغة الحوار، والاستقطاب الحاد بين المتحاورين، حيث استخدمت أعنف مفردات اللغة الكريهة بين الشباب. كما كشفت هذه الفترة عن مدى عمق التعصب والإقصاء في التفكير ومدى التسلط الشديد في الرأي وتغلغل الصور النمطية السلبية عن الآخر.

رابعاً: البذاءة في المحيط العام

من الواضح أن حيز اللغة البذيئة يتسع فيما بين الشباب من دوائر التواصل الافتراضية إلى دوائر أوسع للتواصل المباشر في الواقع، بحيث ساهم ذلك في عمق الارتباط بالقاموس اللغوي للكلمات المحظورة. يظهر ذلك حين تنفلت هذه الكلمات أحياناً من حيز التفاعل فيما بين الشباب إلى مواقف التفاعل والخاف مع الآخرين. وحين يتعرض بعض الشباب إلى اللوم مثاً من عدم قدرته على تجنب استخدام لفظ فاحش مثاً، فإن كثيراً منهم يبرر ذلك بأنه ألفاظ أصبحت عادية ولا تدعو للخجل أو الاعتذار.

بطبيعة الحال فإن شيوع استخدام الكلمات البذيئة بين الشباب داخل وخارج مواقع التواصل الاجتماعي وثيق الصلة بالرغبة في التعبير الحر عن الانفعالات بحرية تامة، والتباهي أحياناً بالجرأة على كسر حواجز الصمت اللغوي التي تفرضها كل السلطات الدينية والأخاقية والأبوية والسياسية على حرية التعبير في الحياة اليومية باسم الحفاظ على القيم والتقاليد والمقدسات والرقي الإنساني والاحترام والحفاظ على معايير المكانة والهيبة. كما أن اللجوء الى اللغة التي توصف بالتدني والبذاءة لا تنفصل عن صور التعبير الشائعة باستخدام الاختصارات والحروف والارقام الانجليزية في التعبير عن كلمات باللعة العربية. وهذه ظاهرة تنم عن ميل الشباب لتأكيد الهوية التي تقاوم المعايير الاجتماعية المفروضة من أعلى.

إن شيوع استخدام الكلمات البذيئة بين الشباب داخل وخارج مواقع التواصل الاجتماعي وثيق الصلة بالرغبة في التعبير الحر عن الانفعالات بحرية تامة، والتباهي أحياناً بالجرأة على كسر حواجز الصمت اللغوي التي تفرضها كل السلطات الدينية والأخلاقية على حرية التعبير.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates