Trending Events

"الحراك الإثني":

محددات مستقبل الجماعات الإثنية في الشرق الأوسط د. أكرم خميس

- باحث متخصص في الشؤون العربية والإقليمية

إن أحد الافتراضات الشائعة أن الجماعات الإثنية والقومية في الشرق الأوسط، قد وجدت في التغييرات التي عصفت بالإقليم منذ اندلاع الثورات العربية، وما أعقبها من تداعيات مختلفة، فرصة للخلاص من نظم الحكم التسلطية التي لم تكتف بحرمانها من حقوقها، وإنما سعت للقضاء عليها، سواء برفض الاعتراف بها والعمل على إذابتها قسراً في المجتمع أو بتطويقها وإضعاف مقومات تماسكها.

يتطلب تفنيد هذا الافتراض بداية توضيح أن مصطلح الجماعة الإثنية ينصرف إلى "تلك الجماعة التي ترتبط بأصول مشتركة وتتمايز عن غيرها بإحدى السمات الأساسية كالثقافة والعادات والتقاليد ونمط الحياة واللغة والدين") أو أنها "تلك الجماعة التي لها تراث مشترك يتوارثه أعضاؤها إلى أن يصبح جزءاً عضوياً من وجودهم، يميزهم عن الآخرين ويشكل مصدر خصوصيتهم") ).

ويتأسس هذا الافتراض على قاعدتين: الأولى: مماثلة تاريخية بين ما يشهده الشرق الأوسط من تغييرات مهد لها الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003 من جانب، وما حدث في شرق أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة عندما انتهزت إثنيات عديدة كانت منضوية تحت حكم الأنظمة الشيوعية، الفرصة لتستعيد حقوقها المهدرة من جانب آخر.

الثانية: قناعة سياسية بأن بقاء الدولة القومية بالشكل الذي ظهرت عليه قبل قرابة قرن لم يعد ممكناً بعد كل ما أصاب المنطقة من تحولات عاصفة، ولذلك بات دخول من يسميهم "ميشيل فوكو" بأصحاب "الحياة العارية"، إلى متن التفاعلات السياسية، شرطاً لنجاح أي محاولة جديدة للتعايش المشترك، ما يعني بالتبعية أن انعتاق الجماعات الإثنية سيرتبط بتفعيل ثقافة التعدد، وكذا آلياته، اعتماداً على أسس شراكة ناضجة وديمقراطية.

في هذا الإطار تناقش هذه المقالة ثلاثة تساؤلات رئيسة هي:

• ما هي العوامل التي تحكم مسار تطور الجماعات الإثنية؟ • كيف، ولماذا، بزغت الجماعات الإثنية في الشرق الأوسط بعد بدء موجة التغيير لا قبلها؟ • هل تتوافر للجماعات الإثنية في الشرق الأوسط بأوضاعه الراهنة فرصة حقيقية للخلاص؟

اأولاً: الاإثنية وال�سراع الاإثني..اإطلالة نظرية

تتفق الأدبيات النظرية على أن الإثنية تشكل أحد محددات التفاعلات الاجتماعية والسياسية

داخل المجتمعات متعددة العرقيات، غير أن تحولها إلى محفز للصراع يتطلب توفر مجموعة من العوامل الوسيطة التي تحرك من ينتمون إليها لتحقيق مطالب خاصة بهم، من خلال التمرد على الدولة.

وتميز هذه الأدبيات بين أربعة أنماط لظهور المحفز الإثني( 3 ):

1- الكمون، وذلك في حال كانت الاستراتيج­ية المتبعة من قبل الدولة قائمة على التعدد والتعايش والاعتراف بالجماعات الأخرى.

2- الانسحاق، وهو يحدث إذا نجحت الدولة في استيعاب الجماعات الإثنية الأصغر في ثقافة الإثنية الأكبر.

3- التحفز، ويكون في الغالب رداً على سعي الدولة للإبقاء على الجماعة الإثتية في عزلة عن المجتمع لاعتبارات دينية أو عنصرية أو سياسية أو مادية أو أمنية.

4- التمرد، ويتحقق عندما يستحيل على الجماعة الإثنية التعايش داخل الدولة، وغالباً ما تواجه السلطة ذلك بالعنف المسلح، وهو ما يؤدي إلى رد فعل عنيف من الجماعة الإثنية الساعية للانفصال، فيما يطلق عليه "الصراع الإثني".

غير أن اتجاه الجماعة الإثنية إلى البديل الانفصالي (التمرد) لا يرتبط فحسب بنمط التعامل المعتمد تجاهها من قبل السلطة، وإنما تؤثر فيه عوامل أخرى تتباين الأدبيات النظرية في تحديد مصدرها، فثمة فريق يعلي من أهمية الدوافع السيكولوجي­ة مثل شعور أبناء الجماعة الإثنية بالاختلاف وتراكم الأحقاد التاريخية لديهم تجاه الآخرين... إلخ.

ويركز فريق ثانٍ على ما يُعرف بإدراك أبناء الجماعة الإثنية لأوضاعهم، ومن ثم تقديرهم لمسؤولية الإثنيات الأخرى عن ذلك، وقد تجسد تأثير هذه العوامل في حالات إثنية كثيرة منها: القهر الذي شعر به أبناء قبيلة التوتسي تجاه الهوتو، وما توفر لدى قبائل جنوب السودان من شعور بالغبن بسبب تفضيل العرب عليهم.

وقد ساندت العديد من الدراسات الإمبريقية فرضيات هذه المقاربة، حيث أكدت إحداها أنه من بين 27 نزاعاً كبيراً وقعت في عام 1996 ( 1000قتيل في العام)، كان السبب المباشر في 22 منها يعود إلى شعور جماعة إثنية بكراهية جماعات أخرى(4).

ويرى فريق ثالث أن الصراع الإثني هو نتيجة لتأثير فاعلين آخرين )مثل النخبة الحاكمة، ودول الجوار، والأحزاب، والزعامات الدينية، والشركات العابرة للقوميات... إلخ(، بحيث يمكن أن يكون هذا الصراع متوهماً أو مفتعلاً لأسباب غير ظاهرة. ومثال ذلك ادعاء النازية بأن الشعب الألماني جنس آري نقي، وإقناعها الأقليات الألمانية في تشيكوسلوفا­كيا، وبولندا، والنمسا، باختلافهم وسموهم العرقي.

يدخل في هذا الإطار أيضاً الدور الذي قامت به القوى الاستعماري­ة في وضع بذور النزاعات الإثنية في أفريقيا وآسيا، تنفيذاً لسياسة "فرق تسد" الشهيرة. وتعد المشكلة التاميلية في سيريلانكا مثالاً على ذلك، إذ إن أصلها يعود إلى قيام بريطانيا بنقل التاميل الهنود للعمل في الحقول السريلانكي­ة، وهي الطريقة نفسها التي اتبعتها بلجيكا بنقل مزارعين من جماعتي الهوتو والتوتسي من رواندا إلى شرق الكونغو(5).

فضلاً عن ذلك، وضع الاستعمار بذرة أخرى للصراع الإثني تمثلت في تبنيه نمطاً تنموياً غير متوازن أولاً، ثم بقيامه لاحقاً بترسيم الحدود بشكل مصطنع يتنافر مع واقع الشعوب الأفريقية والشرق أوسطية والآسيوية، وخصوصياتها(6).

لا يرتبط اتجاه الجماعة الإثنية إلى البديل الانفصالي (التمرد) بنمط التعامل المعتمد تجاهها من قبل السلطة فحسب، وإنما تؤثر فيه عوامل أخرى تتباين الأدبيات النظرية في تحديد مصدرها، منها: الدوافع السيكولوجي­ة، وإدراك الجماعة الإثنية لأوضاعها ورؤيتها للإثنيات الأخرى، وبروز فاعلين آخرين في الداخل والخارج يعززون هذا الصراع الإثني.

من جانب آخر يعود إذكاء العديد من الصراعات الإثنية إلى تأثير دول الجوار، وذلك من خلال دعمها للحركات الانفصالية، لاسيما تلك المتصلة بها إثنياً، وذلك على غرار ما يحدث في المواجهة الراهنة بين روسيا وأوكرنيا.

وتؤدي الصراعات الإثنية إلى نتائج عديدة قد تصل حد انهيار الدولة، مثلما جرى في الصومال عقب الإطاحة بنظام سياد بري عام 1991. كما تؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعي­ة، خصوصاً في مناطق الصراع، ناهيك بالطبع عن شيوع الفساد والتجارة غير المشروعة في السلاح والبشر والمخدرات... إلخ(7).

ثانياً: اأ�سباب ومظاهر بزوغ الاإثنيات في ال�سرق الاأو�سط

وفرت حركة الأحداث في الشرق الأوسط مجالاً رحباً لبزوغ الهويات الإثنية، ففي إيران بدا أن احتماء الأغلبية الفارسية المهيمنة بمشروعها المذهبي لم يعد قادراً على لجم الأقليات الإثنية المقهورة)8،( وهو ما ظهر مؤخراً في تظاهرات كل من العرب الأحواز والكرد في إيران على خلفية أحداث محددة استخدمت فيها قوات الأمن الإيرانية القوة كجزء من سياسة طهران تجاه الأقليات القومية.

وفي ليبيا التي عاشت عقوداً طويلة على المقولات القومية والأممية الصاخبة، ظهر الأمازيغ بعد سقوط نظام القذافي كطرف مهم في المشهد السياسي والاجتماعي(9)، وهو ما ينطبق إلى حد كبير على تنامي النزعة الانفصالية

لدى الجماعات الإثنية في السودان بعد حصول الجنوب على الحكم الذاتي في عام (10 2005).

أما في سوريا، حيث طغى البعد الطائفي على الصراع بين نظام الرئيس بشار الأسد ومعارضيه منذ بداياته في مارس )11 2011،( فعبرت الإثنية – الممثلة بالدرجة الأولى في الأقلية الكردية التي تقدرها بعض المصادر ب 14% من إجمالي السكان - عن نفسها بتحركات متدرجة تضمنت الإعلان عن دعم خجول للثورة، ثم تطبيق حكم ذاتي في بعض مناطقها، وصولاً إلى التصدي لمحاولة تنظيم "داعش" السيطرة على مدينة "عين العرب – كوباني" في خريف عام 2014، مع ملاحظة أن هذا التصدي أثر إيجاباً على معنوية الإثنية الكردية في سائر مواطنها)12( في تركيا وإيران.

وفي المغرب العربي، تنامت على نحو ملحوظ نزعة قومية أمازيغية، أعادت تعريف القضية الأمازيغية من جديد، لا بوصفها قضية واقع تهميش لغوي وثقافي واقتصادي واجتماعي لشريحة من السكان، وإنما على أساس كونها قضية قومية تتجاوز حدودها الوطنية إلى الامتداد الإقليمي، لتصبح تعبيراً عن صراع مفترض بين ذات "أمازيغية" أصلية، وأخرى"عربية" دخيلة(13).

ومع أن بزوغ الإثنيات يشكل جزءاً من مسار التفاعلات الكلية في المنطقة، فإن ثمة من ينظر إليه باعتباره الرافعة التي سيتشكل عليها الشرق الأوسط الجديد، ليس فقط لأن تنويهات غربية ظهرت في هذا الاتجاه على غرار ما جاء في مشروع "حدود الدم" الذي طرحه الضابط الأمريكي السابق، رالف بيترز، وكان ملخصه أن تحقيق الاستقرار في المنطقة يتطلب استبدال الحدود الاعتباطية التي وضعها الأوروبيون، بخريطة جديدة تعتمد على الانتماءات الأولية، وإنما أيضاً لشعور هذه الإثنيات بإحباط مركب تجاه الدول القومية التي احتوتها من جهة، ثم تجاه الجماعات المهيمنة فيها من جهة ثانية.

ولا يعفي أصحاب هذا المنطق التقسيم الاستعماري لجغرافيا المنطقة من مسؤولية التأسيس لمعظم المظلوميات الإثنية فيها)14؛( إلا أن ذلك لا يبرئ النخب الحاكمة من وزر تفاقم المشكلة، ومن ثم المساهمة في دفع هذه الإثنيات لتبني البديل الانفصالي)15).

ويقول أحد الباحثين: "تركت معظم تجارب الحكم في دول المنطقة أثراً سلبياً عميقاً لدى الجماعات الإثنية، بما في ذلك تلك التي شاركت بأدوار مهمة في تاريخ بناء دولها على نحو ما فعل تركمان العراق ضد الاحتلال البريطاني)16.( ويرى باحث آخر أن موقف الدولة العربية من أقلياتها الإثنية، اتسم بالرجعية، وذلك من خلال تبنّيها تصوراً بالغ الصرامة لفكرة الدولة القومية".

في هذا الإطار يُشار إلى السودان كنموذج صارخ على دور السلطة في تحريك الصراعات الإثنية، فمن جهة "اعتزت الحكومات المتعاقبة - البرلمانية منها والديكتاتو­رية على حد سواء – بالسوداني العربي لدرجة أنها أصرت على أن يكون الاستيعاب، بدلاً من التعددية والقبول بالتنوع، هو المنظور الأوحد لا غيره للوحدة الوطنية. ومن جهة ثانية لم تتعلم النخب السودانية التالية من التداعيات السلبية لهذا الاختيار، فعمقته من خلال تحويل "الاستعراب والأسلمة" إلى سياسات عسكرية، حتى إن الرئيس عمر البشير أعلن في التسعينيات أن "نظامه يكافح في سبيل وجود السودان العربي المسلم"(17).

ثالثاً: م�ستقبل الاإثنيات في ال�سرق الاأو�سط

حظي البحث في مستقبل الجماعات الإثنية، لاسيما في البلدان غير المستقرة، مثل سوريا وليبيا، وإلى حد ما إيران، باهتمام مراكز البحث ومنابر النقاش العام كالصحف والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي. غير أن قراءة سريعة للاجتهادات المطروحة في هذا السياق تكشف عن غلبة واضحة للحس السياسي مع نزوع لتقديم ما يُعرف في الأدبيات المستقبلية ب "السيناريو الأمثل"، وذلك على غرار ما أظهرته الباحثة في معهد كارينجي، لينا الخطيب، عندما دعت إلى تجنب نموذج المحاصصة الطائفية المعتمد في كل من لبنان والعراق، عند صياغة مستقبل سوريا)18،( وكذلك توصية مشاركين في مؤتمر "مستقبل إيران" )عقد في السويد، مايو 2014) بضرورة الأخذ بنظام حكم فيدرالي يضمن التعايش السلمي بين الإثنيات المختلفة، كبديل للوضع الحالي)19).

على الرغم من أن أحداث منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع الماضية قد وفرت فرصة مواتية للعديد من الإثنيات في دول المنطقة لمحاولة الخروج عن النظم السلطوية، فإن مستقبل هذا الحراك الإثني يحتاج إلى كثير من التأني، إذ يستحيل الوصول إلى خياري التعايش في دولة تعددية أو الانفصال عن الدولة الأولية.

ومع الاعتراف بأن تسارع الأحداث في المنطقة، معطوفاً على فجائيتها، يشكل عائقاً أمام استشراف سيناريوهات دقيقة في مختلف الاتجاهات، فإنه يمكن القول إن مصير الأقليات الإثنية في الشرق الأوسط يتحدد بنوعين من المحددات، الأول: كلي يرتبط بمجمل الأوضاع في المنطقة. والثاني: جزئي يتضمن العديد من الأبعاد مثل الوزن النسبي للجماعة الإثنية داخل مجتمعها، وما تمتلكه من تأثير مقارنة بغيرها من جهة، ومواجهة الهويات البديلة من جهة ثانية، فضلاً عن درجة تماسكها وخصائص النخبة التي تمثلها... إلخ.

وعلى سبيل المثال، يعد الوزن النسبي الضئيل للإثنيات المهمشة في إيران نقطة ضعف تجعل من الصعب على

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates