Trending Events

لماذا تتعدد مناهج فهم الإسلام وتوظيفه؟

د. نصر محمد عارف

- د. نصر محمد عارف المستشار بوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بدولة الإمارات العربية المتحدة، وأستاذ العلوم السياسيةفي جامعةالقاه­رة

تعدد مناهج فهم الإسلام وتطبيقه هو سر عظمة الحضارة الإسلامية، وانتشارها في كل ربوع الأرض، وهو سبب استمرارها على الرغم تقلبات الزمان والدول وتعرجات التاريخ.

لقد أدى هذا التعدد في الفهم والتطبيق إلى ظهور ثقافات إسامية متنوعة ومتعددة؛ لكل منها خصائصها الذاتية التي تعكس التجربة البشرية الخاصة بكل مجتمع قبل الإسام، وذلك على عكس جميع الحضارات الأخرى القديمة والحديثة، التي قامت على ثقافة واحدة، وفرضت ثقافتها على كل المجتمعات التي دخلتها، أو سيطرت عليها. فالحضارة الرومانية فرضت ثقافة واحدة على العالم الذي سيطرت عليه، أما الحضارة الإسامية، فكانت من السماحة والتعدد والتنوع أن قادت إلى ظهور ثقافات متنوعة من شرق آسيا إلى أفريقيا مروراً بالهند ووسط آسيا والعالم العربي.

اأولاً: مرتكزات التعدد في الاإ�سلام

يعود جوهر التعدد والانفتاح في الدين الإسامي إلى ثاثة مرتكزات أساسية: أولها، أن الدين الإسامي هو رسالة عالمية عامة لجميع البشر في جميع العصور والأزمان منذ نزوله وحتى نهاية العالم، وليس دينا خاصاً بأمة أو قوم. وثانيها، أنه الرسالة الخاتمة التي لن تأتي بعدها رسالات أخرى. وثالثها، أن الله سبحانه تعهد في كتابه الكريم أنه لن يعذب أي جماعة بشرية إلا بعد أن يرسل لها رسالة تقيم الحجة عليها. هذه الخصائص أو المرتكزات الثاثة هي التي استلزمت أن يقدم الإسام نسقاً معرفياً مفتوحاً Open Paradigm؛ محددة مسلماته وقيمه، ومفتوحة نهاياته، بحيث يكون كل فكر أو فقه أو قوانين أو نظم مشتقة من الإسام، ومنسوبة إليه، هي نتيجة لتفاعل ثاثة عناصر هي: الوحي (قرآن وسنة)+ الواقع (بكل مكوناته) + العقل الإنساني= الفقه والفكر والنظم والقوانين. ومن هنا تتعدد الآراء الفقهية وتتنوع وتختلف على الرغم من وحدة المصدر الذي هو الوحي (القرآن والسنة)، وذلك لتعدد وتنوع واختاف طرفي المعادلة الآخرين، وهما الواقع والعقل الإنساني. لذلك نشأت في الإسام مذاهب ومدارس واتجاهات فكرية متنوعة، وكل منها كان استجابة لواقعه، ولظروف زمانه، ومكانه.

ثانياً: تعدد فقهي وفكري

لقد تطور هذا التراث من إنتاج العقل البشري سواء أكان فقهاً، أو فكراً، أو نظماً ومؤسساتٍ، أو قوانينَ وممارساتٍ، وتراكم وأصبح من الثراء والتعدد أن وصل درجة أن هناك في كل موضوع أو مسألة الحجة ونقيضها، وأصبحت هناك حصيلة فكرية وفقهية من عصور وأزمنة متناقضة تصيب العقل البشري بالارتباك والإرباك. فهناك فقه يتعلق مثا بالدولة تم إنتاجه في عصور القوة والمنعة والهيمنة، وهناك فقه في الموضوع نفسه تم إنتاجه في عصور الضعف والوهن والانحطاط، وكاهما أُلقي إلى عصرنا وفي عقولنا ولا نعرف كيف نميز؟ أو ماذا نستخدم؟ لذلك حدثت حالة خطيرة من الفوضى الفقهية والفكرية. وهنا أصبح للإسام ثاثة وجوه،

أو ثاث طبقات متنوعة يؤدي الخلط بينها إلى كوارث في الفهم، وفي السلوك الفردي، وفي الحركة الاجتماعية والتاريخية. هذه الوجوه الثاثة هي: أولاً، الدين السماوي الذي نزلعلىالرس­ول محصوراً في القرآن والسنة. وثانيها، الثقافة الإسامية التي أوجدتها المدارس الفقهية، والنظم والقوانين المستمدة من الشريعة، والأعراف التي توارثها المسلمون في مجتمعاتهم المختلفة. وثالثها، الإيديولوج­يا السياسية التي صاغتها وسوقتها الحركات المجتمعية والسياسية، التي ظهرت في القرن العشرين، والتي بدأت توظف الإسام الدين، والإسام الثقافة في مشروعها السياسي، سواء ضد الخصوم والأعداء الخارجيين، أو ضد الدول التي يعيشون فيها، ويطمحون في تغييرها أو أسلمتها. هذه الوجوه الثاثة تتعايش معاً وكأنها ثاث طبقات بعضها فوق بعض، لا يستطيع الإنسان العادي، أو حتى المتعلم بسيط الفكر أن يدركها. ويحرص المنتسبون إلى الجماعات والأحزاب السياسية التي توظف الإسام لتحقيق أهدافها على خلط هذه الطبقات لتمرير أيديولوجيت­هم السياسية، وتسويقها، وتقديمها على أنها هي الإسام، وأن ما عاداها خروج عن الإسام، أو نقصان في التدين، أو أحياناً كفر بواح، وإنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة. وهذه الحال أدت إلى درجة من الإرباك والتشوه في الثقافة الإسامية المعاصرة التي أصبحت تخلط بين الدين والثقافة والأيديولو­جيا خلطاً يجعل من الجميع ديناً لا يحيد عنه إلا كافر به، وهنا أضفيت قداسة الدين على أفكار البشر، وعلى ممارسات المجتمع، وعلى طموحات السياسيين والانتهازي­ين، وأصبح على المجتمع المسلم، الذي تنتشر فيه الأمية، أن يتبع هذه الخلطة الفكرية والفقهية والثقافية، وأن يطبقها في حياته، وأن يقدم حياته فداء لها، وجهاداً في سبيل اله.

ثالثاً: فتاوى ميتة ومميتة!

وفي هذا السياق تسربت العديد من الأفكار والفتاوى والممارسات الميتة؛ التي تم نبشها من بطون قبور التاريخ، ظنا من النبَّاشين أنهم يعيدون إحياء الإسام الذي هو في نظرهم ممارسات بشر يسمونهم السلف، وليس وحياً خالداً يعطي كل عصر، وكل زمان، وكل مكان ما يحقق مقاصد الخالق من الخلق. هذه الأفكار والفتاوى والممارسات الميتة تحولت إلى وسائل مميتة، أدت إلى شل حركة المجتمع، وإرباكه وإدخاله في صراعات تعيق حركته التاريخية، وتحرفه عن مساره الصحيح، وتفقده البوصلة والوجهة التي أرادها اله له، وقد تزامن مع ذلك انحراف خطير في منهجية التعامل مع الوحي تمثل في مظهرين: 1- تحول الإسام من غاية إلى وسيلة ظهرت هذه المنهجية في فترة مقاومة الاستعمار، واستمرت مع كل الحركات والجماعات التي تواجه قوى الظلم والاستعباد والقهر، وهنا تم توظيف الإسام باعتباره تراثاً قومياً، وملكية مجتمعية لجماعة بشرية معينة ضد جماعة بشرية أخرى، تم توظيفه لحث الشعوب على المقاومة والجهاد، فالإسام الدين الذي يخاطب البريطاني والفرنسي والأمريكي والياباني؛ تم توظيفه في عملية سياسية اسمها الاستعمار، أو استغال الموارد، أو فرض الهيمنة والنفوذ، وتم تبرير استهداف المدنيين، والمصالح الاقتصادية، والقيام بعمليات انتحارية، أو إرهابية…الخ، في ظل هذا الصراع السياسي أو الحضاري العام، وكان الأولى أن تقتصر المواجهة على الجيوش كما كان في حالة الحروب الصليبية التي استمرت لقرنين من الزمان بين جيوش نظامية، ولم يكن المدنيون موضوعاً لها على الإطاق، وليس أخذهم رهائن وذبحهم، كما يحدث اليوم في عهد خليفة "داعش". هذه العقلية التي تؤمن بملكية الإسام جعلت إمكانية توظيف الإسام لتحقيق المصالح والأهداف الضيقة للجماعات والأحزاب السياسية أمراً منطقياً، وشرعياً في الوقت نفسه، ومن هنا تحول التعدد والتنوع في الفقه والفكر والثقافة الإسامية من حالة إيجابية بناءة إلى حالة سلبية هدامة ومدمرة، إذ حولتها الجماعات المنتسبة للإسام إلى برجماتية انتهازية صارخة. 2- خلل التعامل مع النص القرآني ثاني مظاهر الانحراف المنهجي في تعامل المعاصرين مع الإسام يأتي من خلل منهجي خطير، أصاب العقل المسلم منذ قرون في تعامله مع القرآن الكريم، تنبه إليه ونبهنا إليه الفقيه الأشهر أبوإسحق الشاطبي صاحب كتاب "الموافقات في أصول الشريعة" حين فرق بين منهجين في الرجوع إلى القرآن: المنهج الأول وهو رجوع الافتقار، أي رجوع المفتقر إلى حكمة القرآن وحكمه، وهو خالي الذهن من أي انحيازات مسبقة، وليست لديه أية تفضيات، وينتظر من القرآن أن يقدم له المعرفة التي يحتاجها في الموضوع الذي ينشغل به، ويبحث فيه وعنه، وهذا هو منهج العلماء الموضوعيين، والمسلمين الخاضعين لحكم اله، الذي يبتغون رضاه. أما المنهج الثاني في الرجوع إلى القرآن فقد أسماه الشاطبي "رجوع الاستظهار"، أي الرجوع إلى القرآن، لركوب ظهره، واتخاذه وسيلة لتحقيق غاية في ذهن وعقل وقلب ذلك الذي يريد توظيف القرآن لتحقيق أهدافه هو، سواء أكان فرداً أم جماعةً، وذلك الذي يستشهد يرجع إلى القرآن ليستشهد به قد كَوّن رأياً وقناعة خاصة به، ويريد أن يوجد لها تبريراً، فيعود إلى القرآن باحثاً عن أدلة وشواهد ومبررات تجعل فكره ورأيه مقبولين عند الناس، وهذه الحالة هي الحالة السائدة في هذا العصر عند الجميع. من خال هذا التوصيف يمكن أن نفهم السبب وراء ذلك التعدد الفوضوي في فهم الإسام، وتوظيفه لتحقيق أهداف تتناقض مع قيم الإسام ومقاصده وغاياته، فقد تحولت كل المزايا التي قدمها الإسام كنسق معرفي مفتوح، وكدين يحافظ على التنوع والتعدد البشري، تحولت كل الإيجابيات إلى وسائل يوظفها الانتهازيو­ن باسم الإسام لتحقيق مصالحهم، أو أيديولوجيا­تهم، وتسويغها، وإضفاء طابع شرعي عليها.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates