Trending Events

"إحياء العروبة":

اتجاهات ومستويات استعادة المسألة "العروبية" د. عمار علي حسن

- كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي

ليس عنوان ”إحياء العروبة“محض تفكير بالتمني، ولا هو مناشدة ملحة بغية إنقاذ العرب من مصير مخيف ينتظرهم إن لم يبدعوا ما يجعل بوسعهم تفادي التفكك والانهيار والعنف الدموي، لكنه تعبير عن رؤى وحركة تتراكم مؤشراتها في الواقع المعيش لتبين أن هناك من يقدر الظرف العصيب الذي تمر به الدول العربية في الوقت الراهن، بتوصيفه وتشخيصه، ثم يسعى إلى تلمس سبل الخروج منه.

ابتداء فإن "العروبة" تقف على تلٍ من الجدل السياسي والثقافي الذي امتد على مدار قرن كامل، ولم يُحسم إلى الآن، فحين ولدت فكرة القومية العربية نظرت السلطة العثمانية إليها باعتبارها تشكل خطراً داهماً على "الخلافة الإسلامية"، ولذا ناصبت الجماعات والتنظيمات الدينية السياسية "العروبة" عداءً دفيناً، ولم تنفع الأصوات التي نادت بالتوليف بين "القومية العربية" و"الفكر الإسلامي" في إحداث اختراق ملموس على هذا الدرب.

ولذا فإن إحياء مشروع العروبة أو المطالبة بهذا، على الأقل، لايزال يواجه تحدياً شديداً من مشروع أممي مغاير، تتمسك به الجماعات التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لتحصيل السلطة.

ويبدو أن خيار "إحياء العروبة" بات ملحاً في ظل التحولات المصيرية التي تواجهها الدول العربية من المحيط إلى الخليج، جراء الصراع السياسي والطائفي، والأطماع الإقليمية والدولية.

وهذا الإلحاح ليس وليد السنوات الأخيرة، لكنه مستمر عند قطاعات من النخبة السياسية في مختلف أنحاء العالم العربي، إما تؤمن بالقومية العربية وتضع أمامها لافتة "وطن عربي واحد"، أو ترى أن من الضروري أن ينسق العرب فيما بينهم في مجالات عدة، اقتصادية وعسكرية وأمنية وسياسية وثقافية.

اأولاً: الاتجاهات ال�سيا�سية ل "اإحياء العروبة" ظهرت في الآونة الأخيرة ثلاثة اتجاهات سياسية نحو "إحياء العروبة" يمكن ذكرها على النحو التالي: 1- مصلحة أي قطر على حدة تتجسد أكثر بالتنسيق مع الكل: وعلى سبيل المثال لا الحصر، أصدر أربعة من الباحثين اللبنانيين هم نقولا الفرزلي، ورغيد الصلح، وعاصم قانصوه، وواصف شرارة، كتاباً أعطوه عنواناً لافتاً هو "العروبة ولبنان" )1،( رأوا فيه أن حل المعضلة اللبنانية لا يكون إلا في إطار عروبي، شأنها كبقية الدول العربية فرادى، من منطلق أن "العروبة" هي طريق الخلاص لأمّة غارقة في مآسيها، وأن الإنسان العربي المؤمن بوطنه وأمته، والمُسلّح بالعلم والمعرفة والإدراك في تثبيت الوحدة الوطنية داخل كلّ بلد عربي، هو اللبنة الأساسية لمقاومة كل المشروعات الرامية إلى موت العروبة، كفكر وحركة.

2- هناك من يرى أنه من الضروري تجديد الأفكار العروبية، أو تلك التي كانت الوحدة العربية جزءاً أصيلاً من مسارها، مثل "الناصرية"، وهنا يمكن الإشارة إلى كتاب صدر مؤخراً بعنوان "تجديد الفكر الناصري" ، لا يريد مؤلفه بالطبع للماضي أن يعود كما كان، فهو يدرك مقدار ما جرى في النهر من مياه، ولذا يقول: "هذا الكتاب يجتهد من أجل أن يستشرف الجمهورية الثالثة، أي مشروعنا الوطني القومي القادم من أجل الحرية والنهوض الشامل والعدل الاجتماعي وتحرير وتوحيد الأمة... آفاق الجمهورية الثالثة التي ليست فحسب استعادة ثورة وثورية الجمهورية الأولى أو الثورة من جديد، بل تجديد الثورة... إنها جمهورية 25 يناير 30 يونيو كحلقة تستأنف وتتوج كل حلقات وحركات الوطن الثورية في تاريخنا الوطني والقومي الحديث والمعاصر".

هذا معناه أن المؤلف المنتمي إلى "الناصرية" فكراً وحركة، يتعامل مع ما جرى في 25 يناير باعتباره رغبة شعبية في تجديد ثورة يوليو 1952 على مستوى التوجهات والرؤى، وليس قطيعة معها، ينتقل بمقتضاها الحكم إلى المدنيين، وتتراجع عسكرة "العقل" و"الإدارة" في مصر، وهو ما كان يسعى إليه الثائرون، لاسيما الطليعة منهم، التي نظرت إلى مبارك باعتباره، وإن كان قد خرج كسلفه السادات على نهج ناصر، فإن جزءاً لا يستهان به من شرعيته، ولو على مستوى الخطاب أو الادعاء، كانت مستمدة من يوليو.

ولهذا يطالب الكاتب بتجديد ميثاق العمل الوطني الذي قدمه عبدالناصر في 21 مايو 1962، باعتباره "النظرية الثورية الناصرية". ولا يقف الطلب عند حد تجديد الأفكار إنما يمتد إلى تجديد الحركة، وهنا يقول: "تظل الحركة الناصرية في مصر بحاجة ملحة إلى تأسيس تنظيم واحد كبير فاعل، يضم كل القوى، وتتكامل فيه مختلف الطاقات، بعدما حدث من اندثار وتداع منذ عام 1996." 3- الإبقاء على "الكتلة العربية الحية" وتنطلق هذه الرؤية من اعتراف وإقرار بأن العالم العربي قد تآكلت أطرافه، وانهارت بعض وحداته الوطنية، أو باتت على شفا الانهيار وهو يواجه العنف والإرهاب، وليس بوسعها أن تتعافى من توعكها في زمن سريع، ولذا لابد من أن يتم التركيز على الدول التي حافظت على تماسكها في إطلاق صيغة جديدة لعمل عربي مشترك، ثم محاولة لملمة أشتات الدول التي تفرقت، ومساعدتها على وحدة التراب الوطني، والتماسك الاجتماعي.

ثانياً: مظاهر وجهود �ستى ل احياء العروبة"

" بين هذه الأطروحات الثلاث السابقة، هناك جهود تبذل، طيلة الوقت، من أجل أن تبقى "العروبة" لغة وفكراً واتجاهاً على قيد الحياة، إذ لم تتوقف المناداة بالاهتمام باللغة العربية، وتم تأسيس مؤسسات وإطلاق دوريات وعقد مؤتمرات وندوات لحمايتها، ونادى البعض بتعريب العلوم جميعاً، ورأوا أن اللغة العربية قادرة على حمل مختلف العلوم، وخصصت جوائز مجزية للرواية العربية وكذلك الشعر.

واستمر من يطالبون بتوحد مواقف العرب في وجه المخاطر التي تتهدد دولهم، وأراد كثيرون أن ينفخوا في أوصال جامعة الدول العربية كي تصلح من نفسها وتقود "النظام الإقليمي العربي"، عبر تعزيز "التجارة العربية البينية" وتفعيل "اتفاقية الدفاع العربي المشترك".

كما استمر من يرفضون استعمال اسم "العالم العربي" أو "المنطقة العربية" بديلاً ل "الوطن العربي" حتى في أشد حالات العرب ضعفاً وهواناً.

وفي الوقت الراهن يتجه العرب إلى تكوين "قوة عسكرية مشتركة" وعقد رؤساء أركان جيوش الدول العربية أكثر من لقاء لتحقيق هذا الهدف. وهي فكرة تمت ترجمتها إلى إجراءات قابلة للتطبيق، لاسيما أن التحديات التي تواجه الدول العربية حالياً تفرض هذا.

من جانب آخر تجدد الحديث عن ضرورة إحياء مدرسة "النجف" ومسارها في الفقه الشيعي لمواجهة مدرسة "قم" التي توظف التشيع في خدمة المشروع الإيراني.

ويبدو أن الوقت قد حان ليفكر العروبيون في رؤية لتجديد مسارهم، إذ من العبث أن يتركوا نضالهم الفكري والحركي الذي امتد قرابة قرن كامل ينتهي إلى فشل ذريع، أو ينسحب إلى الهامش، مكتفياً بمتابعة محايدة باردة لما يجري من تشكل للأفكار والسلوكيات السياسية في العالم العربي، ابتداء من تغيير اصطلاح "الوطن العربي" إلى "العالم العربي" ثم هبوطه إلى "المنطقة العربية"، وانتهاء بطرح مشروع خارجي يتمثل في "الشرق أوسط الموسع"، الذي تم رسم حدوده، وتعيين أهدافه، لينهي "النظام الإقليمي العربي" سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ويجعل من "العروبة" مصطلحاً تاريخياً.

ومن العبث أيضاً أن يعتقد القوميون أن الحل يتمثل في إعادة الزمن إلى الوراء، والتمسك بأفكار وأعمال ثبت خطؤها، ومخاصمة السياق الجديد الذي يفرض نفسه على العرب، والذين ساهموا هم أنفسهم في صنعه، أو استحضاره،؛ فمن دون ذلك سيزداد العروبيون غربة في بلادهم، وتصبح أطروحاتهم عن الأمة الواحدة الممتدة جغرافياً من الخليج إلى المحيط، وتاريخياً من عدنان وقحطان إلى جامعة الدول العربية، وثقافياً واجتماعياً من لغة الضاد إلى أغلبية تدين بالإسلام، مجرد أضغاث أحلام، لا تلبث أن تذوب أمام شمس حارقة بحقائق مغايرة.

ومن دون ذلك ستخسر هذه البقعة الجغرافية من العالم، التي تمثل مهبط الرسالات السماوية ومهد الحضارات الإنسانية، جهد ملايين المخلصين، الذي آمنوا بفكرة شغلت لفيفاً من المفكرين والسياسيين، منذ عبدالرحمن الكواكبي وحتى اللحظة الراهنة، ودفع لأجلها مئات الملايين ثمناً باهظاً، لأن "الإخلاص" وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بالصواب، الذي يحوله من طاقة عاطفية هادرة إلى تصورات قابلة للتطبيق، وقادرة على حل المشكلات الطارئة والمزمنة، وتحويل الهزيمة إلى نصر، والتخلف إلى تقدم، والقعود إلى نهوض، والاتجاه للتفكك إلى تماسك، والاقتتال إلى سلام وسكينة.

ثالثاً: القوميون الجدد و�سروط اإحياء العروبة

هنا باتت الحاجة ملحة، والساحة مهيأة، لميلاد تيار قومي آخر، يستفيد من أخطاء الماضي، ويرنو إلى المستقبل بثقة بعد أن يمتلك شروط ميلاد الغد. إنه تيار يمثل "قوميين جدداً" يختلفون في الاستراتيج­ية عن "الليبراليي­ن الجدد" الذين ينظر إليهم في وطننا العربي على أنهم "حصان طراودة" الذي يريد أن يرهن بلادنا للقوة الكبرى في العالم، بعد مسخ ومسح هويتنا وخصوصياتنا، الممتدة من بطون الكتب المقدسة، إلى الأفكار والتقاليد والعادات الراسخة في عقولنا، والتي لا يمكن لمنصف أن يقول إنها شر محض، أو أن كلها واجبة الدفن.

لكن "القوميين الجدد" يجب أن يتخلوا عن رمي كل من يخالفهم الرأي بالخيانة والعمالة، بل عليهم "التوقف والتبين" بلغة بعض الجماعات والتنظيمات السياسية التي تحول الإسلام إلى أيديولوجيا، أمام كل حالة على حدة، وعليهم أن يؤمنوا تماماً بالحرية، ويعلموا أن غيابها ساهم في تردي أحوال النظام العربي.

كما أن عليهم أن يوجهوا جهدهم أولاً إلى ترتيب البيت العربي من الداخل، حجرة حجرة، أو دولة دولة، عن طريق المضي قدماً في الإصلاح، السياسي والاقتصادي والثقافي. فالديمقراط­ية أول علامات النجاح على إمكانية استعادة العرب حيويتهم في النظام الدولي، لأنها ستجعل القرار في يد الشعوب، وليس في أيدي سلطات مستبدة، أو "ملوك طوائف جدد" باعوا السيادة الوطنية والاستقلال من أجل البقاء في الكراسي أطول فترة ممكنة، وفسدوا وسرقوا مقدرات الأوطان وثرواتها، ودفعوا العقول العربية النابهة إلى نزيف منظم، وفرطوا في تحقيق الاستقلال الوطني الحقيقي، وأضعفوا مناعة بلدانهم، فلما شهدت انتفاضات وثورات اهتزت وانهارت.

وحيال هذا الوضع الشاذ، بات التجديد السياسي "فرض عين" أمام العرب، وإلا مات مشروعهم القومي، المتيبسة مفاصله، والمدفوع عنوة إلى معركة غير متكافئة نسبياً، مع مشروع إقليمي شرق أوسطي ماض في طريقه المخطط له، من دون هوادة ولا تراجع.

والتجديد يعني في المقام الأول مفارقة مثالب الأيديولوج­يات، التي اعتنقتها تيارات قومية عربية عدة، على مدار القرن العشرين، وفي مقدمتها "الناصرية" و"البعثية"، وامتلاك رؤى وتصورات خلاقة قادرة على التكيف مع واقع جديد، يختلف كلية عن ذلك الذي مثل سياقاً دولياً ومحلياً للحركة والتفكير القومي العربي قبل أكثر من نصف قرن تقريباً.

ويحتاج هذه التجديد إلى أمرين أساسيين، الأول هو رؤية يبلورها مفكرون قوميون عرب، ينتمون إلى مختلف المدارس السياسية العربية، التي يجمع بينها الإيمان بفكرة "العروبة" وإن اختلف جدول أولوياتها حول القضايا المحلية والدولية الراهنة، وحول ترتيب سلم القيم السياسية، كأن يقدم البعض الحرية على المساواة، أو العكس، أو يرى آخرون أن العدالة هي القيمة الأولى بالرعاية.

والثاني هو إيجاد مجتمع عربي يؤمن بهذه الرؤية ويطبقها في الواقع المعيش. فكثير من الأفكار ماتت بين أضابير الكتب، مهما كان حد اكتمالها وحيويتها، بينما نجح من حازوا قدرة على الحركة حتى إن لم يمتلكوا رؤية سياسية وفكرية مكتملة الأركان، قوية الحجة، في أن يحشدوا وراءهم جماهير غفيرة، حملت الراية من جيل إلى جيل، وعملت على تطوير التفكير السياسي، أو ترميم إطار عام للحركة، بما يجعلها أكثر ملاءمة لواقع يتجدد باستمرار.

ولابد من حشد الجماهير وراء هذا المشروع، وهو أمر يتطلب أولاً وجود فكرة، يتبناها تيار سياسي يسعى إلى إنقاذ الوطن العربي، بانتشال الوحدات المكونة له، وهي الدول القطرية، من التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الذي تعيشه حالياً. فإذا تعافت الأجزاء، أصبح بوسع "الكل العربي" أن يتفاعل على أرضية جديدة جيدة، بما يحصن الدول العربية ويجعلها في منعة من الضغط الخارجي القاسي، الذي يرمي أساساً إلى هضم العرب في استراتيجيا­ت وضعها غيرهم لخدمة مصالحهم.

يمكن التفرقة بين ثلاثة مستويات لتجديد المسألة العروبية، وهي: العروبة كأيديولوجي­ا، والعروبة ككيان سياسي، والعروبة كحضارة. وإذا كان المستوى الأول والثاني قد شهدا تراجعاً في السنوات الأخيرة، فإن المستوى الثالث لايزال يقظاً يحمي العروبة من ناب فارسي وآخر تركي وثالث " داعشي".

رابعاً: ثلاثة م�ستويات لتجديد الم�ساألة العروبية

في هذا المضمار علينا أن نفرق بين ثلاثة مستويات للمسألة "العروبية"، حتى نشخص الحالة التي نعيشها على نحو سليم، هي: أ العروبة كأيديولوجي­ا، والتي جسدتها الأطروحات التي ذاع صيتها في نهاية القرن التاسع عشر، وتبلورت ملامحها، وتحدد قوامها في النصف الأول من القرن العشرين، من خلال الكتابات والتصورات والأفكار التي دارت حول "القومية العربية". ب العروبة ككيان سياسي، من خلال الطرح الناصري والبعثي حول الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج. ج العروبة كحضارة، ترتكز على لغة واحدة، وتاريخ مشترك، وثقاقة ودين، ومعطيات جغرافية.

وإذا كان العروبة كأيديولوجي­ا أو ككيان سياسي، قد شهدت تراجعاً وترنحاً في السنوات الأخيرة، فإن الصيغة الثالثة منها باقية، على الرغم من التغيرات السياسية الجارحة، التي وضعت المشروع العربي بين ثلاثة أنياب، ناب فارسي، وناب تركي، وثالث يمثله "داعش" الذي يطرح مشروعاً أممياً يقوم على القسر والعنف والدم.

ومن المتصور وجود حزمة من المبادئ العامة التي يقوم عليها هذا التيار الجديد، يمكن ذكرها على النحو التالي: 1 منظومة قيم لا أيديولوجيا: فقد جرب العرب الأيديولوج­يات الجامدة غير مكتملة الملامح، والتي علّمت من اعتنقوها كيف

يبررون أوضاعاً خاطئة، ويمارسون وعياً زائفاً ضد الجماهير الغفيرة، ويفتقدون مهارة النقد البنّاء، ويفشلون في تريب الأولويات.

وأدى هذا الوضع، في كل الأحوال، إلى إضعاف قيمة الحرية، إن لم يكن الإتيان عليها تماماً. وانتهى هذا التأدلج إلى إخفاق تلو الآخر، فتطبيق "المساواة الحسابية" في الاقتصاد قاد بعد بضعة عقود إلى أغلبية كاسحة ما بين فقيرة وتحت خط الفقر وأقلية من القطط السمان. وانتهت رأسمالية الدولة أو التخطيط المركزي للاقتصاد إلى "دولة خاسرة" باعت ما أغلب ما تملكه بثمن بخس، ولم يبق من وهج الأيديولوج­يا سوى الميراث الاستبدادي.

أما المزاوجة بين الحرية والمساواة والعدالة والتسامح، والحصول على الوسيط القيمي بينها ليشكل إطاراً عاماً للحركة السياسية والاجتماعي­ة العربية، ستقود إلى نتائج أفضل بكثير من الأيديولوج­يات الجامدة البائسة. 2 المؤسسة وليس الفرد: فالعرب عوّلوا طويلاً على الشخصيات "الملهمة"، ولا تزال تعشش في أذهان الكثيرين منهم أحلام انتظار الفارس المقدام، الذي يخرجهم من النفق المظلم الذي يمرون به. وقد آن الأوان للجميع أن يؤمنوا بالمؤسسة، ويحصّلوا ثقافتها، التي تتطلب توافر القوانين واللوائح الضابطة، والمعايير والحدود الجلية، وتطبيق مبادئ الرقابة والمحاسبة، التي تمنع الدكتاتوري­ات والأوليجار­كيات، التي عرفتها الدول العربية خلال مرحلة ما بعد الاستقلال. 3- الناس قبل السلطان: فتطبيق أفكار "القومية العربية" قام على أكتاف من بيدهم السلطة، وحتى إن جاء بعضهم إلى سدة الحكم من دون أفكار مسبقة، فإنهم لم يلبثوا أن تبنوا التصور القومي، بحثاً عن شرعية، ومن ثّم لم يخلصوا للعمل القومي كما ينبغي، إنما اتخذوه، في أغلب الأحيان، مطية لترسيخ سلطانهم. أمّا لو امتلكت الشعوب ناصية قرارها، فاختارت من يحكمها، وصوتت على الإطار السياسي الذي يشكل مرجعية مرنة للسلوكيات والقرارات اليومية، وأبرمت "عقداً اجتماعياً" مع السلطة لتسيير الأمور على ما يرام، فإن هذا يعزز من فرص إقامة علاقات عربية عربية على أساس متين، لا يتأثر بأهواء بعض الحكام ولا يتضرر من الأمور العارضة التي طالما عكرت ما بين دولة عربية وأخرى، في مشهد مللنا تكراره. 4- قومية لا تخاصم القطرية والأممية: فالعروبيون عاشوا عقوداً ينظرون إلى القطرية والأممية الإسلامية على أنهما خصيمان للقومية العربية، وتجاهلاً في غمرة الشعور الزائف بالانتصار الحتمي، أن المتحمسين لرفعة أقطارهم لا يعادون بالضرورة العمل العربي المشترك، وأن الحالمين بأمة إسلامية واحدة لا يقفون جميعاً في جبهة معارضة للعمل القومي، أو يستسلمون لأوهام المتطرفين، بل إن منهم من رأى في العروبة قلباً للأمة الإسلامية، أو مقدمة لها، أو أنهما لا يتعارضان أبداً، إن فارقنا التصورات التاريخية التي عفا عليها الزمن، ويعتقد أصحابها أن بوسعهم أن يعيدوها إلى الحياة، كما هي، وليست بالمستوى الحديث الذي سلكه الاتحاد الأوروبي مثلاً، حين نسق بين وحداته، من دون الجور على "الدولة الوطنية".

وعلى هذه الأركان الأربعة، التي تنتظر الإضافة والتعديل والتطوير، من الضروري أن يجري حوار بناء بين النخب السياسية والفكرية العربية المتبنية للتوجه القومي، والمتعاطفة معه، من أجل بلورة "ورقة عمل" يتم إخطار الجماهير الغفيرة بها، لإيجاد حالة من التعبئة القوية حول برنامج تأخذ قوة سياسية في كل دولة عربية على حدة، على عاتقها تطبيقه في الواقع، في سبيل إنقاذ الوطن العربي من الوقوع مرة ثانية في فخ الاستراتيج­يات الرامية إلي جعل "العروبة" مجرد مسألة تاريخية.

وورقة العمل هذه يمكن أن يتم تداولها في نقاش أعمق، تقوم به جهات عربية عدة، في مقدمتها الأحزاب العربية ذات التوجه القومي، والجمعيات والهيئات العربية غير الرسمية، وقطاعات المثقفين "العروبيين"، الذين يهمهم إنقاذ العرب مما هم فيه، والذين بذلوا جهداً فكرياً وحركياً ملموساً في سبيل بلوغ هذه الغاية النبيلة.

ويمكن أيضاً لجامعة الدول العربية، بوصفها بيت العرب الأكبر، أن تشرع في هذا النقاش عبر مؤسستها التعليمية، المتمثلة في معهد البحوث والدراسات العربية، أو من خلال مؤسستها الثقافية وهي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بحيث تنظم مؤتمراً موسعاً، يحضره مسؤولون عرب من صانعي القرار، أو مستشارو القادة السياسيين والمقربين منهم، وكذلك ممثلون عن الأحزاب المعارضة، وقوى المجتمع المدني، ومثقفون عرب، من قادة الرأي والفكر، الذين يتمتعون بسمعة طيبة، ولهم قدرة على إقناع الرأي العام بالرؤية المشار إليها سلفاً.

وأياً كانت الجهة العربية التي تتبنى هذا المؤتمر فإن عقده بات ضرورة، لا يمكن التشكيك فيها إلا ممن يريدون للعرب دخولاً نهائياً إلى نفق التاريخ. وإذا كان البعض يتصور أن وقت المؤتمرات قد ولى، وأن المشكلات العربية لن تحلها الكلمات، فيجب ألا ينسى هؤلاء أن كل الخطط التي يرسمها أعداء العرب، أو الطامعين فيهم، تبدأ بكلمات. لكن الفارق الجوهري بيننا وبينهم أننا في أغلب الأحوال نكتفي بالكلام، أما هم فيحولون الحروف إلى آليات قابلة للتطبيق في الواقع، ثم يشرعون على الفور، أو حين تسنح أفضل الفرص، في تنفيذها.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates