Trending Events

لماذا قررت تركيا بناء مسجد في هافانا؟!

أ. خورشيد دلي

- خورشيد دلي كاتب وباحث في الشؤون الركية والكردية

في معرض الحديث عن سياسة رجب طيب أردوغان، طرح المعلق السياسي في صحيفة حرييت الركية يلماظ أوزديل سؤالاً جوهرياً، وهو كيف لأردوغان أن يخطط لركيا عام 2023 وهو يفكر بعقلية القرن التاسع عشر؟ يمكن القول إن جواب أردوغان عن سؤال أوزديل يلخص إلى حد كبير شخصيته، إذ سرعان ما رد أردوغان على أوزديل بالقول (إنه لا يرقى إلى مستوى كائن بشري) مطالباً بطرده من العمل. هذا الجواب الغاضب يفسر نظرته للمستقبل والآخر.

اأولً: ما وراء ا�ضتراتيجية بناء الم�ضاجد

بداية، لا يوجد أي اعتراض على الرغبة في بناء المساجد، إذا كانت الغاية هي التقوى وازدهار الإسام وصورته، ولكن ماذا لو كان وراء سياسة بناء المساجد استراتيجية أكبر تتجاوز الهدف السابق؟ سؤال طرحه العديد من الخبراء والمحللين عندما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خال زيارته العاصمة الكوبية هافانا في فبراير الماضي عن رغبته في بناء مسجد على تلة تاريخية في هافانا. والسؤال الذي يطرح مجدداً هنا، هو هل تكمن خلف بناء مسجد في هافانا استراتيجية أكبر؟ في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، لابد من التوقف عند الوقائع والمعطيات التالية: المعطى الأول: إن قرار أردوغان بناء مسجد في هافانا يأتي في إطار خطة أوسع لبناء 18 مسجداً في أنحاء متفرقة من العالم، أهمها في البلقان والصومال وكوبا وغزة. وقد كان لافتاً في هذا الإطار مسألتان. الأولى: إصرار أردوغان على أن يتم بناء هذه المساجد على الطراز العثماني. والمسألة الثانية: التنسيق بين رئاسة الاستخبارا­ت العامة التركية ورئاسة الشؤون الدينية التركية (التي تضاعفت ميزانيتها خال حكم أردوغان عشرات المرات) بخصوص بناء هذه المساجد. المعطى الثاني: يبدو أن هناك رغبة أو ما يمكن تسميته "وهم" تركي لقيادة العالم الإسامي وزعامته عالمياً، وقد بدا هذا الأمر واضحاً في قضية بناء مسجد في كوبا. إذ سبق وفاتحت المملكة العربية السعودية القيادة الكوبية في مسألة بناء مسجد في هافانا. من جانبها كانت كوبا قد اشترطت أن تتم عملية بناء مسجد في هافانا بصورة تعاونية مشتركة من قبل عدة دول إسامية (طرحت أن يكون البناء من خال منظمة التعاون الإسامي)، كي لا تبدو المسألة وكأن المسجد ممثاً لجالية تنتمي إلى بلد إسامي بعينه. ومن ثم ركزت الحكومة الكوبية على فكرة أن يكون هذا المسجد رمزاً ومكاناً لكل الجاليات المسلمة في كوبا، والتي يقدر عددها بنحو أربعة آلاف مسلم. ولكن على الرغم من ذلك أصر أردوغان على التفرد بالبناء، بل وأن يكون على طراز مسجد اورتاكوي أو (المجيدية) نسبة إلى السلطان العثماني عبدالمجيد، وذلك في رفض صريح لأي تعاون مشترك مع السعودية أو أي دولة إسامية أخرى بهذا الخصوص. المعطى الثالث: ما تناقلته الصحف الكوبية حول أوضاع المسلمين في كوبا، وأشارت إلى قضية السماح ببناء

مسجد لهم هناك، ووجود لوحة باللغة العربية في الموقع كتب عليها (في هذا المكان سوف يبنى المسجد). كما أشارت المواقع إلى سماح السلطات الكوبية لمسلمين كوبيين بتأدية مناسك الحج في السعودية. من جانب آخر كان رئيس الرابطة الإسامية في كوبا يحيى بيدرو توريس قد أشار إلى جهوزية موقع بناء المسجد للمباشرة به، نافياً علمه برغبة تركية في النهوض ببناء المسجد بصورة منفردة. ولعل الوصف الدقيق والغريب لإصرار أردوغان على التفرد ببناء هذا المسجد، هو ما كتبه الموقع الإلكتروني لصحيفة (يني شفق – الفجر الجديد) التركية المعارضة، عندما وصفت توجه أردوغان لبناء المسجد بمخطط السطو عليه واحتكاره. مع الإشارة هنا إلى أن صحيفة "يني شفق" انتقلت مؤخراً من موقع المعارضة لسياسة أردوغان إلى الموالاة له بعد حملة ضغوط ومغريات معاً مورست عليها. الواقعة الرابعة: لقد كان لافتاً قبيل زيارة أردوغان لكوبا، وجود حالة تشبه "القصف الإعامي" الذي أطلقته وسائل إعام تركية ضد بعض الوقائع التاريخية ومحاولة تسخيرها لصالح استراتيجية الرئيس، وقد تجسد هذا القصف في قوله إن المسلمين اكتشفوا أميركا قبل كريستوف كولومبوس بنحو ثاثة قرون. والافت هنا أيضاً، أن هذه الحملة الإعامية شملت الداخل التركي عندما اتهم أردوغان المؤسسات التعليمية بتجاهل تراث الأجداد ودعوته الطاب إلى الاهتمام بما أنتجه نامق كمال وابن سينا وغيرهما من العلماء المسلمين بدلاً من الاهتمام بعلماء الغرب، مشيراً إلى شكسبير بالتحديد. وقد دفعت هذه التصريحات الغريبة لأردوغان إلى وصفه من قبل بعض الكتاب والمحللين بأنه يسير على خطى القذافي.

ثانياً: وهم الطموح الإمبراطور­ي

يبدو الإصرار على بناء سلسلة مساجد في مناطق متفرقة من العالم وفقاً للطراز العثماني، تعبيراً صريحاً عن أيديولوجية سياسية تجسد أيديولوجية حزب العدالة والتنمية في ممارسته الحكم والسياسة والنظرة المستقبلية والتعامل مع الآخر. وتبدو هذه الأيديولوج­ية في الممارسة السياسية نسخة متطورة من أيديولوجيا­ت حركات وجماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي. ولعل الوقائع الداخلية تكشف عن هذه الحقيقة، ومن أهمها إعادة التدريس باللغة العثمانية في المدارس بقرار من أردوغان على الرغم من رفض المعارضة. وكذلك إعادة فتح المدراس الدينية التي تقول التقارير إن عدد طابها زاد على مليون طالب، بعد أن كان هذا العدد لا يتجاوز 50 ألف طالب عشية تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في عام 2002. كذلك فإن اعتماد شعار رسمي جديد للجمهورية التركية هو ذاته شعار الدولة العثمانية المعروف (بالطغراء) أمر ذو دلالة.

تضاف إلى ذلك خطوات أخرى متعددة تبنتها الحكومة التركية، منها تبني إنشاء مئات المشاريع الخدمية والعمرانية التي تحمل هوية الثكنات العثمانية القديمة، لعل أهمها قصره الرئاسي المعروف بالأبيض والذي بات يقف على بابه حراس يمثلون هوية 16 دولة عثمانية عبر التاريخ. كذلك التركيز على التعليم الديني وزيادة دور وزارة الأوقاف الدينية التي خصصت لها ميزانيات تفوق ميزانيات عشر وزارات. هذه الوقائع وغيرها تأتي تعبيراً عن نهج الأسلمة التدريجية للدولة والمجتمع، وتشير إلى رؤية أردوغان الرامية إلى إقامة ما يشبه خافة إسامية بهوية عثمانية جديدة، فلسان حاله يقول "إن العقود الماضية من عمر الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1924 لم تكن سوى فاصل في عمر الإمبراطور­ية العثمانية.. وأنه لا هوية لتركيا من دون عثمانيتها لغة وثقافة وجغرافيا، تمتد من بحر الأدرياتيك­ي إلى سور الصين". ويبدو أن أردوغان مسكون بهاجس السلطنة، ولا تفارقه صورة أجداده من ساطين الساجقة والعثمانيي­ن، إلى درجة أن أسماء هؤلاء تتكرر في كل خطاباته. وكثيراً ما يربط في هذه الخطابات بين أنقرة واسطنبول والمدن العربية، لاسيما القدس والقاهرة ودمشق وبغداد.

خاتمة

في الواقع، من الواضح أن أردوغان الذي يسعى بقوة هذه الأيام إلى الانتقال من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي يعطيه سلطة مطلقة بما في ذلك سلطة حل البرلمان، يعيش هاجس الزعامة الإسامية انطاقاً من مشروعه المعروف بالعثمانية الجديدة، خاصة بعد أن تحولت الأخيرة إلى فعل فكري وثقافي ولغوي، وسياسة رسمية لحكومة حزب العدالة والتنمية، وهو تحول دون شك ستكون له مقاربة حضارية جديدة على صعيد العاقة مع العرب وباقي دول الجوار والعالم.

ومشكلة أردوغان هنا، تتلخص في قضيتين. الأولى: هي أن تصوره لإعادة المجد العثماني بوصفه يمثل الازدهار الإسامي يقابل في العالم العربي صورة استعادة الاستعمار والهيمنة. ولعل الصورة أقسى بالنسبة لأوروبا التي يسعى أردوغان إلى عضويتها، فالدولة العثمانية بنظر الأوربيين تظل تلك الدولة الاستعماري­ة التي ارتكبت المجازر بحقهم واحتلت اسطنبول التي بنظرهم تبقى مركزاً روحياً للأرثوذكس. الثانية: هي أن بناء المستقبل وبلوغ القيادة العالمية لا يكونان بالعيش على أوهام الماضي وأمجاده وإنما ببناء دولة عصرية تمتلك الإمكانات والسياسات التي تؤهلها لهذه القيادة.

يبدو الإصرار على بناء سلسلة مساجد في مناطق متفرقة من العالم وفقاً للطراز العثماني، تعبيراً صريحاً عن أيديولوجية سياسية تجسد أيديولوجية حزب العدالة والتنمية في ممارسته الحكم والسياسة والنظرة المستقبلية والتعامل مع الآخر.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates