Trending Events

انخراط دون اعتراف:

كيف تدير الدول علاقاتها مع "الكيانات غير المعترف بها"؟ د. مروة نظير

- د. مروة نظير مدرس العلوم السياسية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية - مصر

أدى صعود الفاعلين من غير الدول لتطوير المجتمع الدولي آليات غير تقليدية لإدارة العلاقات مع الكيانات غير المعرف بها على غرار الأقاليم التي تتمتع بالحكم الذاتي والحركات الانفصالية وبعض التكوينات المجتمعية الأولية والمعارضة المسلحة في الدول المنهارة.

اأولً: اأبعاد التغير في التفاعلت الدولية

لم تعد اعتبارات السيادة والاعتراف الدولي المعايير المركزية في تحديد نطاق التفاعات بين الفاعلين الدوليين، إذ إن الدول لم تعد الفاعل الرئيسي في العاقات الدولية، في ظل تصاعد دور الفاعلين من غير الدول، بحيث باتوا يؤدون أدواراً ذات طابع عابر للحدود موازية للدولة، وهو ما فرض على الدول ضرورة تطوير أدوات للتفاعل مع الوحدات الدولية التي تفتقد الاعتراف الدولي.

ويرتبط هذا التحول بصعود الدور الخارجي لبعض الوحدات الدولية من دون الدول، والتي تفتقد الاعتراف الدولي، ولا يمكن التعامل معها وفق المنطلقات الدبلوماسي­ة التقليدية، ويتجلى هذا الزخم في النشاط الخارجي للوحدات الدولية في قيام مقاطعة كيبك في كندا بعقد اتفاقيات ثقافية واقتصادية مع فرنسا من دون تدخل الحكومة الاتحادية، وفق النظام الفيدرالي المنصوص عليه في دستور عام 1867، وهو الوضع المميز ذاته الذي تتمتع به مقاطعة ألبرتا الغنية بالنفط التي يمكنها التعاقد مع الشركات النفطية بصورة مستقلة عن الحكومة الكندية الاتحادية.

ويمكن ماحظة هذا النزوع لأداء أدوار خارجية من بعض الأقاليم أو الولايات في الدول الاتحادية، مثل ولاية نبراسكا في الولايات المتحدة، التي تقوم بتسويق القمح للمستوردين العالميين، وتقوم بعقد اتفاقيات مباشرة لتصدير القمح، وتولي ولاية أريزونا التعامل مع الهجرة غير الشرعية القادمة من المكسيك بصورة مستقلة، الأمر ذاته ينطبق على مقاطعة بافاريا الألمانية التي تتمتع بوضع خاص في تبادل مكاتب التمثيل الخارجي مع بعض الدول(1).

ولا ينفصل ذلك عن خضوع الاعتراف الدولي في أغلب الأحيان لمواءمات سياسية قد تعرقل تحول بعض الوحدات الدولية التي تمتلك كافة مقومات الدولة إلى كيان معترف به دولياً على غرار تايوان التي لم تتمكن من الحصول على الاعتراف الدولي بسبب رفض الصين استقالها وامتاكها حق الفيتو الذي يمكنها من إجهاض أي قرار أممي لاعتراف الدولي بتايوان عبر مجلس الأمن(2).

وفي السياق ذاته تُعد حكومة كردستان

العراق مثالاً مهماً على وحدة دولية تمارس سيادة في رقعة جغرافية محددة، وعلى شعب متجانس ومستقر، لكنها ليست دولة، لأن المعادلة الإقليمية قادرة على منع الاعتراف الدولي بها، إذ إن إقليم كردستان يمتلك أركان الدولة كافة من دون الاعتراف الدولي، حيث يتبع سياسات اقتصادية مستقلة، ويقوم بتصدير النفط والغاز بمعزل عن الحكومة العراقية، فضاً عن قيام قوات البيشمركة الكردية بوظائف الدفاع عن الإقليم، وتفاوض القيادات الكردية بالإقليم مع مختلف الأطراف الدولية وتبادلها مكاتب التمثيل الدولي مع دول العالم بصورة مستقلة عن الحكومة العراقية.

الأمر ذاته ينطبق على قبرص التركية، التي تتوفر فيها الشروط الثاثة لقيام الدولة، إلا أنها تفتقد الاعتراف الدولي، إذ إن اعتراف تركيا لا يعد كافياً لتحول قبرص لدولة كاملة السيادة، ويعاني إقليم كوسوفو من المأزق نفسه حتى لو اعترفت به معظم دول أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن الإقليم ما زال لا يتمتع بالاعتراف الدولي القانوني على الرغم من تمتعه بما يسمى في القانون "الاعتراف بدولة الأمر الواقع"؛ لأن الفيتو الروسي قادر على وأد المحاولة في المهد(3).

وعلى الرغم من افتقاد تلك الدول أو الكيانات للشرط القانوني المرتبط بمسألة الاعتراف، فإنه لا يمكن إنكار وجودها كحقيقة على أرض الواقع، وهو ما يعني وجود شبكة من العاقات والمصالح والتفاعات تربطها بغيرها من الفاعلين الدوليين، سواء على الساحة الإقليمية أو على المستوى العالمي حتى مع رفض بعض هذه الأطراف الاعتراف بتلك الكيانات.

ثانياً: لماذا تتفاعل الدول مع كيانات غير معترف بها؟

يمكن القول إن الاعتراف الدولي هو مسألة سياسية أكثر منها قانونية؛ فالاعتراف بالدولة أو بالحكومة هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، يتم اللجوء إليه استناداً إلى بعض اعتبارات الماءمة السياسية، وبالتالي فهناك العديد من العوامل أو الاعتبارات التي قد تجعل من دولة ما غير راغبة أو غير قادرة على الاعتراف بكيان دولي آخر، بعض هذه العوامل يرتبط بالمحددات الداخلية، لاسيما التكوين الإثني والعرقي في بعض الدول، فمن غير المتوقع مثاً في حال قيام دولة كردية مستقلة في إقليم كردستان العراق أن يتم الاعتراف بهذه الدولة من قبل دول كتركيا وسوريا وإيران، لاسيما أن تلك الدول لديها أقليات كردية ربما تسعى لانضمام للدولة الوليدة( 4 ).

ومن ناحية أخرى، قد ترغب دولة ما في أن إقامة عاقات دبلوماسية مع أحد الأقاليم الانفصالية مثاً، إلا أن معطيات سياستها الخارجية تدفعها للحذر من استعداء أحد شركائها أو حلفائها الدوليين، ممن لا يعترفون بهذا الإقليم الانفصالي مما يؤدي لتوتر عاقات هذه الدولة مع دول الجوار.

ومن ثم تسعى الدول في كثير من الأحيان إلى تجنب الاتصالات مع مسؤولين من الكيانات غير المعترف بها خوفاً من إعطاء انطباع خاطئ عن موقفها بشأن الاعتراف بمثل هذه الكيانات، ولعل هذا هو ما دفع وزارة الخارجية البريطانية إلى إصدار بيان أكدت فيه أنها لا تعترف بما يسمى "الجمهورية التركية لشمال قبرص"، وأنها لا تعترف– من ثم– بلقب وزير سوى للوزراء الأعضاء في حكومة جمهورية قبرص، وذلك على خلفية الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها من نيقوسيا إثر عقد لقاء خاص بين وزير خارجية الجمهورية التركية لشمال قبرص والوزير البريطاني لشؤون أوروبا، ديفيد ليدنجتون، في مقر مجلس العموم في سبتمبر 2014.

وقد تجلى ذلك أيضاً في عاقات الدول الأوروبية بجمهورية شمال قبرص التركية، فعلى سبيل المثال، شهد منتصف عام 2014، توتراً في عاقات قبرص مع حلفائها من دول الاتحاد الأوروبي بعد تصاعد قلق الحكومة القبرصية إزاء تكرار انعقاد لقاءات واجتماعات بين وزير خارجية جمهورية قبرص التركية وعدد من سفراء دول الاتحاد الأوروبي، ومن ثم قامت الحكومة القبرصية بإرسال رسالة صارمة داعية الدبلوماسي­ين وممثلي الدول الأجانب على أراضيها إلى توخي الحذر الشديد، بحيث يضمن ألا تضفي اتصالاتهم طابع الشرعية على الدولة الانفصالية في الشمال( 5 ).

بيد أن التفاعل السياسي والدبلوماس­ي بين بعض الدول والكيانات الانفصالية التي تفتقد الاعتراف الدولي قد أضحى لا يمكن تفاديه والاستغناء عنه، فربما يكون من الضروري إجراء اتصالات دبلوماسية لتيسير عملية التفاوض بين أطراف متنازعة، وفي بعض الأحيان يصبح من غير الممكن تجنب التواصل مع الكيانات غير المعترف بها بغرض التشاور حول القضايا الملحة، لاسيما ذات الطبيعة الأمنية، مثل مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، وهو ما قد يصبح حتى مبرراً لإجراء اللقاءات مع ممثلي تلك الكيانات بشكل دوري أو منتظم، ولا ينفصل ذلك عن سعي بعض الدول لتحقيق مكاسب اقتصادية من التعاون مع هذه الكيانات على غرار استيراد النفط من إقليم كردستان أو تعزيز العاقات الاقتصادية مع تايوان.

ثالثاً: اإ�ضكاليات العلقات مع الكيانات غير المعترف بها

تثير عاقات الدول مع الكيانات غير المعترف بها عدة إشكاليات على الرغم من حرص حكومات الدول على تحقيق التوازن بين عدم الاعتراف بالكيانات الدولية بصورة واقعية وإدارة عاقاتها معها بما يحقق مصالحها، وتشمل هذه الإشكاليات ما يلي:

أضحى التفاعل السياسي بين بعض الدول والكيانات الانفصالية التي تفتقد الاعراف الدولي لا يمكن تفاديه، سواء للوساطة في عمليات التفاوض والتشاور والتنسيق حول قضايا حيوية، مثل الحرب على الإرهاب أو تحقيق مصالح اقتصادية من التعاون مع هذه الكيانات، سواء من خلال التجارة أو استيراد النفط أو المشاركة في مشروعات الإعمار.

1- قنوات الاتصال الرسمية: إذ يعتبر البعض أن وجود أي قنوات لاتصال بين الدولة المعنية والدولة طالبة الاعتراف هو خطوة في اتجاه إضفاء الشرعية عليها، وترتبط هذه الإشكالية بالتمييز بين الاعتراف الصريح والضمني؛ فالاعتراف الصريح، هو الإعان المباشر الذي تعلنه الدولة بصورة رسمية والمتضمن الاعتراف بدولة معينة، ويتم الاعتراف الصريح بصدور قرار رسمي من حكومة الدولة أو مذكرة دبلوماسية تبلغ الجهة المعترف بها بقرار الدولة المعترف بها. أما الاعتراف الضمني فهو اعتراف عن طريق الدخول في عاقات مع الدولة الجديدة كالعاقات التي تقيمها مع الدول التي اعترفت بها بصورة رسمية من دون أن يصدر إعان رسمي من الدولة يتضمن الاعتراف بها؛ وفي هذا الإطار تشير بعض المصادر إلى أن مجرد وجود قنوات للتواصل الرسمي بين الدولة والكيانات غير المعترف بها قد ينطوي على اعتراف ضمني بوجود هذه الكيانات، وبامتاكها الاختصاص لإدارة عاقاتها الخارجية بصورة مستقلة. 2- تبادل التمثيل السياسي: حيث إن وجود مكاتب للتمثيل السياسي أو تبادل للممثلين السياسيين دون مستوى السفراء قد يعد اعترافاً واضحاً بالكيانات من دون الدول، ويمكن القول إن الوضع في كوسوفو كان من أكبر نماذج الإشكاليات التي شهدها الواقع الدبلوماسي في هذا السياق، فقد لجأت العديد من البلدان إلى إنشاء بعثات دبلوماسية رسمية بين عامي 1999 و2008، وهو ما اعتبر إشكالية دبلوماسية آنذاك، حيث كان الإقليم لا يزال غير مستقل ويشكل جزءاً من يوغوسافيا ثم صربيا، ولكنه كان تحت إدارة الأمم المتحدة، وهو ما تطلب في نظر هذه الدول أن يكون له تمثيل دبلوماسي مستقل.

ومع إعان استقال دولة كوسوفو في 2008، تغيرت معطيات الأمر الواقع واختلفت مواقف الدول المعنية بشأن وجود بعثات دبلوماسية لها في بريشتينا، ففي كثير من الحالات، تم تحويل البعثات إلى السفارات بناء على قرار من جانب الدول التي قررت الاعتراف بدولة كوسوفو، إلا أن دولاً أخرى لم تعترف بكوسوفو، وفي الوقت ذاته حافظت على وجود دبلوماسي رسمي لها في بريشتينا مثل روسيا، حيث يوجد لها مكتب ومسؤول اتصال رسميين في كوسوفو على الرغم من عدم الاعتراف بها، الأمر الذي يدفع بعض فقهاء القانون الدولي إلى القول إن استمرار وجود مثل هذه البعثات لا يعد مؤشراً على الاعتراف بدولة كوسوفو، ولكنه بمنزلة آلية لمراقبة الوضع على أرض الواقع(6). 3- المشاركة في الفعاليات الدولية: إذ يرى بعض المحللين أن مشاركة دولة ما في فعاليات متعددة الأطراف تشارك فيها كيانات لا ترغب الدولة في الاعتراف بها يمكن أن يشكل مأزقاً دبلوماسياً لهذه الدولة، إذ يبرز قلق حقيقي بين الدول من أن تفسر المشاركة على أنها اعتراف بالكيانات غير المعترف بها، أو على أقل تقدير إضفاء قدر من الشرعية على وجودها، وقد شهد المجتمع الدولي عدداً من الإشكاليات الدبلوماسي­ة في هذا السياق، حيث إن إلغاء عقد اجتماع رفيع المستوى بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسامي على خلفية إصرار تركيا الدولة المضيفة على دعوة جمهورية شمال قبرص التركية.

كما برزت أزمة مماثلة مع قيام بولندا بدعوة كوسوفو بعد إعان الاستقال للمشاركة في قمة رؤساء دول وسط وجنوب شرق أوروبا بحضور الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومن ثم أعلنت كل من صربيا ورومانيا وسلوفاكيا التي ترفض الاعتراف باستقال كوسوفو عدم مشاركتها في القمة، وإن كان رئيسا رومانيا وسلوفاكيا قد حضرا الاجتماع بعد ضمانات بأن كوسوفو لن تتمتع بأي من رموز الدولة خال القمة كوجود علم، كما أن القمة لن تتمخض عنها وثيقة نهائية يتم توقيعها من قبل مختلف المشاركين.

أضحت الاعتبارات السياسية والمصلحية وتفاعلات الأمر الواقع الفيصل في إدارة العلاقات مع الوحدات غير المعرف بها، خاصة في ظل وجود آليات مستحدثة لإدارة العلاقات مع هذه الكيانات بها، مثل مكاتب التمثيل وقنوات الاتصال غير الرسمية، ووساطة الأطراف الثالثة وتجنب توظيف كافة رموز العلاقات الرسمية.

رابعاً: اآليات اإدارة تفاعلت الأمر الواقع

تظهر الممارسات الفعلية أن الفاعلين الدوليين يلجأون في غالبية الأحيان إلى إجراء مواءمات تمكنهم من تجاوز القيود التي تفرضها عليهم الإشكاليات المرتبطة بمسألة الاعتراف بالدول، حيث استقرت الحال في المجتمع الدولي على قبول فكرة عقد الاجتماعات مع مسؤولين من الوحدات غير المعترف بها في إطار مفاوضات السام وجهود التوفيق والوساطة، من دون أن يعد ذلك اعترافاً بها، بل إنه في بعض الحالات يكون من المقبول إجراء مشاورات أو اتصالات مع كيانات غير معترف بها بشكل دوري ومنتظم من دون أن يكون الغرض منها مناقشة قضايا أو إشكاليات بعينها، ومع ذلك، غالباً ما يتم اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاحترازية لتجنب وجود أي غموض بشأن مسألة الاعتراف بهذه الكيانات.

ومن أهم تلك الإجراءات تجنب استخدام الألقاب أو الصفات التي يمكن أن تشير إلى الاعتراف، فعلى سبيل المثال، لا تستخدم الدول الغربية في تعاملها مع شمال قبرص، ألقاباً من قبيل رئيس جمهورية أو رئيس وزراء شمال قبرص التركية، بل تتم الإشارة للشخص المعني باعتباره قائداً أو زعيماً سياسياً في باده.

ويرتبط ذلك بتجنب عقد هذه اللقاءات في أماكن تحمل دلالة مهمة بخصوص الاعتراف بهذه الكيانات، مثل القصور الرئاسية أو مكاتب رؤساء الحكومات، وعوضاً عن ذلك، تعقد الاجتماعات في أماكن أخرى، مثل مقار الأحزاب السياسية، أو غيرها من الأماكن العامة.

وقد تميل بعض الدول لتجنب إجراء أية اتصالات مع المسؤولين عن إدارة المناطق أو الأقاليم الساعية لانفصال

عن الدولة الأم، لأن التواصل مع مثل هذه الإدارات، يفسر على أنه خطوة باتجاه الاعتراف باستقالها، ومن ثم غالباً ما تتجنب الدول عقد أي لقاءات مع المسؤولين الاعتياديي­ن في تلك الكيانات المتنازع على استقالها، كوزراء التجارة أو الصناعة أو الاستثمار مثاً.

وقد تسعى بعض الدول لتجنب إجراء الاتصالات العلنية مع وزير خارجية الدولة أو لكيان محل الاختاف، وذلك لأن وزارة الخارجية وجميع ممثليها والعاملين فيها في أي دولة يحملون قيمة رمزية في تمثيل وتحمل المسؤولية عن سلوك حكومة في المحافل الدولية، في المقابل توجد العديد من الآليات لتأمين قنوات الاتصال الرسمية، قد تلجأ إليها الدول للتغلب على إشكالية التمثيل الدبلوماسي.

ومن أبرز التقاليد المتبعة في هذا السياق أن تتم عملية التمثيل الدبلوماسي عبر وسيط أو طرف ثالث، ففي حالة إقليم انفصالي مثل أبخازيا، فإن كل تفاعاتها الدبلوماسي­ة مع العالم الخارجي تتم عبر سفارات الدول الأخرى في العاصمة الجورجية تبليسي، أو عن طريق بعثات تنتقل من جورجيا إلى أبخازيا عندما تقتضي الحاجة ذلك.

وقد تتجه بعض الدول لإنشاء ما يعرف ب "مكتب تمثيل" أو "مكتب اتصال" لتسيير الأعمال مع الكيان أو الإقليم الذي تكون الدولة إما غير راغبة أو غير قادرة على الاعتراف به، ولعل المثال الأبرز في هذا السياق يأتي مع مكاتب الاتصال التي أقيمت بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية في سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت تقوم بكل مهام ووظائف السفارات ولا ينقصها سوى الاسم فقط.

قد تلجأ بعض الدول إلى إنشاء مكاتب معلومات أو مكاتب إعامية في الدول التي لا تعترف بها، مثلما هي الحال مع جمهورية شمال قبرص التركية، حيث تقيم عدد من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، مكاتب إعامية في شمال نيقوسيا، وإن كانت هذه المكاتب من الناحية الرسمية تابعة لسفارات بلدانها في جمهورية قبرص، وليس لديها تفاعل رسمي مع جمهورية شمال قبرص التركية، وتقتصر مهامها على تقديم الخدمات القنصلية للقبارصة الأتراك، فضاً عن مواطنيها المقيمين في جمهورية شمال قبرص التركية.

وبطبيعة الحال تسعى الدول الراغبة في الحصول على الاعتراف الدولي بها إلى إنشاء مكاتب اتصال تابعة لها في العديد من عواصم العالم، ومن ثم فإن جمهورية شمال قبرص التركية لديها العديد من مكاتب الاتصال في العديد من العواصم الغربية، بيد أن هذه المكاتب لا تتمتع بأي صفة رسمية، كما أن العاملين بها لا يحملون الصفة الدبلوماسي­ة، إلا في حال اعتمادهم كممثلين دبلوماسيين في سفارة دولة معترف بها، مثل تركيا في حالة جمهورية شمال قبرص التركية.

وفيما يخص المواءمات المتعلقة بالمشاركة في الفعاليات والمعاهدات الدولية متعددة الأطراف، فقد استقر الفقه الدولي على اعتبار أن الأمر يتوقف في التحليل النهائي على نية الدولة أو الأطراف المعنية، ومن ثم فا يعني حضور أو مشاركة الدولة غير المعترف بها أن الدول تعارض الاعتراف قد اعترفت بها ضمناً، ويستدل على ذلك بتحفظ سوريا لدى تصديقها على اتفاقية استعمال المجاري المائية الدولية لأغراض الماحة الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1998، بأن هذا التصديق لا يعد اعترافاً ضمنياً بإسرائيل أو يفسر تصديقها على المعاهدة بأنه اعتراف بإسرائيل ولا يمكن أن يقود لعاقات معها(7).

وتعد حالة كوسوفو نموذجاً للمواءمات السياسية في هذا السياق، حيث توسط الاتحاد الأوروبي بين كوسوفو وصربيا، إلى أن تم الاتفاق على إمكانية حضور كوسوفو للفعاليات والاجتماعا­ت الإقليمية، شريطة أن يتم التأكيد خال الوثائق على أن حضور كوسوفو يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1244 الذي أنشأ إدارة للأمم المتحدة في كوسوفو، فضاً عن مجموعة من المؤسسات المؤقتة لإدارة عملية الانتقال نحو الحكم الذاتي، ورأي محكمة العدل الدولية حول إعان استقال كوسوفو، وهو الأمر الذي سمح للدول التي لا تعترف بكوسوفو من المشاركة في مثل هذه الفعاليات الجماعية.

إجمالاً يمكن القول إن إدارة الدول لعاقاتها مع الوحدات الدولية غير المعترف بها أضحت منفصلة عن اعتبارات القانون الدولي والتفسيرات المتعارضة حول مدى اعتبار الانخراط في تفاعات بين دولة وكيان لا تعترف به بمنزلة اعتراف ضمني بوجوده، حيث إن الاعتبارات السياسية والمصلحية وتفاعات الأمر الواقع باتت الفيصل في هذه الأنماط المعقدة من العاقات خاصة في ظل وجود آليات مستحدثة لإدارة العاقات مع الكيانات غير المعترف بها، مثل مكاتب التمثيل وقنوات الاتصال غير الرسمية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates