Trending Events

تقارب حذر:

أبعاد ومستقبل عودة العلاقات الأمريكية - الكوبية كاتي ماريا سولورزانو سيدينيو

- كاتي ماريا سولورزانو سيدينيو باحثة علوم سياسية

اأولاً: الخلفية التاريخية لل�سراع

لا يمكن فهم أبعاد الصراع بين الولايات المتحدة وكوبا، والتي دفعت واشنطن لفرض حظر اقتصادي ضد كوبا بعد انتصار الثوار الكوبيين، من دون فهم الخلفية التاريخية، واستياء فيدل كاسترو على السلطة في 1959، بعد أن هزم فولجنسيو باتيستا، الرئيس الكوبي )1940 – 1944( الذي وصل إلى الحكم في 1952 بانقاب أطاح رئيس الباد كارلوس بريو سوكارس.

وكان باتيستا معروفاً بأنه "رجل أمريكا في هافانا الذي يحمي مصالحها")1،( فأثناء فترة توليه الحكم، تردت الأوضاع الاجتماعية، فضاً عن استخدامه القمع الوحشي تجاه أي حركات احتجاجية ضده، كما قام باتيستا بتسهيل سيطرة الشركات الأميركية على الصناعات الكوبية، واستعان في ذلك بشخصيات عامة ساعدته على مأسسة الفساد.

وفي هذه الفترة، زاد اعتماد القطاع الصناعي الكوبي على الولايات المتحدة، حيث كان 80% من الصادرات الكوبية تتجه إلى الولايات المتحدة، فقد سيطرت الشركات الأميركية على صناعة السكر وقنواتها التصديرية، وكذلك على خامات النيكل والمطاط، بالإضافة لسيطرتها على قطاع الاتصالات وغيرها من القطاعات الاقتصادية الأخرى.

وقد قدرت حجم الرشوة التي يتلقاها باتيستا بما يعادل 30% من قيمة العقود التي كان يقوم بإرسائها على شركات بعينها، وكان كل ذلك يتم في جو من الفقر الذي كان مستشرياً، خاصة في المناطق الريفية، ولعل ما يوضح مدى عمق التعاون الأمريكي – الكوبي يتمثل فيما عرف ب "تعديل بات" على الدستور الكوبي، والذي تم توقيعه في العام 1901، والذي بموجبه ضمنت الولايات المتحدة الأميركية التدخل في الشؤون الكوبية، ومن ذلك تحكم واشنطن في الدين العام والمعاهدات التجارية الكوبية، فضاً عن الاحتفاظ بحق التدخل لحماية حياة وأماك واستمرار الحكومة العسكرية الكوبية، بالإضافة لسيطرتها على القواعد البحرية لفترات طويلة(2).

وعلى الرغم من أن الطبقة العليا الكوبية، في فترة ما بعد الاستعمار، رأت أن "النموذج" الأميركي هو السبيل الوحيد للتحديث، فإن أبناء هذه الطبقة، التي ولدت بعد الاستقال، رأت أن فرص مشاركتهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعي­ة لبادهم محدودة، وبالتالي فقد كانت السيطرة الأمريكية على مناحي الحياة الكوبية قائمة حتى بعد زوال احتالها الرسمي للجزيرة.

وياحظ أن بلدان أميركا الاتينية جربت كل أشكال الحكم المختلفة، لكن العقبة التي ظلت تواجه دول القارة هي ظاهرة "عدم الاستقرار"، والتي تعود إلى أن الاستقال قام بتغيير النظم السياسية في أمريكا الاتينية من خال النص على شكل الحكومة في الدساتير الجديدة، لكنه لم يغير الواقع المجتمعي، والذي ظل يتسم بالطابع الهيراركي، من حيث استئثار القلة بالثروة والسلطة، والذين كانوا بمنزلة امتداد للمستعمر الأجنبي(3،( فقد كان قادة أميركا الاتينية، سواء كانوا أمراء حرب أم زعماء ثوريين، يتمتعون بسلطات مطلقة، ولذلك عجزوا عن تغيير المجتمع تغييراً هيكلياً.

ونجد أن الحالة الكوبية تمثل استثناءً لهذه القاعدة، فقد استطاعت الثورة الكوبية إحداث تغير اجتماعي، فالمثل العليا التي حملها الثوار بقيادة فيدل كاسترو كانت شرعية، فقد كانوا يدافعون عن السيادة التي اغتصبت منهم، فضاً عن سعيهم لاستعادة تكافؤ الفرص، والتوزيع العادل للموارد التي ضمنت الحد الأدنى من الرفاه الاجتماعي لكل المواطنين.

ثانياً: الدوائر الاأمريكية وعودة العلاقات

ربما يكون إعان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن إعادة العاقات الدبلوماسي­ة مع كوبا هو الخبر الأهم في مجال السياسة الخارجية الأميركية خال العقد الأخير، غير أنه، ومع ذلك، فإن هذا التطور مهم للغاية بالنسبة إلى كوبا، خاصة مع وجود توقعات بأن يعقب ذلك رفع الحظر المفروض عليها.

وقد قام الزعيمان الكوبي والأميركي بخطوات رمزية لكي يؤكدا عزمهما فتح صفحة جديدة في العاقات بينهما، فالتعديات التي أدخلتها إدارة أوباما على قانون مراقبة الأصول الكوبية وقانون إدارة الصادرات تبعث على الاعتقاد بأنها ستكون بداية النهاية للحظر الأميركي الاقتصادي والمالي الذي خضعت له كوبا لأكثر من 50 عاماً، وعلى الرغم من ذلك، فإن القرار الفصل في هذا الشأن ليس للرئيس الأمريكي، بل للكونغرس الأميركي وحده، خاصة أن قانون هيلمز– بورتون، الذي تم إقراره في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، منح الكونغرس صاحية رفض تقديم المساعدات المالية والائتماني­ة إلى البلدان والمنظمات التي ترتبط بعاقات تجارية مع كوبا.

ونظراً لأن مراجعة قرار فرض الحظر هو المفتاح لإقامة عاقات طبيعية بين البلدين، فإنه لا يمكننا الحديث هنا عن "تطبيع العاقات"، خصوصاً إذا ما أخذنا في الحسبان أن هناك جناحاً قوياً من الجمهوريين الرافضين لأي تقارب مع كوبا، وبالإضافة لما سبق، فإن أغلبية الكوبيين المنفيين لا يؤيدون المفاوضات مع كوبا.

ولكن على الجانب الآخر، فإن هناك جماعات مصالح أخرى ممثلة في طبقة رجال الأعمال، الذين لا يسعون فحسب لنجاح المفاوضات مع كوبا، بل ويضغطون من أجل نجاح هذا التقارب، خاصة مع فتح حكومة راؤول كاسترو الباب أمام الاستثمارا­ت الأجنبية، وتقديم تسهيات للمستثمرين، وذلك في الوقت الذي لا يستطيع رجال الأعمال الأمريكيون الاستثمار على الرغم من الفرص الواعدة هناك بسبب القرب الجغرافي بين الولايات المتحدة وكوبا.

فقد شرعت كوبا بإجراء إصاحات مهمة، ولو أن وتيرتها بطيئة، وكان منها استعادة حق الانتفاع بالجزر غير المستثمرة، وتسريح العمال ممن يزيدون على الطاقة الاستيعابي­ة لمؤسسات الدولة، والترويج للعمل في القطاع الخاص، وذلك من أجل توظيف العاطلين عن العمل وتقليص الإنفاق الكبير على الخدمات الاجتماعية، بالإضافة للسماح بالإتجار في السيارات والعقارات، وإصاح النظام الضريبي بإدخال ضريبة الدخل التصاعدية، وتشكل هذه الإجراءات جزءاً من سلسلة إجراءات يجب القيام بها من أجل الحفاظ على بقاء النظام الاشتراكي، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الإصاحات غير كافية، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تخلف كوبا عن العالم الخارجي بحوالي خمسين عاماً.

ولكن على الجانب الآخر، نجحت كوبا في التساوي مع البلدان الأخرى في أميركا الاتينية، بل والتفوق عليهم، فيما يتعلق بمؤشرات الحماية الاجتماعية، فوفقاً لتقرير اللجنة الاقتصادية لأمريكا الاتينية والكاريبي (سيبال) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، والصادر في 2012، فإن الثورة الكوبية نجحت في تقليص تفاوت الأجور والمرتبات، ووفرت التعليم والرعاية الصحية، كما عملت على تحقيق المساواة في الحقوق بين العرقيات المختلفة، ونجحت في الحد من اختال التنمية بين الريف والحضر، بل وأكد التقرير أنه بحلول العام 1980، كانت كوبا هي أكثر بلدان أميركا الاتينية تحقيقاً للمساواة بين البشر، وإن كان هناك بعض الجوانب السلبية التي ترتبت على هذه السياسة، منها تقليص الحافز الفردي وتراجع إنتاجية العمل، كما إنها زادت من معدلات التغيب عن العمل، وهي عوامل أدت في النهاية لتراجع الإنتاج والخدمات.

ويوضح ذلك أنه تم تحقيق العديد من الأهداف التي وضعتها الحكومة الثورية، لكن تفكك الاتحاد السوفييتي كانت له تداعيات كارثية على الاقتصاد الكوبي، كما ساء الوضع الاقتصادي أكثر بسبب إقرار قانون توريشيلي، الذي يحظر على الشركات الأميركية العاملة خارج أميركا من التجارة مع كوبا، بل يمنع السفن التي ذهبت في وقت سابق إلى كوبا حتى من الاقتراب من الموانئ الأميركية، وهو ما يوضح التأثيرات السلبية للحظر الأميركي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعي­ة في كوبا.

وتتمثل بعض التأثيرات الاقتصادية السلبية للحظر الأمريكي في عدم القدرة على الاستفادة من براءات الاختراعات الأميركية في مجال الصناعات الدوائية، فضاً عن صعوبة استيراد الوقود، والدفع نقداً في المعامات التجارية( 4 ).

ثالثاً: هل هو بداية لف�سل جديد في العلاقات؟

يتساءل الكثير من الكوبيين عن النوايا الحقيقية للسياسات

الأميركية حيال بادهم، وتختلف التفسيرات حيال ذلك، إذ يذهب البعض بأن الخطوة الأمريكية جاءت في ظل تراجع نفوذ الولايات المتحدة في منطقة أميركا الاتينية، وأنهم يسعون للحوار مع كوبا من أجل تعزيز موقعهم، والترويج لأنفسهم كبلد يناضل في سبيل الحقوق الديمقراطي­ة للشعب، بينما يرى البعض الآخر أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للتنازل عن هدف إنهاء النظام الشيوعي، وإن اعتمدت وسائل أخرى(5،( في حين يرجع اتجاه ثالث هذا القرار لشخصية الرئيس الأمريكي، وتمتعه بالشجاعة الازمة لاتخاذ قرار لم يتخذه غيره، على الرغم من معرفته بالعواقب السياسية التي قد تنجم عن تلك الخطوة، بينما يرى اتجاه رابع أن أوباما يحاول ترك بصمته قبل أن يترك منصبه، وذلك من خال إعادة العاقات مع كوبا.

من جانبهم، حرص الكوبيون دوماً على عدم إطاق إشارات يتم تفسيرها بأنها تنم عن ضعف، خاصة أن لديهم شكوكاً دائمة بأن الولايات المتحدة الأميركية لن تكف عن محاولاتها الهيمنة على أميركا الاتينية بوجه عام، وكوبا بوجه خاص، وذلك على الرغم من تراجع نفوذها في أميركا الاتينية، ولعل أبرز دليل على ذلك المنظمات الإقليمية الجديدة، مثل كتلة ميركوسور )السوق المشتركة لدول أميركا الجنوبية(، والسياك )منظمة دول أميركا الاتينية والبحر الكاريبي( ومجموعة ألبا )مبادرة البديل البوليفاري لشعوب الأمريكيتي­ن(، وجميعها تكتات إقليمية تهدف لتعزيز الروابط الثقافية والاجتماعي­ة والتجارية بين دول القارة، وقد دخلت كوبا في هذه التكتات التي حققت حاً وسطاً بين الحفاظ عن السيادة الوطنية للبلدان الأعضاء والتخلص من الهيمنة الأمريكية.

كما سيكون لعودة العاقات الأمريكية – الكوبية انعكاسات على العاقات الكوبية– الفنزويلية، خاصة في ضوء دفء العاقات بين البلدين، خاصة أثناء فترة حكم هوغو تشافيز– الرئيس الفنزويلي السابق– وفي ضوء قيام الرئيس الأمريكي بفرض عقوبات على فنزويا لمعاقبة المسؤولين الفنزويليي­ن الذين انتهكوا حقوق الإنسان، وذلك بعد يوم واحد من إعان استعادة العاقات مع حكومة راؤول كاسترو.

ومن وجهة النظر الكوبية، فإن هذا الإجراء يكشف عن ازدواج المعايير الأمريكية، إذ تسعى أمريكا لفرض عقوبات على فنزويا وروسيا لعزلها وإضعاف اقتصاد البلدين، وذلك بغرض كبح العاقات المتنامية بين روسيا وأميركا الاتينية وتحييد نفوذ فنزويا الإقليمي، كما تظن الولايات المتحدة أنها بإعادة العاقات مع كوبا، فإن ذلك سيغري بقية بلدان أميركا الاتينية بإقامة عاقات معها ويدفعها للترحيب بالهيمنة الأميركية(6،( غير أن الولايات المتحدة لن تنجح في تحقيق أهدافها هذه، فقد ثارت دول أمريكا الاتينية ضد العقوبات المفروضة على فنزويا، وأعلنت تضامنها معها.

الخاتمة

في الوقت الحالي، لا يمكن الحديث عن "تطبيع" للعاقات بين الولايات المتحدة وكوبا، بل ينبغي أن نكتفي بالحديث عن "عودة" العاقات بينهما، فتطبيع العاقات يتطلب إلغاء الحظر المفروض على كوبا، وهو أمر سيستغرق وقتاً طوياً، كما أن "التطبيع الكامل" سوف يترك تداعيات كبيرة على الحياة الاقتصادية والعملية والاجتماعي­ة في كوبا(7،( وتواجه الحكومة الكوبية تحديات كبيرة مستقبلية، وعلى الرغم من إجرائها إصاحات ضرورية في السنوات الأخيرة، فإنها لم تكن كافية، ولا ترقى إلى درجة يمكن عندها الحديث معها عن اشتراكية مستدامة، أي الاشتراكية التي تقوم بتحديث نظامها الاقتصادي مع الحفاظ على الإنجازات المجتمعية الكبيرة التي حققتها الثورة.

وقد أخطأ فرانسيس فوكوياما عندما قال إن تفكك الاتحاد السوفييتي كان دلياً واضحاً على انتصار الليبرالية الجديدة، باعتبارها النظام الأفضل بين أنظمة الحكم، فنظام الحكم هذا لم يكن فقط موضع شك من جانب أوروبا، بل بدأ، وللمرة الأولى في تاريخ أميركا الاتينية، النقاش حول شكل جديد لاشتراكية، وهي "اشتراكية العيش الكريم"، حيث يكون الإنسان له الأولوية على أولويات النظام الرأسمالي، حيث يتم توظيف كل إمكانيات نظام السوق لتوليد الثروة وتوظيفها في خدمة التنمية البشرية.

في الختام لا يمكن الحديث عن انتصار الثورة فحسب، ولكن انتصار الكوبيين المؤمنين بمبادئهم، والذين بقوا أقوياء في خضم المحن والمصاعب التي تعرضوا لها، ولذا مهما كانت الدوافع التي دفعت أوباما إلى التفكير في إعادة العاقات الأمريكية – الكوبية، فإنها خطوة ستساهم في تحسين الظروف المعيشية للكوبيين، كما أنها توضح أن حكومات أميركا الاتينية لا تعارض التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، ولكن ترغب في أن يتم ذلك في إطار من التكافؤ والاحترام المتبادل.

نظراً لأن مراجعة قرار فرض الحظر هو المفتاح لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين، فإنه لا يمكننا الحديث هنا عن "تطبيع العلاقات"، خصوصاً إذا ما أخذنا في الحسبان أن هناك جناحاً قوياً من الجمهوريين الرافضين لأي تقارب مع كوبا، وبالإضافة لما سبق، فإن أغلبية الكوبيين المنفيين لا يؤيدون المفاوضات مع كوبا.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates