Trending Events

إشكاليات القياس:

أسباب تراجع مصداقية المؤشرات والتقارير الإحصائية العالمية أسامة البدوي

- أسامة البدوي باحث متخصص بالاقتصاد

تزايد في الآونة الأخيرة الاهتمام العالمي بالمؤشرات الدولية الصادرة عن مجموعة متعددة من المنظمات الرسمية والخاصة، والتي فاق عددها 150 مؤشراً في مجالات متنوعة مثل التنافسية، وبيئة الأعمال، التي أضحت تمثل إحدى أهم الأدوات التي تعتمد عليها المنظمات الدولية والمستثمري­ن في توجيه المساعدات والاستثمار­ات وتقييم السياسات العامة.

اأولاً: الجدل حول م�سداقية الموؤ�سرات الدولية

تتسم التقارير بعدة إيجابيات تتمثل في صياغة مؤشرات استرشادية تجعل المقارنة بين الدول ممكنة، فضاً عن تقييم التقدم الذي حققته دولة بعينها في أحد المجالات عبر تتبع أدائها في التقارير المتتابعة لتحديد التجارب الدولية التي يمكن الاستفادة منها ومحاكاتها من خال انتهاج السياسات ذاتها لتحسين أوضاع الدولة، فضاً عن تحديد أولويات الإصاح الإداري والاقتصادي والمجتمعي في الدولة من خال تحديد مكامن الضعف في بنيتها المؤسسية.

وفي هذا الإطار اتجهت مختلف المؤسسات الدولية لإصدار تقارير إحصائية ومقاييس لترتيب دول العالم، ومن أهم هذه المقاييس مؤشر التنافسية الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي ومؤشر مدركات الفساد الذي يصدر سنوياً عن مؤسسة الشفافية الدولية ومؤشر الحرية الاقتصادية الذي تصدره مؤسسة هيريتاج، ومؤشر التنمية البشرية الذي يصدر سنوياً عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ومؤشر سهولة ممارسة الأعمال الذي يصدر عن البنك الدولي، وعلى المستوى المعرفي والتكنولوج­ي فإن عدداً من المؤسسات الدولية قد صاغت مؤشرات أخرى لقياس الابتكار والتقدم التكنولوجي، مثل مؤشر الابتكار الذي تصدره المنظمة العالمية للملكية الفكرية، ومؤشر الجاهزية التكنولوجي­ة الذي يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي ومؤشر الحكومة الإلكتروني­ة، الذي يصدر عن البرنامج الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة(1).

في المقابل، تُثار مجموعة من الانتقادات حول المنهجية التي تستخدمها هذه التقارير والمقاييس، ترتبط بمدى مصداقية نتائجها ودقة المعايير والمؤشرات التي تعتمد عليها في تقييم أداء دول العالم، فضاً عن مدى مصداقية نتائج استطاعات الرأي للخبراء ورجال الأعمال، ونتائج تقارير دولية أخرى في التعبير عن واقع الظاهرة موضع القياس في الدولة وهو ما يفرض حالة من الجدل حول حيادية هذه المؤشرات نتيجة تسييس نتائج بعضها للضغط على دول بعينها، أو إثارة جدل مجتمعي حول مستويات التنمية والتقدم والحكم الرشيد، وهو ما يؤكد ضرورة الحرص في الاعتماد على نتائج المؤشرات الدولية وضرورة تقييم منهجية كل منها(2،( إلى جانب أهمية مخاطبة حكومات الدول للجهات المصدرة للتقارير للتيقن

من مصداقية تصنيفها في المؤشرات بالتأكد من المقاييس المستخدمة في المؤشر.

ثانياً: اإ�سكاليات م�سادر البيانات

تتمثل أهم الإشكاليات التي تثار بشأن التقارير والمقاييس العالمية في مدى دقة ومصداقية مصادر البيانات التي تعتمد عليها، حيث تتنوع تلك المصادر بين البيانات والإحصاءات الرسمية التي تصدرها الدولة ونظيراتها التي تصدرها المنظمات الحكومية والغير الحكومية الدولية، مثل منظمات حقوق الإنسان والمراكز البحثية العالمية، وعلى الرغم من الاختاف بين تلك المصادر وتفاوت مصداقية البيانات التي تصدرها كل منها، فإن المقاييس الدولية تقوم بتجميعها ضمن أدوات أخرى لجمع البيانات.

فعلى سبيل المثال، يعتمد تقرير التنافسية الدولية في 25% من مؤشراته على البيانات والإحصاءات الصادرة عن جهات رسمية محلية ودولية في مقابل 5% من المؤشرات يتم استخاصها من تقارير البنك الدولي، خاصة تقرير "ممارسة أنشطة الأعمال" وهو ما يثير ماحظات حول الازدواجية الحسابية في استخاص نتائج المؤشرات، فضاً عن تفاوت مصداقية وحيادية ودقة التقارير الرسمية المحلية والدولية تبعاً للجهة التي أصدرت التقرير، ومدى تعبيرها عن الواقع(3).

على مستوى آخر فإن البيانات الرسمية الحكومية التي تعتمد عليها أغلب المؤشرات الإحصائية، على الرغم من كونها المصدر الأهم والأكثر دقة، فإنها تتفاوت من حيث درجة تعبيرها عن واقع الدولة بمدى حياد عمليات جمع وتحليل البيانات في الدولة وابتعادها عن التسييس المتعمد، خاصة في بعض الدول النامية، التي تتعمد النظم السياسية الحاكمة بها التاعب في البيانات لتعزيز شرعية نظام الحكم، وقدرته على تحقيق إنجازات ملموسة، وتتمثل أهم تلك الممارسات فيما يلي: 1- تغيير سنة الأساس عند المقارنة، بحيث تخدم نتائج الجهة، إما بالزيادة أو النقص أو إلغاء المقارنة إذا كانت النتائج في غير صالحها، والاكتفاء بالرسوم البيانية التوضيحية لسنة واحدة. 2- إخفاء نوعية البيانات ودلالاتها وعرضها على هيئة أرقام كمية، أو القيام بالاختيار الانتقائي لأساليب القياس الإحصائي الذي يخدم مصلحتها فقط، خاصةً في ظل تعدد الجهات المسؤولة عن الإحصاء(4). 3- العمل على زيادة الأرقام الكمية بشكل جزافي ومن دون وجود إحصاءات حقيقية بسبب ضغوط الإدارة لرفع قيمة الأرقام. 4- قد تعمد بعض الجهات الحكومية للتوظيف الموجه للبيانات من خال عبارات تحمل دلالات قيمية، مثل القول إن سبب الزيادة في إحصائية معينة هو انتهاج الإدارة لأساليب وسياسات حديثة أدت إلى هذه الزيادة، وفي حالة وجود تراجع فإن غياب المقارنة المرجعية يجعل من الممكن إخفاء البيانات واعتبارها تقدماً عن أعوام سابقة. 5- تقوم بعض الجهات بإهمال الوزن النسبي أو الأهمية النسبية لبعض البنود، ويتم حساب البيانات بصورة إجمالية

وبشكل يظهر زيادة إجمالية في الإحصائية)5).

ثالثاً: ت�سيي�ض المفاهيم المركزية

على الرغم من الدقة والحياد المفترض في تقارير ومقاييس المؤسسات الدولية، فإن بعضها يحمل تحيزاً قيمياً بداية من العنوان، مروراً بمنهجية الحساب والتوصل للنتائج، وانتهاءً بآليات نشر النتائج دولياً مما يجعل نتائجها غير دالة ولا يمكن الاعتماد عليها؛ نظراً لافتقادها الحياد المفترض بحثياً.

وتعمد بعض التقارير الدولية لاعتماد على مفاهيم تنطوي على انحيازات سياسية، فمثاً دأبت مجلة الفورين بوليسي الأمريكية، بالتعاون مع صندوق السام العالمي (Global Fund For Peace ) على إصدار مؤشر الدول الفاشلة سنوياً منذ عام 2005 لقياس مدى إخفاق الدول في أداء وظائفها الأساسية، بيد أن الإصدار الأخير للمؤشر في يوليو 2014 قد تعرض لتغير جوهري بتغيير مسمى المقياس إلى "مؤشر الدول الهشة" (Fragile States Index ) بهدف مواجهة الانتقادات الأكاديمية المتصاعدة حول الدلالة السلبية للمفهوم وعدم قابليته للتعميم، فضاً عن التركيز على مدى تماسك الدولة وقدرتها على البقاء باعتباره الهاجس الأكثر خطورة بالنسبة لدول العالم بالمقارنة بمدى قدرة الدولة على الوفاء بوظائفها الأساسية.

وفي السياق ذاته لاتزال قضايا حقوق الإنسان تثير جدلاً متصاعداً باعتبارها من أهم مكامن التدخل الدولي في الشؤون الداخلية وتدويل القضايا الوطنية، ومن ثم فإن مؤشرات متعددة قد تصنف في فئة المؤشرات ذات الانحيازات السياسية مثل مؤشر "حرية الصحافة" الذي تصدره مؤسسة "مراسلون با حدود" و"مؤشر "الحرية في العالم"، الذي تصدره مؤسسة فريدوم هاوس (Freedom House ) ومؤشر "العبودية الحديثة" الذي تصدره منظمة سيروا أحراراً (Walk Free Foundation)، والتي تركز على ممارسات الاتجار بالبشر والعمل القسري في إطار مفهوم أثار جدلاً غير مسبوق حول مدى اتصافه بالعلمية والحياد وقابليته للقياس بصورة دقيقة في ظل ارتباط هذه الممارسات بأنشطة إجرامية، لا يمكن التحقق على سبيل اليقين من نطاقها، ومدى التغير في كثافتها(6).

رابعاً: �سعف دلالة الموؤ�سرات

يفترض في التقارير والمقاييس الدولية أنها تسعى لتجسيد الواقع بصورة إحصائية دقيقة تعكس الثبات والتغير في الظاهرة موضع القياس ومن ثم يُفترض أن يتم تحويل المفاهيم لأرقام ونسب تعكس المؤشرات بصورة أكثر دقة، إلا أن هذه العملية عادة ما يشوبها قدر كبير من الانحراف عن الغاية الأساسية، فيتم انتقاء مؤشرات غير دالة على الظاهرة، ولا يمكن الاعتماد عليها لقياس التغير في المفاهيم التي تسعى التقارير لقياس التفاوت بين الدول في مستواها. فعلى سبيل المثال، يعتمد مقياس التنمية البشرية (Human Developmen­t Index ) الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على عدد السنوات التي يقضيها الشباب في الدراسة كمقياس على جودة التعليم، والسنوات المتوقعة للعمر عند

الولادة كمقياس على جودة الخدمات الصحية، ومتوسط دخل الفرد في الدولة كمقياس للرفاهية الاجتماعية، من دون النظر إلى جودة الخدمات المقدمة للمواطنين في كل دولة.

كما يعتمد تقرير التنافسية العالمي في 70% من مؤشراته الفرعية المستخدمة لقياس مدى قدرة الدولة على المنافسة والابتكار والتطوير على استطاعات رأي للمديرين التنفيذيين للشركات باعتبارها مقياساً لرؤى رجال الأعمال لاقتصاد الدولة، وكما سبقت الإشارة، فإن الاعتماد على هذه النوعية من البيانات عرضة للعديد من أوجه القصور، لارتباطها بالظروف التي تتم فيها الاستقصاءا­ت، حيث تقيس آراء شخصية تتأثر بالحالة المزاجية للمستجيبين أنفسهم، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، حيث يعتمد المؤشر بصورة شبه أساسية على استطاعات الرأي( ).

أما مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال الذي يصدره البنك الدولي فإنه يستند إلى عدة مصادر للمعلومات منها استبيانات تتم تعبئتها من قبل خبراء بالجهات المعنية بالأجهزة الحكومية والقطاع الخاص، خاصةً شركات الخبرة والاستشارا­ت في الدول التي يتم بها التقييم، إضافة إلى مراجعة القوانين والأنظمة ذات الصلة. فبعد دراسة القوانين والإجراءات الحكومية والمعلومات المتوفرة بشأن الإجراءات والنظم لكل مجال، يقوم الخبراء المحليون باستيفاء البيانات المطلوبة والتحقق من دقتها. والواقع أن نحو 72% من البيانات المكونة للمؤشرات المختلفة تعتمد على قراءة ومراجعة القوانين، بينما يشارك أكثر من 13000 خبير في استكمال الاستقصاءا­ت في المجالات الفرعية المختلفة( ومن ثم تتمثل أوجه القصور في المقياس فيما يلي: 1- إن جميع البيانات المتضمنة في التقرير يتم تجميعها بالقياس على أكبر مدينة في الدولة )والتي قد تختلف أحياناً عن العاصمة( وهو ما لا يشترط أن تمثل باقي الأقاليم في الدولة. 2- البيانات تعبر في الغالب عن شكل قانوني واحد من الشركات )شركة ذات مسؤولية محدودة(، في حين أن طبيعة التعامل القانوني مع الشركات يختلف وفقاً لاختاف الشكل القانوني لكل شركة. 3- افتراض تساوي كل الشركات في المعرفة وتوفر المعلومات، عنصر قياس غير موضوعي لا يمكن الاعتماد عليه لقياس كفاءة التنفيذ في الشركات نتيجة عدم توافر المعلومات بنفس القدر في كل شركة. 4- مؤشرات "الوقت المستغرق" لإتمام الأعمال تعتمد بشكل كلي على تقديرات المستجيبين، والتي كانت تتباين بشكل ملحوظ في بعض الحالات، وهو ما كان يتم تصحيحه باستخدام الوسيط الحسابي للتقديرات المختلفة. 5- عدم مراعاة التفاوت بين الدول ووضع جميع الدول في سلة واحدة بغض النظر عن وضعها الاقتصادي وتطور البنية الأساسية الإدارية والتكنولوج­ية بها. 6- عدم تساوي عدد الخبراء المشاركين في استطاعات الرأي بالدول، فنحو 18% من الدول المتضمنة بأحدث إصدارات التقرير شارك بها ما لا يزيد على خبيرين، بينما يتم تمثيل دول أخرى باستطاع رأي أعداد أكبر من الخبراء، حتى في الدولة الواحدة يختلف عدد المشاركين في تعبئة استقصاءات الرأي حسب مجال التقييم( ).

وفي السياق ذاته يعتمد مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية على مجموعة من الاستقصاءا­ت لمجموعة متنوعة من المؤسسات بكل دولة، والواقع أن اعتماد المؤشر على هذه المنهجية من ناحية يتسق مع طبيعة الموضوع نفسه، حيث لا يمكن أن توجد بيانات رسمية أو غير رسمية موثقة عن الفساد، ولكن يؤدي إلى قصور مبدئي في النتائج، وهو ما يؤكده القائمون على إصدار التقرير بالتنويه بأن المؤشر يعبر عن "التصورات" بشأن مدى انتشار الفساد، وتحديداً الفساد الإداري والسياسي، ولا يعتبر هذا المؤشر مقياساً للفساد في الدول التي يتضمنها المؤشر.

من ناحية أخرى، فإنه بالنظر إلى قائمة المؤسسات التي يتم استطاع رأيها، فتوجد بها مجموعة من المؤسسات التي تقوم بإصدار مؤشرات خاصة بها، كالمنتدى الاقتصادي العالمي ومؤسسة فريدوم هاوس، وهو ما يثير التساؤل عن ارتباط هذه المؤشرات مع بعضها البعض، وتأثيرها على المؤشر الإجمالي، وبشأن حساب نتيجة المؤشر، فإن هناك - بخاف قيمة المؤشر النهائية - بيانين أساسيين ينبغي الاهتمام بهما عند تقييم مواقف الدول: 1- عدد المصادر: وهو يشير إلى عدد التقارير المستخدمة لاحتساب مؤشر الفساد، وفي عام 2014 كان عدد المصادر يبلغ 12 تقريراً كحد أقصى لبعض الدول، ويبلغ 3 تقارير كحد أدنى لتضمين دولة ما في المؤشر، وهو ما يؤكد مدى التفاوت في دقة تقييم مستوى النزاهة في الممارسات الحكومية داخل الدولة وفق مدى توافر المصادر. 2- نطاق الثقة: وهو الهامش الذي يعبر عن احتمالات الزيادة أو النقصان في قيمة المؤشر المحددة لكل دولة نتيجة تفاوت حجم ومصداقية البيانات التي تجمعها المنظمة من دولة لأخرى وكلما زادت درجة الثقة المفترضة في المؤشر، كانت المصداقية المفترضة في البيان أعلى، ومن ثم إمكانية الاعتماد عليها في التعبير عن أوضاع الدولة( ).

خام�ساً: ق�سور منهجية الح�ساب

تعتمد أغلب التقارير والمقاييس الدولية على تجميع البيانات والإحصاءات الخاصة بمؤشرات فرعية متعددة لقياس الظاهرة، ومن ثم تتجلى إشكالية التوفيق بين بيانات مختلفة في طبيعتها

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates