Trending Events

كيف نفهم عقلية المؤامرة؟

عبدالله حميد الدين

- عبدالله حميد الدين باحث سعودي، مستشار في مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي

بات مصطلح نظرية المؤامرة كثير الاستعمال، لدرجة أنه لم يعد من الممكن تحديد معناه بصورة دقيقة، لذلك يركز هذا المقال حصراً على عقلية المؤامرة؛ أي طريقة التفكير التي تفرز أو تصدّق نظريات المؤامرة.

يمكن تعريف عقلية المؤامرة بأنها: "الميل التلقائي لتجاهل التفسيرات الظاهرة والرسمية لأي حدث، والارتكان إلى تفسيره على أنه نتيجة مؤامرة من جماعة خفية، وفي أكثر الأحوال قوية من دون الاستناد إلى أي دليل على ذلك". وفق هذا التعريف فإن الاقتناع بوجود مؤامرات في العالم لا يعني الإيمان بنظرية المؤامرة، ولا امتاك عقلية المؤامرة، كما أن الإيمان بحقائق مغلوطة، مثل التشكيك في عاقة التدخين بالسرطان، أو التشكيك في الاحتباس الحراري، لا يعني أيضاً امتاك عقلية المؤامرة.

اأولاً: ملامح عقلية الموؤامرة

لكن لكي نصف شخصاً ما بأن لديه عقلية المؤامرة، فابد من أن يكون له بشكل أساسي التالي: أولاً: ميل تلقائي نحو تجاهل التفسيرات الظاهرة، هذا الميل يدفع الفرد نحو اعتبار أن كل حدث مهما صغر وراءه ما وراءه. ثانياً: استعداد للإيمان بتفسيرات ليس لها دليل واضح. أما لو توفرت الأدلة على وجود مؤامرة فإنّه من الطبيعي الإيمان بها، فا شك أن هناك مؤامرات تحدث، ولكن لكي نعتبر أن حدثاً ما وقع نتيجة مؤامرة فابد من توفّر أدلة عن ذلك الحدث تحديداً. ثالثاً: قناعته بأنَّ المؤامرة من فعل جماعة سرية شريرة تستهدفه هو أو العالم أجمع. تشيع عقلية المؤامرة في منطقتنا العربية، وفي المجتمعات المسلمة بشكل عام، كما هي شائعة في مجتمعات أخرى. وياحظ أن الأمر المشترك بين من يؤمنون بنظرية المؤامرة هو الإحساس بالعجز للحد الذي يمكن معه القول إن العجز هو ركيزة عقلية المؤامرة، وأبرز أسباب الإيمان بها، بل يمكن أن نُرجع نظريات المؤامرة كافة، التي استخدُمت لتفسير كل ظاهرة غير مرغوبة منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن، إلى إحساس شعوب المنطقة بالعجز أمام تلك الظواهر، ورغبتهم في تبرير ذلك العجز بالإحالة إلى وجود قوة سرية طاغية قادرة إلى إحداث تلك الأمور رغماً عن إرادات كل الشعوب. فمن وعد بلفور، واتفاقية سايكس بيكو، والثورة العربية الكبرى، وسقوط الخافة العثمانية، وعلمنة تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك، ومروراً بوفاة جمال عبدالناصر، واتفاقية كامب ديفيد، والغزو العراقي للكويت، واتفاقية غزة أريحا، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وبروز دور القاعدة، وسقوط الأسهم، وانهيار الأسواق العالمية، وبرامج الحد من النسل، وانتشار المخدرات في المجتمعات المسلمة، وصولاً إلى ظهور تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، فجميع هذه الأحداث القاهرة وغيرها من الأحداث المفصلية في تاريخ المنطقة يتم تفسيرها من خال عقلية المؤامرة. تفسير الأحداث من خال عقلية المؤامرة لا يقتصر على شعوب المنطقة والعرب والمسلمين، بل هو شائع

في العالم أجمع، فهناك الكثيرون من المؤمنين بأن اغتيال الأميرة ديانا كان مؤامرة من الاستخبارا­ت البريطانية، وبعضهم ذهب إلى أنها لم تُقتل وإنما مثّلت قتلها حتى تتمكن من أن تعيش مع دودي الفايد بعيداً عن الأضواء. وهناك نظريات لا نهائية حول اغتيال الرئيس الأمريكي جون كنيدي، وتشكيك بالقصة الرسمية التي تفيد بأنها كانت عملية فردية. كما أن هناك تفسيرات مؤامراتية لتفجيرات أوكاهوما في الولايات المتحدة واعتبار أن تيموثي ماكفي مجرد دمية في يد قوى خفية، بل حتى انتشار الإيدز وبعض الأوبئة الأخرى يتم تفسيره على أنه جزء من مؤامرات استخباراتي­ة بهدف القضاء على فئات اجتماعية وعرقية محددة.

ثانياً: ركائز عقلية الموؤامرة

الركيزة الأولى: العجز. فعادة يخفف التفسير بأن هناك مؤامرة من وقع الحدث ومن الإحساس بالعجز، فالتفسير بالمؤامرة يحيل سبب الحدث إلى طرف أقوى من ضحية الحدث أو المشاهد له بشكل جازم ويعفيه من مسؤولية ما يجري. على سبيل المثال، تفسير سقوط سوق الأسهم على أنه مؤامرة من حكومات بهدف إفقار الشعوب يُعطي لمن خسر أمواله بعض العزاء. وذلك التفسير يساعده على تقبل مرارة ما حصل لأنه نتيجة إرادة حكومات لا يمكن الوقوف أمامها. هذا أسهل من أن يقول الخاسر لنفسه "أنا خسرت أموالي لأنني غامرت في السوق"، أو يقول "لأنني أخطأت في توقيت الاستثمار". وعندما يجد المسلم نفسه في آخر سلّم التنمية في العالم، فإنه يفضّل القول إن هذا حدث بسبب مؤامرات وليس بسبب تقصير. الركيزة الثانية: الإحساس بالاستهداف. عادة عندما يصاب الشخص بمصيبة فردية أو اجتماعية قد يتساءل: "لماذا أنا؟"، ومن يدرك تعقيد العالم سيقول هكذا الحياة، ولكن هناك من يرى أنه مستهدف، وبالتالي فإنه يقول: "هذا حدث لأن هناك من يستهدفني!"، ومن ثم فكل حدث يقع يفسره بكونه مستهدفاً في ذاته. ودلّت كثير من الدراسات على أنه كلما زادت مكانة الفرد، قلت تفسيراته المعتمدة على نظرية المؤامرة، وبقدر ما يملك المرء من فلسفة إيجابية واقعية للتعامل مع الأحداث السيئة بقدر ما يتقبل ما وقع عليه على أنه سوء حظ وقدر وليس مؤامرة من قوى خفية أعظم منه. الركيزة الثالثة: تضخّم الذات. فمن يؤمن بنظريات المؤامرة يرى أنه أقدر من غيره على تفادي تأثير الإعام، وهو يرى أن الإعام استطاع أن يُقنع كل من حوله تقريباً بحقيقة ما، ولكنه كان أذكى من أن يتم استغفاله، ويرى أن عليه توعية العالم بحقيقة ما يجري، وتنبيه الجميع من الخطر المحدق عليهم، وهو لا يعتبر تكاثر الأدلة كافياً لتغيير رأيه، بل يعتبرها دلياً على مدى استعداد المتآمرين على إخفاء الحقيقة، ومدى قدرته هو على كشف تلك المحاولات الكاذبة مهما كثرت. الركيزة الرابعة: اليقين المطلق بأيديولوجي­ة محددة، على سبيل المثال، نشأ الكثير من المسلمين على الإيمان بأن الغرب يريد أن يضعف التدين لديهم، لذلك يميل كثير منهم إلى التشكيك في الممارسات الغربية باعتبارها جزءاً من مشروع إضعاف التدين، ومن ثم تفسر هذه العقلية انتشار الأفام الأجنبية بين المسلمين باعتبار ذلك جزءاً من تلك المؤامرة. الركيزة الخامسة: تجنب تحمّل المسؤولية الأخاقية. فظهور "داعش" مثاً، أربك الكثير من المسلمين، ووضعهم أمام سؤال صعب: "كيف ظهرت هذه الفظائع باسم الدين؟" البعض أجاب عن هذا السؤال بأن هذا ليس من الدين، وإنما لدوافع اجتماعية اقتصادية.. إلخ. والبعض اكتفى بالقول إنه لا يعيب الدين وجود بعض المجرمين بين أتباعه، ولكن هناك من يريد تحميل المسؤولية على طرف آخر، فاعتبر "داعش" مشروعاً غربياً.

ثالثاً: عقلية الموؤامرة وم�ساكلها

تتعدد ركائز عقلية المؤامرة، وتتفاوت في وجودها بين فرد وآخر ومجتمع وآخر، فالأقليات التي تشعر بالتهميش قد يزيد لديها الشعور بالاستهداف، والمتدينون قد تزيد لديهم نزعة تجنب المسؤولية الأخاقية، والمؤدلجون يزيد لديهم اليقين بمجموعة مسلمات عن العالم، ولكن في النهاية يميلون جميعاً نحو الإيمان بشيء لا دليل عليه، ولابد من التمييز بين عقلية المؤامرة وعقلية الاستقصاء، فالأولى لها تلك الركائز الخمس، أما العقلية الاستقصائي­ة فهي التي لا ترضى بالحد الأدنى من الأدلة، ولا الحد الأدنى من التمحيص، إنها العقلية التي تحاول الكشف عن أدلة، وليس اختراع تفسيرات، العقلية الاستقصائي­ة أساسية لأي مفكر ومحلل وصحفي وشرطي. من جانب آخر تعاني عقلية المؤامرة أزمة معرفية، فا تستطيع التعامل مع واقع مركّب معقد مليء بالعوامل المختلفة والمتضادة، إنها عقلية تسعى لعالم منظم شديد التنظيم، كل شيء يحدث فيه بإرادة، وليس لديها القدرة على استيعاب فكرة العشوائية والصدفة في أغلب الحوادث في حياتنا، إنها عقلية شكّاكة مرتابة، تعتبر أن كل تصرف صدر عن جهات محددة مهما بدا جيداً فإنه يفتح بابا للشرور، وهي عقلية نرجسية ترى أنها امتلكت الحقيقة الغائبة عن بقية العقاء، إنها أيضاً عقلية تعاني جنون الارتياب، وتظن أنَّ العالم يستهدفها، والتعامل مع عقلية المؤامرة معقّد، لأنَّ صاحبها لا يقنعه أي تفسير، بل يتعزز موقفه كلما تم الالتفات إليه، وفي الوقت نفسه فإنَّ تجاهلها قد يؤدي إلى انتشار مرضي لنظريات مؤامراتية، لذلك لابد من استراتيجية دقيقة تراعي توقيت الرد على النظرية المؤامراتي­ة وأيضاً الجمهور المستهدف.

تسعى عقلية المؤامرة لعالم منظم شديد التنظيم، كل شيء يحدث فيه بإرادة، وليس لديها القدرة على استيعاب فكرة العشوائية والصدفة في أغلب الحوادث في حياتنا، إنها عقلية شكّاكة مرتابة، تعتبر أن كل تصرف صدر عن جهات محددة مهما بدا جيداً فإنه يفتح باباً للشرور.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates