Trending Events

هل هناك علاقة بين التعصب والعلوم التطبيقية؟

د. سعيد المصري

- د. سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع – جامعة القاهرة

إن تأمل الخلفية التعليمية لما يقرب من 43 قيادة بارزة داخل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، يشير إلى أن 30 شخصاً منهم حاصلون على شهادات جامعية في العلوم الطبيعية، أبرزها الطب والهندسة والعلوم بنسبة تصل إلى 70.%

في مقابل هذه النسبة السابقة، هناك 8 أشخاص فقط من قيادات الإخوان في مصر تخصصوا في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية بنسبة تقدر بنحو 19%، إلى جانب خمسة أشخاص في مجالات أخرى. ومن بين المتخصصين في العلوم الطبيعية حصل 21 منهم على درجات علمية أعلى وهي الماجستير والدكتوراه بنسبة 49،% خمسة منهم على الأقل حصلوا على تلك الشهادات من جامعات غربية. ومن المفارقات أن يكون إجمالي عدد المتخصصين في العلوم الدينية داخل الهرم القيادي لجماعة الإخوان لا يتعدى شخصين فقط وهما: عبدالرحمن البر، وسيد عسكر.

الأرقام السابقة تشير إلى أن المرتكز الديني لأكبر جماعة إسامية تنهض بقوة على قاعدة من التعليم العلماني المتخصص في العلوم الطبيعية، وليس التعليم الديني أو العلوم الشرعية أو تخصصات العلوم الاجتماعية. ولا يوجد بطبيعة الحال أي شخص في الهرم القيادي للإخوان له خلفية تعليمية في مجال الفلسفة أو الأدب العربي. وهذا يطرح قضية للمناقشة حول العاقة بين العلوم الطبيعية والأصولية الدينية والتشدد الإسامي، وكيف لأشخاص يتدربون على المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية أن يكونوا متعصبين ومتطرفين ويكونوا صورة ذهنية للمجتمع الذي يعيشون فيه تنحو إلى التعصب، وفي حلمهم بمجتمع إسامي متخيل؟ أو بعبارة أخرى كيف تنتج النظرة الاحتمالية للطبيعة نظرة حتمية للوجود الإنساني وتغذيه بغيوم أيديولوجية؟

اأولً: تف�ضيرات محتملة

يمكن تفسير هذه الظاهرة من زوايا متعددة أبرزها مدى مساحة الحرية السائدة والتي تنعكس على شكل العاقة بين العلم والدين في المجتمع بصفة عامة، وفي داخل التنظيمات الدينية بصفة خاصة. ففي المجتمعات التي تعلي من شأن الحرية يتسع أفق التفكير النقدي وينحسر التفكير اليقيني. وفي المجتمعات التي تضع قيوداً على حرية التفكير يطغى التفكير اليقيني ويتضاءل التفكير النقدي. وفي ظل هذه القيود يتحول العلم إلى حرفة ويصبح الباحث أشبه بالحرفي الذي يجيد صنعة استخدام قواعد المنهج العلمي ويحفظها عن ظهر قلب وبصورة نمطية. وحين يصبح الباحث أصولياً متديناً يتحول الدين في حياته إلى رسالة ومحور لرؤية العالم ككل، يتم بموجبها توظيف العلم لإثبات المعتقدات والقيم المطلقة في الدين. هذا ما حدث داخل المجتمعات العربية منذ السبعينيات من القرن الماضي فيما يعرف بمحاولات أسلمة المعرفة، ودعاوى العلم والإيمان والإعجاز العلمي في القرآن والتي كان يروجها متعلمون ومتخصصون في علوم الطب والجيولوجي­ا والفلك والهندسة في ظل عجز رجال الدين عن تطوير خطابهم.

وقد سبق لأوروبا والولايات المتحدة أن شهدت نفس الظاهرة في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفي هذا الصدد لا نندهش حين نجد اثنين من أهم الحاصلين على جائزة نوبل في الفيزياء في العشرينيات من القرن العشرين وهم أرثر كومبتون Compton .H Arthur، وروبرت ميليكان Robert Millikan لهم كتيبات دعائية ذات طابع ديني تدعو إلى عدم التعارض بين العلم والدين. ولا ننسى أن التعليم الديني كان يمثل جوهر التعليم ومظهره في البلدان العربية منذ قرون عديدة، حيث وفر التعليم الديني نهضة علمية على يد العلماء المسلمين منذ القرن الثامن وحتى القرن الثالث عشر. كذلك لا يجب أن نغفل أيضاً أن رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده كانا من رموز التنوير التي خرجت من عباءة دينية، ومن ثم فالعاقة بين العلم والدين شديدة التعقيد، وعلى قدر التداخل بين العلم والدين هناك تطرف وتعصب على الجانبين يصل إلى حد القطيعة بينهما. وحين يلتقي التطرف الديني مع التطرف العلمي في شخص واحد يترتب على ذلك مزيج من التفكير ورؤى للعالم متعصبة في اعتمادها على الدين أكثر من ارتباطها بالعلم.

ثانياً: ان�ضهار الأ�ضوليتين الدينية والعلمية

على الرغم من أن التعصب يمثل ظاهرة إنسانية نسبية لا تقف عند حدود التدين ولها أوجه متعددة في اتخاذ مواقف متشددة وعاطفية، فإن الأصولية الدينية تنفرد بمامح محددة في التفكير التعصبي خاصة فيما يتعلق بالثوابت العقيدية في الدين، والتي تؤثر على مجمل رؤية العالم، فالأصولي يؤمن بصحة قناعات محددة على نحو مطلق ويتجنب الجدل والنقد والشك والتنوع في الآراء، ولا يكتفي بمعتقداته وإنما يسعى لأن يفرضها على الآخرين. ولهذا فالناس، في نظره، إما معه أو ضده. ويصل التعصب أقصاه، لدى كل من ينتمي إلى الأصولية الدينية، بالتفاني التام والتضحية والاستشهاد في سبيل تحقيق الغايات التي يؤمن بها ويتطلع إلى تحقيقها. وحين يكون الشخص الأصولي باحثاً متخصصاً في أحد فروع العلم الطبيعي يصعب أن يجتمع لديه التعصب والتفكير النقدي الحر في عقل واحد، لأن التفكير التعصبي يقع على النقيض تماماً من التفكير النقدي. ومع ذلك يمكن للتفكير التعصبي في الأصولية الدينية أن يلتقي مع نمط آخر من التفكير التعصبي قائم فيما يطلق عليه الأصولية العلمية scientific fundamenta­lism ويقصد بها الاعتقاد المفرط في المنهج العلمي القائم على القياس والتجريب والحقائق الموضوعية والاقتناع التام بإمكانية تطبيق هذا المنهج في كافة المجالات، والاعتماد على المنطق الأرسطي في المقدمات التي تفضي إلى نتائج بعينها. إنه تفكير حرفي يسير في خط مستقيم ذي بعد واحد، ويميل إلى الثنائيات في رؤية العالم: إما أبيض أو أسود، مع أو ضد، ويؤمن بحتمية وظيفية للنسق أو البنية المكونة من أجزاء مترابطة.

صاحب الأصولية العلمية يبدو منظماً في التفكير الخطي الذي يبدأ من نقطة ما لينتهي حتماً إلى نقطة بعينها. هذا التفكير نتاج للوضعية المفرطة التي تختزل العالم والوجود الإنساني في مجرد نسق يمكن تصميمه وفكة وتركيبة، ولهذا ينجذب الباحث ذو الأصولية الدينية إلى تلك الأصولية العلمية بشدة، ولا بأس من أن يستخدم الباحث المتدين الإحصاءات والقياس والنماذج المجردة وكل قواعد التجريب بطريقة نمطية. وهكذا ينمو التعصب المزدوج عبر انصهار الأصولية العلمية والأصولية الدينية معاً في عقلية واحدة متصالحة ومنسجمة تماما مع ما قد يبدو متناقضاً.

ثالثاً: الأ�ضولية الدينية تلجاأ اإلى العلم

من الطبيعي أن تلجأ الأصولية الدينية إلى العلم بقوة وتوظفه لأغراضها، من خال استقطاب نحبة علمية لأسباب تتعلق بهيبة العلم في المجتمع، والتأثير الذي يحظى به مظهر العلم بخطابه وأدواته المنهجية في القياس والتجريب، والتي تجعل منه مصدر قوة في تأكيد المكانة والإقناع. وهذا ما تحتاج إليه الأصولية الدينية الحديثة لكي تعزز من قوتها وحجتها في المجتمع، فالصورة الذهنية القديمة عن رجال الدين الذين لا يعرفون من المعارف المعاصرة شيئاً لم تعد مقبولة لدى التنظيمات الدينية التي تنمو قلب الطبقات المتوسطة في المجتمعات العربية. ومع وجود تدفق هائل في المعرفة أصبحت المرجعية العلمية في الوجود الإنساني تهدد المرجعية الدينية ما لم يتصالحا أو يمتزجا معا في قوالب فكرية مشتركة. لهذا اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين على نخبة من المتخصصين في العلوم الطبيعية ليكونوا جزءاً لا يتجزأ من مظهرها وأداة رئيسية في تعزيز انتشارها وتأكيد وجودها المتميز في المجتمع.

وعلى مستوى أبنية التفكير فإن قادة الأصولية الدينية حين يمارسون عملهم العلمي في الجامعات يبدو كل شيء في أدائهم منسجماً مع مركزية العقيدة ومظهر السلوك العلمي. لا تعارض بين هذا وذاك لأن البنية العميقة في التفكير أصولية فا تأخذ من العلم سوى مظهره بما يعزز وجودها واحترامها بين الناس. وفي هذه الحالة يتعين ألا نفترض وجود صدام فكري بين عقلية نقدية نابعة من انشغال عميق بالبحث العلمي من ناحية، وعقلية أصولية مؤمنة بثوابت عقيدية من ناحية أخرى.

وختاماً، حين تتوغل الأصولية الدينية في مجتمع علمي يصعب أن تجتذب الأشخاص الأكثر تأثراً بالتفكير النقدي، بل فقط المخلصين للدين ولعاقات الولاء داخل الجماعة الدينية. وهؤلاء يكفي فقط أن يحققوا من العلم ما يعزز مشروعهم الديني، ويتقلص ارتباطهم بالعلم إلى حدود مظهره فقط. ويندر أن تجد من بين هؤلاء علماء مشهوداً لهم بالكفاءة والمكانة العلمية المرموقة دولياً، ولا يوجد منهم حاصلون على جوائز علمية عالمية. ويكفي البحث في النشر الدولي عن إسهامات تلك النخبة العلمية المتدينة لنجد أنه هزيل للغاية، وبذلك تصبح النخبة العلمية داخل التنظيمات الدينية الأصولية مجرد ثوب علمي يضفي بريقاً خادعاً على جسد مفعم باليقين الإيديولوج­ي.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates