Trending Events

ما هي اتجاهات فهم العلاقة بين العلم والدين؟

د. مشهد العلاف

- د. مشهد العلاف أستاذ فلسفة العلوم والدراسات الإسلامية والأخلاق - المعهد البرولي - أبوظبي

وقف حلاق قبل ألف عام،بمدينة بغداد، يفتخر بعلومه وثقافته قائلاً: ”ستجدني أحسن حلّاق، حكيم وصيدلي ومنجّم، ضليع في النحو والبلاغة، ومؤهل في علوم الرياضيات... وفي ذاكرتي كل القوانين، وأنا أيضاً شاعر ومهندس“.

لم يكن هذا الرجل ذو المهنة البسيطة ليفتخر بعلومه لو لم تكن بيئته تُعلي من شأن العلم. فالعلم بمعناه المعرفي الواسع يحتل مكانة سامية في الدين الإسامي، ويعد طلب العلم فريضة تستدعي استخدام الحواس والتجريب، ثم العقل والاستدلال لاكتشاف أسرار الكون، ويعتبر إهمال العلم والتفكير عماً مخالفاً للعقل، مذموماً في الدين، ويقلل من شأن الكرامة الإنسانية. "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ الَِّ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ" (الأنفال: 22)

وعند انفتاح المسلمين على علوم الأمم الأخرى سعت الحضارة الإسامية إلى العلم تطلبه حثيثاً، وتُرجمت كتب العلوم والفلسفة من حضارة اليونان وغيرها، واستطاع الكندي عالم الرياضيات وأول فيلسوف في الإسام أن يقدم رؤية حضارته في البحث عن الحقيقة في مقولته: "وينبغي لنا ألَّا نستحيي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق."

اأولً: م�ضكلة العلم والدين م�ضكلة زائفة

إن قابلية استيعاب المشكات المطروحة وإيجاد حلول لها يمثان مقياساً لتطور أي حقل معرفي، وأصعب ما يواجه المفكرين نوع من المشكات نسميه المشكات الزائفة (-Pseudo problems) أو أشباه المشكات؛ لأنها تستنزف جهود العلماء ولا يوجد لها حل. ومشكلة عاقة العلم بالدين في مجال الحضارة الإسامية هي مثال جيد للمشكات الزائفة. ومن الضروري النظر فيها بشيء من التفصيل بدلاً من إلغائها أو تجاهلها.

لقد ظهرت هذه المشكلة أولاً في أوروبا، بسبب إشكالية عاقة الكنيسة (وليس الدين المسيحي في ذاته) بالعلماء وأبحاثهم، حيث استخدمت نصوص الكتاب المقدس (مع تأويات الكنيسة) كمحك لصدق الأقوال العلمية وكذبها. ففي علم الفلك ومنذ عصر كوبرنيكوس والكنيسة في حرج شديد من تراجع نظام بطليموس الذي تؤمن به في مركزية الأرض وثباتها، وعدم حركتها أمام الثورة الكوبرنيكي­ة في نظرية مركزية الشمس وحركة الأرض حولها. وقد صرح مارتن لوثر بأن كوبرنيكوس يقلب علم الفلك رأساً على عقب، في حين ينص الكتاب المقدس على "أن يوشع أمر الشمس أن تتوقف عن الحركة وليس الأرض".

ثم تساءل كالفن بتحدٍ "ومن يجرؤ على وضع سلطة كوبرنيكوس فوق سلطة الروح القدس؟". وقد اشتد الصراع بعد ذلك بين الكنيسة الكاثوليكي­ة والعلماء وأُحرِق العالم جوردانو برونو حياً في عام 1600. وفي عام 1616 اقتيد عالم الطبيعيات غاليلو غاليليه الذي كان يؤمن بآراء كوبرنيكوس، إلى محاكم التفتيش وأجبر على التراجع عن آرائه والإقرار علناً وبإذعان بأن الأرض لا تتحرك. وحَرَّمت الكنيسة تدريس موضوع حركة الأرض وبقيت ممنوعة في أوروبا حتى عام 1835.

أما في الطب، فقد اعتبر القديس أوغسطين "جميع أمراض المسيحيين تنسب إلى هذه الشياطين"، وقد نشط رجال الكنيسة في أوروبا لوعظ المجتمع وتذكيره بأن الأوبئة والأمراض المنتشرة هي عقوبة إلهية للخطائين، وعليه فإن عاجها عمل ضد الدين وضد الإرادة الإلهية. فما كان من رجال العلم إلا محاولة فصل مباحثهم عن الكنيسة، وأصبحوا ينظرون إلى كل شيء يسمى "دين" على أنه عقيدة متخلفة لا تستوعب التطورات العلمية. وانتشر تخلف الطب في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. وكان عدد الأطباء الموجودين في أوروبا عدد قليل، وأغلبهم من اليهود الذين استقوا علومهم من العلماء المسلمين، كما أن أوروبا اعتمدت في دراسة الطب على الكتب الأكاديمية للرازي وابن سيناء وذلك حتى القرن الثامن عشر.

ثانياً: اأ�ضكال العلقة بين العلم والدين

يمكن القول إن الجدل حول عاقة العلم بالدين قد تطور بشكل غير دقيق واتخذ ضمناً هذه الأوجه الثاثة: - الدين يستبعد كل ما هو علمي (عقلي وتجريبي) أي أن (الدين ضد العلم). - نتائج العلوم تناقض النصوص الدينية وتنقضها أي أن (العلم ضد الدين). - نتائج العلوم لا تناقض الدين، بل تدعم صحته (الإعجاز العلمي في الدين). وبالنظر بشيء من التفصيل لكل من هذه الأوجه من حيث عاقتها بالدين، مع ماحظة أن الحضارة الغربية لم تعرف النوع الثالث، ويمكننا التساؤل: 1- هل الدين ضد العلم؟ يشير التاريخ الإسامي إلى أن رجاً ذهب إلى الرسول عليه الصاة والسام وقال له إنه يعاني مرض الكبد، فأشار عليه الرسول بالذهاب إلى الحارث بن كلدّة الثقفي المختص بالطب، ومن ثم أشار بالذهاب إلى أهل الاختصاص الطبي، مع العلم أن الحارث الثقفي كان مشركاً آنذاك. الإسام إذن لا يستبعد العلم، بل على العكس يراه ضرورة تنشأ عن تقسيم الإسام للعوالم إلى: عالم الغيب الذي يشكل الوحي مصدره المعرفي، وعالم الشهادة مما يمكن مشاهدته من الكون، ويقع تحت مجال وقابليات الإنسان المعرفية من حس وتجريب وتعقل. وقد اتخذ أول وحي إلهي صيغة الأمر بالمعرفة "اقرأ" واتخذت القراءة في تعاليم الإسام بعدين؛ قراءة الوحي لمعرفة أخبار الغيب، وقراءة الكون لمعرفة العالم الذي نعيش فيه، وأصبح الكون معطى تجريبياً جاهزاً للمعرفة الإنسانية. ونظر علماء الدين المسلمون إلى العقل على أنه أحد الضروريات الخمسة التي يجب على المجتمع تنميتها وحفظها من أجل حياة كريمة.

ومن مفارقات عاقة العلم بالدين في الحضارة الإسامية أن العلم الطبيعي نشأ في أحضان الدين الإسامي، خصوصاً العلوم التطبيقية، وكذلك الفلك والجبر وعلم الطب. فمعرفة مواقيت الصاة واتجاه القبلة دفعت العلماء لتطوير صناعة الساعات والبوصلة.

أما طلب العلم فهو فريضة في الإسام. وأنكر الإمام أبوحامد الغزالي على علماء عصره انصرافهم إلى الفقه وعلوم الدين فقط، وقلة تخصصهم في علوم مفيدة كالطب. أما إنكار العلوم بدعوى الانتصار للإسام فهو مرفوض تماماً لتعارضه مع الدين. وانتقد الإمام الغزالي ما سمّاه: "صديق الإسام الجاهل"، الذي ينتصر للإسام من خال إنكاره مباحث علمية جاءت من مصادر غير إسامية. 2- هل تعارض نتائج العلم الدين؟ إن الحقيقة العلمية الثابتة لا تعارض الدين، وإذا وجدت حقيقة علمية ولا يوجد في الدين ما ينفيها أو يثبتها فا وجه للمعارضة أو لطرح مشكلة عاقة العلم بالدين، لأن الدين ابتداءً غير معني بسرد التفاصيل العلمية.

أما إذا كانت المعرفة العلمية ظنية غير مثبتة بشكل قاطع والنص الديني واضح وقطعي الدلالة فينشأ هنا تعارض، ولابد لنا من حَكم يقرر أيهما نأخذ؛ العلمي الظني أم الديني القطعي؟ والحَكَم الذي يرضى به كل من العلم والدين هو العقل والمنطق. إذن لنأخذ مثالاً وندع العقل يحكم: فإذا ذكر القرآن أن كل شيء في الكون هو في حالة حركة مستمرة كما في قوله تعالى: "لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (يس: 40) فلو جاءت نظرية مثل نظرية بطليموس وآراء أرسطو في ثبات الأرض لظهر تعارض بين النص الديني السابق ذي الدلالة الواضحة في الحركة مع رأي علمي لا يرقى إلى كونه حقيقة ثابتة بل دعمته سلطة أرسطو الفلسفية، وإذا كان أرسطو بارعاً في حقل معين فإنه كان ضعيفاً في الفيزياء والفلك ولا يرقى إلى معارف أستاذه أفاطون في الرياضيات.

إن ما يبدو علمياً عند بطليموس وأرسطو يناقض العقل ويناقض الماحظة الحسية، ثم جاء تطور العلوم لإثبات خطأ نظرية بطليموس ولتأييد القول بأن الكون في حالة حركة مستمرة ليس فقط حسب نظرية كوبرنيكوس في حركة الأفاك والكواكب، بل وحسب مبدأ القصور الذاتي لنيوتن الذي يعارض مبدأ السكون عند أرسطو.

خاتمة

إن الإسام كدين يشترك مع العلم في هدفه العلمي الأسمى وهو تحرير الإنسان من الخرافات. إذا أصبحت الأفكار العلمية على شكل مدارس متعارضة ومتضاربة الآراء فإنها ليست حقائق علمية ثابتة، وهي أقرب إلى الافتراضات والمدارس الفلسفية، وهنا فإنها لا تخضع لمسألة عاقة العلم بالدين. فالنتائج العقلية الثابتة السليمة من المستحيل أن تتعارض مع الدين الإسامي، بل تؤيده وتدعمه. أما ما هو محل جدل وافتراض فإنه لا يخضع لمسألة عاقة العلم بالدين. وكثير من نتائج العلم الثابتة هي تصديق للحكمة القرآنية ولقوله عزّ وجلّ: "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف: 4)

فالنتائج العقلية الثابتة السليمة من المستحيل أن تتعارض مع الدين الإسلامي، بل تؤيده وتدعمه. أما ما هو محل جدل وافراض فإنه لا يخضع لمسألة علاقة العلم بالدين.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates