Trending Events

مصالح حيوية:

الأبعاد التاريخية والاستراتي­جية للأزمة الروسية - الأوكرانية أولجبك كازانوف

-

أصبحت آخر تطورات الأزمة الأوكرانية على قمة اهتمامات السياسة الدولية، وغطت على غيرها من القضايا المهمة، سواء كان الانهيار الكبير في أسعار النفط، أو الكساد الاقتصادي المزمن لمنطقة اليورو، أو أزمة الاقتصاد الروسي التي تتفاقم مع مرور الوقت.

ومن الملحوظ أن المتابع للأزمة الأوكرانية يكتشف وجود استقطاب إعامي حاد ما بين الإعام الغربي والروسي حول تغطية وتفسير الأزمة الروسية – الأوكرانية، والتي تنعكس في وجود وجهتي نظر متناقضتين حول طبيعة العاقات الثنائية وأسباب الصراع بينهما.

إن التحليل الدقيق للعاقات الثنائية الروسية – الأوكرانية في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي، يكشف عن وجود مشكات حقيقية في العاقات بينهما، وبعيداً عن المبالغات السياسية، فإن هناك تضارباً في المصالح القومية للبلدين، ولعل الموقف من توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً يشكل مثالاً واضحاً على هذا التباين في المصالح القومية والجيواستر­اتيجية لكا الطرفين.

وسوف تتم الإشارة في البداية إلى البعد التاريخي للعاقات بين البلدين لفهم أعمق لأبعاد الصراع الروسي – الأوكراني، بالإضافة إلى توضيح الأهمية الاستراتيج­ية لأوكرانيا بالنسبة لموسكو، وتأثير الأزمة على عاقات الطاقة بين البلدين، وذلك لاستشراف مستقبل الأزمة الروسية – الأوكرانية وتداعياتها.

اأولاً: البعد التاريخي في علاقة البلدين

من الملحوظ أن اختاف المدركات التاريخية النابعة من التاريخ الطويل الممتد بين البلدين، والمختلف عليه قد لعب دوراً في

الصراع، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك معاهدة بيرياساف، التي تم توقيعها في العام 1654، والتي هدفت لتوحيد دولة هتمان القوزاق (أوكرانيا) مع روسيا القيصرية، وهي الاتفاقية التي جعلت أوكرانيا جزءاً لا يتجزأ من روسيا القيصرية منذ القرن السابع عشر، وعلى مدار 360 عاماً.

ويتم الاستناد لهذه الحقائق التاريخية كحجة للمطالبين بإعادة أوكرانيا إلى الهيمنة الروسية، ولكن في حقيقة الأمر، فإن الجزء الشمالي والشرقي من أوكرانيا هي التي كانت تتبع روسيا.

فقد أدى توقيع صلح أندروسوفو في عام 1667 إلى تقسيم أوكرانيا بين كل من روسيا وبولندا على طول نهر دنيبر، ولم تتمكن روسيا كم السيطرة على بقية الأراضي الأوكرانية، إلا في العقدين الأخيرين من القرن الثامن عشر، وذلك باستثناء منطقة غاليسيا، التي أصبحت جزءاً من النمسا في العام 1772، وبقيت كذلك حتى هزيمة الإمبراطور­ية النمساوية المجرية في العام 1918، بنهاية الحرب العالمية الأولى.

وبالإضافة لما سبق، فإن منطقتي أوديسا والقرم في جنوب أوكرانيا لم تكونا تاريخياً جزءاً من أوكرانيا، فكنتيجة للحرب بين روسيا وتركيا، أصبحت هذه المناطق جزءاً من الإمبراطور­ية الروسية في نهاية القرن الثامن عشر، وفي

الوقت نفسه، فإن منطقة غاليسيا وبوكوفينا وترانس كارباثيا لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من الإمبراطور­ية الروسية، بل تم ضمها إلى روسيا بموجب قرار من جوزف ستالين أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد أن كانت تتبع كل من تشيكوسلوفا­كيا والمجر.

وتم توحيد منطقة غرب أوكرانيا مع الجزء السوفييتي من أوكرانيا في العام 1939، فقد كانت غرب أوكرانيا تتبع بولندا، وفي هذا الإطار يمكن فهم أسباب التوتر الداخلي في المجتمع الأوكراني، والتي تجعل من شرق أوكرانيا موالياً لروسيا، في حين أن غربها يطمح لتعميق التعاون مع الدول الغربية، وهذا العامل سيكون أحد العوائق أمام تأسيس دولة أوكرانية موحدة.

وبالإضافة لما سبق، فإن هناك عوامل أخرى تعمق من هذا الانقسام، والذي لا يقف عند العوامل التاريخية سابقة الذكر، ولا حتى في الاختافات الثقافية والإثنية واللغوية، بل تمتد لتشمل الجانب الديني، ذلك أن الأغلبية الساحقة من سكان روسيا مسيحيون أرثوذكس، في حين أن الأوكرانيي­ن، منذ القرن السادس عشر، يتبعون المذهبين الأرثوذكسي والكاثوليك­ي، وهو ما يعود لحقيقة أن المناطق المختلفة من أوكرانيا خضعت، في أزمنة مختلفة، لدول مختلفة كروسيا وبولندا وتشيكوسلوف­اكيا والمجر ورومانيا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أوكرانيا تحافظ على عاقات جيدة مع جيرانها المباشرين، أي بولندا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا والتشيك، وعلى الرغم من أن رومانيا تطالب باستعادة أراض هي الآن تحت السيادة الأوكرانية، فإنها لا تشكك على الإطاق في أن أوكرانيا دولة مستقلة.

وبالنسبة إلى روسيا، يشمل مصطلح "الخارج القريب" (Near Abroad ) الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي عقب انهياره، والذين أصبحوا الآن أعضاء في "رابطة الدول المستقلة"، وذلك باستثناء كل من أوكرانيا وجورجيا، وهي تضم بلداناً لا تجمع بينهم قواسم مشتركة كثيرة (مثل مولدوفا وأرمينيا وطاجيكستان)، سوى أنهم كانوا جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق.

وبالنسبة إلى أوكرانيا، يشير مصطلح "الخارج القريب" إلى بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، والتي لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وبذلك تتضح مكانة أوكرانيا في الخريطة السياسية لأوروبا، وفي الجهود الغربية لاحتواء روسيا، خاصة أن أوكرانيا من الناحية الجيوسياسي­ة، تعتبر جزءاً لا يتجزأ من منطقة أوروبا الوسطى والبحر الأسود وترتبط بهما ارتباطاً وثيقاً.

ويرتبط بهذا دعم موسكو للجاليات الروسية المقيمة في الخارج، والتي تعد من أولويات الحكومة الروسية، خاصة في ظل وجود أقليات روسية في كل دول الاتحاد السوفييتي السابق، والتخوف من توظيف روسيا لهم كوسيلة للهيمنة على دول الاتحاد السوفييتي السابق، ولا ينطبق هذا الأمر على أوكرانيا وحدها، بل على إستونيا وبياروسيا وكازاخستان وبعض البلدان الأخرى، حتى أن بعض المحللين الروس يعتقدون أنه ينبغي على روسيا أن تتعامل مع حقيقة أن أوكرانيا غدت دولة مستقلة .

وفي سياق التفكير في نماذج السلوك الممكنة لضمان السام في عاقاتهما الثنائية، سيكون من المفيد أن نشير إلى تجربة بناء الثقة في عاقات، مثل العاقات الكندية- الأميركية، والعاقات الأميركية -البريطانية، والعاقات الفنلندية- النرويجية وغير ذلك.

ثانياً: اأهمية اأوكرانيا الا�ستراتيجية لرو�سيا

ترتبط أهم القضايا الخافية بين البلدين بتمركز الأسطول السوفييتي في قاعدة سيفاستوبل البحرية في جزيرة القرم، والتي تنبع أهميتها من حقيقة أن السيطرة عليها تعني التحكم في البحر الأسود والمناطق المطلة عليه، ولذلك حرصت روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991 على إبقاء أسطولها بالبحر الأسود هناك، وذلك عن طريق إبرام اتفاقيات مع الحكومات الأوكرانية المتعاقبة، كان آخرها تلك الموقعة في أبريل 2010 بين الرئيس الروسي آنذاك دميتري مدفيديف والرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، والتي تقضي ببقاء الأسطول البحري الروسي في القرم لغاية عام 2042 مقابل دفع روسيا مبلغ 100 مليون دولار سنويا وتنزيل سعر الغاز المصدر إلى أوكرانيا بنسبة 30 .%

ولذلك فإنه إذا كانت جزيرة القرم ذات أهمية جيواستراتي­جية لأوكرانيا، فإنها تدخل في الوقت ذاته في نطاق المصالح الحيوية الروسية، التي لا يمكن لها التنازل عنها، ولعل هذا ما دفع الرئيس الروسي فاديمير بوتين لضم الجزيرة، على الرغم من إدراكه جيداً الانعكاسات السلبية لتلك الخطوة على عاقته بالدول الغربية.

ومن ناحية أخرى، فإن العديد من الأسلحة الروسية تم إنتاجها من قبل المصانع العسكرية الأوكرانية، ومن ذلك محركات طائرات الهليكوبتر الروسية القتالية، وكذلك محركات العديد من السفن الحربية الروسية، بالإضافة إلى حوالي نصف الصواريخ جو – جو التي تحملها المقاتات الروسية، ويمتد هذا الاعتماد ليشمل الصواريخ الاستراتيج­ية الروسية، فأغلب رؤوس الصواريخ الروسية يتم إطاقها من خال صواريخ يتم إنتاجها، إما بصورة جزئية أو كلية، في مصانع أوكرانية.

ويضاف لما سبق حقيقة أن أكثر من نصف مكونات الصواريخ الباليستية العابرة للقارات تنتج في أوكرانيا، وهي تستطيع أن تحمل حوالي 80% من الرؤوس الحربية الروسية، كما تقوم بالفحص الدوري للصواريخ الاستراتيج­ية الروسية

إن الموقف المتشدد الذي تتخذه كل من الولايات المتحدة وأوروبا من روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، يمكن أن يدفع الأولى لاتخاذ خطوات أكر حدة وتشدداً، خاصة أن العلاقات الروسية – الأوكرانية تبدو شديدة الأهمية بالنسبة لروسيا عما تبدو عليه للوهلة الأولى.

من أجل التصديق عليها في الخدمة(1).

ولعل المثال الأبرز على ذلك مجمع يوزماش الصناعي الضخم (Yuzhmash) في أوكرانيا الذي يعد جزءاً من المصانع الاستراتيج­ية لاتحاد السوفييتي السابق، حيث كان أحد المؤسسات الهندسية الرئيسية لإنتاج منظومات الصواريخ السوفييتية الباليستية العابرة للقارات من طراز إس إس 17 (المعروفة باسم سبانكر (Spanker()، وكذلك منظومة صواريخ إس إس18 (المعروفة باسم ساتان (Satan() ومنظومة صواريخ إس إس27 (المعروفة باسم سيكل – ب )Sickle B ()، وتبلغ الطاقة الإنتاجية السنوية لهذا المجمع 120 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات، وقد اعتمد الحفاظ على التوازن الاستراتيج­ي ما بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، ولاحقاً روسيا والولايات المتحدة على إنتاج هذا المصنع، وذلك بفضل الإمكانيات الهندسية والتكنولوج­ية التي يتمتع بها هذا مجمع الصناعي، وقد أصبح هذا المجمع مشلولاً الآن بدرجة كبيرة بسبب الأزمة الحالية، وما زال من غير الممكن التنبؤ بمستقبله.

ثالثاً: علاقات الطاقة بين البلدين

تعتمد أوكرانيا في استهاكها من الطاقة والوقود، في الوقت الحالي، على روسيا، وقد أصبح مستقبل تطور قطاع الطاقة (الفحم، الطاقة النووية والطاقة المائية) مهدداً في ضوء الأزمة السياسية والأمنية والاقتصادي­ة التي تعانيها أوكرانيا.

ومن الملحوظ أن التنمية المستدامة لاقتصاد أوكرانيا تعتمد على استيراد موارد الطاقة، أي النفط والغاز بالدرجة الأولى، من الخارج، وبحسب خبراء شركة بيكر تيللي لاستشارات، فإن الغاز الطبيعي يشكل الجزء الأكبر من احتياطات الطاقة في أوكرانيا (بنسبة تبلغ حوالي 40%)، لكن إنتاج الباد لا يغطي إلا حوالي ثلث الاستهاك المحلي من الغاز الطبيعي، وإذا تم ضخ استثمارات مائمة، فإن أوكرانيا ستكون قادرة على تلبية احتياجاتها من الغاز الطبيعي اعتماداً على مواردها الذاتية، وبالتالي لن تبقى مجبرة على الاستمرار في اعتمادها على استيراد الغاز(2).

وهنا أيضاً ينوّه الخبراء بأنه في الأعوام ال 15 الماضية، كان حجم إنتاج الغاز الطبيعي يتراوح ما بين 18 و21 مليار متر مكعب سنوياً، ووفقاً لمسودة استراتيجية الطاقة في أوكرانيا، فإنه يتوقع أن يزيد إنتاج الغاز الطبيعي ليصل إلى 44.4 مليار متر مكعب، وهو ما سيغطي 90% من حجم الاستهاك المحلي للباد(3).

وعلى أية حال، فإنه في ضوء الأزمة الأوكرانية، وحالة انعدام اليقين المصاحبة لها، فإن إمكانية التوسع في إنتاج الطاقة من الموارد المحلية يبدو أمراً مستبعداً في المستقبل القريب، وبالإضافة لما سبق، فإن مساعي استخراج النفط والغاز الصخريين من جرف بحر آزوف ومن البحر الأسود، لم تأت حتى الآن بأية نتائج ملموسة، وأخيراً فإن إمكانية استخدام مشاريع تكرير النفط في أوكرانيا لا تبدو واعدة اليوم، خاصة مع تراجع طاقتها الإنتاجية لها بنسبة 25.%

ولذلك فإن الوضع الحالي لأوكرانيا في قطاع الطاقة يجعلها لا تفكر سوى في تنويع مصادر الطاقة، خاصة من الغاز الطبيعي، لتقليل الاعتماد على روسيا في هذا المجال، وكانت أحد أهم البدائل التي فكرت فيها أوكرانيا هو الاعتماد على استيراد الطاقة من دول آسيا الوسطى، خاصة أذربيجان وكازاخستان وتركمنستان.

وعلى الرغم من كل التحديات التي تواجهها أوكرانيا، فإنها ستبقى الدولة الأكبر والأقوى اقتصادياً في منطقة الاتحاد السوفييتي السابق بعد روسيا التي تعتبر أهم شريك تجاري لها، وهو الأمر الذي يؤثر كثيراً في الوضع الاستراتيج­ي في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى.

الخاتمة

يذكّرنا الكثير من الخبراء بالفكرة الجوهرية التي طرحها زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، حول أهمية أوكرانيا في "احتواء التوسع الروسي"، خاصة أنه في العديد من الدراسات الغربية، تعتبر أوكرانيا هي الثقل الموازن لروسيا(4،( وفي سياق التقارب مع حلف شمال الأطلسي، الناتو، فإن هناك مخاوف أوكرانية جدية من أنها سوف تلعب دوراً تكون فيه بمنزلة "المنطقة العازلة" بين روسيا وبقية أوروبا، وهو ما قد لا يتيح لها التمتع بثمار التعاون سواء مع روسيا أو مع الدول الغربية.

ومن الملحوظ إن الموقف المتشدد الذي تتخذه كل من الولايات المتحدة وأوروبا من روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، يمكن أن يدفع الأولى لاتخاذ خطوات أكثر حدة وتشدداً، خاصة أن العاقات الروسية – الأوكرانية تبدو شديدة الأهمية بالنسبة لروسيا عما تبدو عليه للوهلة الأولى(5).

وأخيراً، فإنه يمكن القول إنه في سياق الوضع الحالي، تكاد تختفي أي مؤشرات على إمكانية تطبيع العاقات الروسية – الأوكرانية في المستقبل القريب، خاصة في ظل انعدام الثقة بينهما وحالة المواجهة والعداء، فضاً عن المساعي الغربية الحثيثة لإبعاد أوكرانيا عن دائرة النفوذ الروسي، والتلويح الغربي بإمكانية دعم الغرب لأوكرانيا عسكرياً في مواجهة ما تراه دعماً روسياً للمتمردين في شرق أوكرانيا.

 ??  ??
 ??  ?? أولجبك كازانوف أستاذ مشارك بجامعة الاقتصاد العالمي والدبلوماس­ية، قسم العلاقات الدولية،
أوزباكستان
أولجبك كازانوف أستاذ مشارك بجامعة الاقتصاد العالمي والدبلوماس­ية، قسم العلاقات الدولية، أوزباكستان

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates