Trending Events

هل انتهى النظام الإقليمي العربي؟

د. يوسف الحسن

-

النظام الإقليمي العربي، هو أنماط من التفاعلات السياسية والاقتصادي­ة والاجتماعي­ة والثقافية والإنسانية والأمنية، بين دول عربية جمعتها عناصر وروابط مشتركة، وهوية قومية، وتاريخ ومصالح وطموحات مشتركة.

تنوعت في إطار النظام الإقليمي العربي أنماط التفاعلات البينية، من تعاون وتنافس وصراعات ونزاعات، وتبلورت قبل نحو سبعين عاماً في صيغة مؤسسية، هي جامعة الدول العربية، والتي لاتزال قائمة حتى الآن. تنشط حيناً وتتعثر حيناً آخر، لكنها لم تتطور أو تتكيف مع متغيرات وتحولات إقليمية ودولية، ومع ذلك ظلت رمزاً للاصطفاف العربي، ورمزاً "للشرعية" العربية الرسمية الجمعية، حتى في حالات لم يتحقق فيها التضامن المطلوب، والتكامل المنتظر.

اأولاً: التغير في بيئة النظام العربي

لقد تغيرت بيئة النظام الإقليمي العربي في السنوات الأخيرة، بشكل دراماتيكي، بفعل عوامل ذاتية وداخلية وإقليمية، وتحولات في أوزان وتوازنات وأدوار للقوة والدول، وظهور قوى جديدة من غير الدول، وإن كانت تمثل خطراً جسيماً للدول، ومن ثم لمجمل النظام. وأضحت بيئة النظام أكثر ضبابية والتباساً، بل وقتامة. بيئة أصابها وهن القوة والهيبة والإلهام وأحياناً "قلة الاحترام". لقد فقدت بيئة النظام العربي الكثير من معناها وعناصرها وإمكانياته­ا، فقد انهارت دول وتهشمت أخرى، وانزوت بعضها على نفسها تداوي همومها، وتواجه أزماتها. "وكبرت" دول صغرى، وتراجعت مكانة وأدوار دول كبرى تقليدية.

لقد "تكسرت" حدود النظام الإقليمي العربي، وتحلل بعض أعضائه من التزاماته تجاهه، وسقطت حدود متعارف عليها، وارتفع منسوب ومساحات مخاطر الحروب الأهلية، وتآكلت دول في النظام الإقليمي ووصلت إلى وضعية الدولة الفاشلة العاجزة عن إدارة نزاعاتها الداخلية وتنمية مجتمعاتها. وجاءت هجمة الجماعات الجهادية الإسلامية والمذهبية العنيفة لتكسر حدود النظام. هجمات شنها جهاديون أتوا من الشيشان وأفغانستان بل ومن أستراليا وفرنسا وإيران وأفريقيا وغيرها من الأماكن، رافعين شعارات ومشاريع خلافة وإمارات إسلامية. وأمام هذه الهجمات تبخرت كلمة "عربية" من سمة هذه التفاعلات الصراعية، وبات الحديث عن دول الطوائف والأعراق والقبائل. وغرقت الدول العربية في مآسٍ وأزمات حادة في الهوية والولاء، والنزوح والإبادة، وغابت المظلة المدنية الجامعة، وحضر واتسع المجال المغناطيسي للصراع السني- الشيعي، وتحول الانتماء المذهبي إلى "ميليشيا" تنافس الدولة الوطنية سياسياً وأيديولوجي­اً وعسكرياً، وعابر للحدود أيضاً.

تغير أيضاً السلوك الخارجي في النظام الإقليمي العربي، بما فيه مؤسسته الرسمية. وصار يندر أن لا تشجع دولة عربية (إلا من رحم ربك)، ونخب وتنظيمات سياسية عربية، الدول الأجنبية والكبرى على التدخل في شؤون الدولة الوطنية، على الرغم من كل شعارات الاستقلال والسيادة الوطنية. صارت الساحات العربية متاحة لمن يريد أن يتدخل في شؤون غيره. وجاءت قوى إقليمية غير عربية تطالب "بحقها" في التدخل في الشؤون العربية، أسوة

بالدول الكبرى التي تدخلت.

خلاصة المشهد إذن: حالة من الانهيار، والخوف من المستقبل، أو على الأقل حالة من السيولة المرعبة، يعيشها النظام الإقليمي العربي. حتى لو سلمنا ببقاء "لافتة الجامعة العربية"، وعلمها على مبناها في ميدان التحرير بالقاهرة. وتحضرني هنا، لافتة وعلم مرفوعان على مبنى كبير يحمل اسم (منظمة الدول الأميركية) في واشنطن دي سي منذ عام 1948، وعدد أعضاء هذه المنظمة نحو 35 دولة، وتهدف إلى إقامة علاقات سلمية بين دولها، تجتمع بين حين وآخر، لكن بلا نفع ولا طعم ولا لون، فقد تجاوزت التفاعلات الواقعية في الأميركيتي­ن هذا الكيان، وبقي الشكل والمبنى والأمين العام والذكرى.

ثانياً: هل يمكن للنظام الاإقليمي العربي الا �ستمرار؟

لكي يستمر النظام الإقليمي العربي، يجب التفكير في تحقيق عدد من المتطلبات بداية. منها: - أن تتوفر الإرادة والفرصة للتفكير في إعادة الحياة والعافية والتماسك للدولة الوطنية، وامتلاكها القدرة والكفاءة للتعامل مع أسئلة التنمية، وبناء دولة المواطنة والقانون، وتأسيس مشروع وطني يواجه الغلو والتطرف العنيف. - إعادة صياغة النظام الإقليمي العربي، من حيث الهيكل والنظام والعقيدة التكاملية، وأنساقه وتفاعلاته. - امتلاك الجرأة في وضع سياسات متماسكة تجاه دول الجوار الجغرافي. - إن المحافظة على "شرعية" وفعالية مؤسسة النظام الإقليمي العربي ممكنة وضرورية، بشرط أن تتطور إلى أشكال مؤسسية فيدرالية عليا فوق قطرية، ذات سيادة في مجالات التكامل والعمل المشترك، وهو أمر ليس بالسهل أو اليسير وفي ضوء تغير أوزان وأدوار دول كثيرة.

ثالثاً: هل هناك بديل؟

ما البديل عن هذا النظام الإقليمي العربي؟ وعن هذه الرابطة القومية الحضارية؟ وهل نجت منظومة مجلس التعاون(وهي نظام فرعي من النظام الإقليمي العربي) من هذا المأزق؟ لنعترف أن التفاعلات الحقيقية لأعضاء المنظومة الخليجية هي أوسع من المجلس، وتتجاوز حدوده، وهذا يعني أن إعادة صياغة هذا النظام الفرعي مطلوبة أيضاً، خاصة في ضوء تداعيات الأوضاع في اليمن، وموقعه المستقبلي في هذه المنظومة، إضافة إلى نوعية واتجاه تطور العلاقات الأميركية والغربية مع إيران.

وإذا سلمنا بتعذر استدراك إعادة صياغة النظام الإقليمي العربي، فإن سيناريو بديلاً، كثر الحديث عنه، هنا وفي الخارج، مرشح لملء الفراغ، وما أكثر المتشوقين والحالمين بهذا السيناريو، خاصة إذا تطورت الأحداث في سوريا والعراق إلى الأسوأ، وانخرطت فيها رسمياً قوى دول مجاورة، بما فيها 'إسرائيل". ملامح هذا السيناريو واضحة؛ نظام إقليمي جديد ومغاير يعتمد الجغرافيا والاقتصاد والمصالح، نظام يفرض نفسه بالتدريج، ينسف القديم ويشبك شراكات وتحالفات جديدة، ويفرض تسويات. ليس مهماً أن يكون اسمه "شرق أوسط جديد أو كبير أو إسلامي"، لكنه بالقطع ليس "عربياً" بحتاً، فلتركيا وإيران نصيب كبير فيه. فهما دولتان موجدتان منذ سنوات بفعالية في العراق وسوريا، بفعل أنظمة تسلطية وسياسات خاطئة وخائبة. كما توجد أيضاً في ساحات أخرى آخرها اليمن، فضلاً عن تأثيرهما في استراتيجيا­ت جماعات وتنظيمات إسلامية متنوعة.

على سبيل المثال، لم نعط انتباها في السنوات الماضية، لظاهرة تقديم تركيا منحاً دراسية في جامعاتها لآلاف من الطلبة اليمنيين من أعضاء حزب تجمع الإصلاح (الإخوان المسلمين)، وهنا أتساءل كم عدد المنح الدراسية التي أعطيناها لطلبة يمنيين في جامعاتنا الخليجية؟ المشهد الراهن يشي بأن لا أحد يستطيع أن يناقش الأمن والسلام في الإقليم بدون التحدث مع تركيا وإيران، وإلى حد ما مع أثيوبيا والتي طورت دورها الإقليمي عسكرياً وسياسياً، فنشرت قوات إثيوبية في الصومال وعلى الحدود بين دولتي السودان، ونجحت بتشييد سد النهضة على نهر النيل...الخ.

والملفت للانتباه أن استراتيجيا­ت هذا النظام المرتقب لا تغلق حدوده الجغرافية، وتتركها مفتوحة، وفيها يمكن إعادة رسم الخرائط السياسية، في ضوء مقاييس رسم عرقية وطائفية وتقاسم نفوذ. هكذا هوت حصون الدفاع عن حدود النظام الإقليمي العربي، في وقت يلاحظ فيه انسحابات ملموسة لدول كبرى في العالم، من مسؤولية التدخل المباشر، وعلى غير "العادة القديمة"، مما مهد الطريق أمام دول إقليمية غير عربية للتدخل المباشر في الإقليم، وصارت الساحة مفتوحة لمن يمتلك الإمكانيات والطموح للتدخل في شؤون الغير.

خاتمة

هذه أزمنة تحول جوهري، في منطقة الشرق الأوسط، وفي تسويات لقضاياه، وفي طبيعة التفاعلات بين دوله. ويخشى أن تكون من متطلبات ولادة "الجديد" حرب إقليمية مؤلمة. بقيت نقطة محورية، في هذا الإطار لابد من الإشارة إليها، وهي الاتفاق الأمريكي الغربي مع إيران حول الملف النووي الإيراني، وما بعده. فمن المؤكد أن هذا الاتفاق سيفسح المجال لإيران لأخذ مقعدها في النظام "الجديد"، وتعتقد الولايات المتحدة أن ذلك سيضبط سلوك إيران، ويحفظ توازن النظام في الشرق من جهة، وفي الأرض الأفغانية بين قوى الهند وباكستان والصين وإيران من جهة أخرى. وفي وسط هذا كله، يتحسس النظام الإقليمي العربي نفسه، لا يعثر عليها، وربما يسأل نبيل العربي نفسه، هل سأكون آخر أمناء "غرناطة"؟

خلاصة المشهد إذن: حالة من الانهيار، والخوف من المستقبل، أو على الأقل حالة من السيولة المرعبة، يعيشها النظام الإقليمي العربي. حتى لو سلمنا ببقاء "لافتة الجامعة العربية"، وعلمها على مبناها في ميدان التحرير بالقاهرة.

 ??  ??
 ?? كاتب ومفكر ودبلوماسي إماراتي
سابق ??
كاتب ومفكر ودبلوماسي إماراتي سابق

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates