Trending Events

كيف يفكر "الجنرالات" في تركيا؟

أ . باسم البكور

-

يكشف سلوك الجيش التركي خلال العقود الستة الأخيرة طريقة تفكيره والأسس التي يتحرّك بموجبها، فقد حاول غرس مقولة ”كل تركي يولد جندياً“في الوعي الجماعي للأتراك منذ تأسيس الجمهورية عام 1923. تقول كتب التاريخ إن النزعة القتالية التي يتمتع بها الأتراك تعود إلى آلاف السنين، وظلت تلك الصفة العسكرية ملازمة لهؤلاء بعد تأسيسهم الإمبراطور­ية العثمانية التي عمّرت زهاء 600 سنة.

ومنذ قيام الجمهورية، حظي الجيش بالاحترام الشعبي والتبجيل بسبب انتصاره في "حرب الاستقلال" -(1919 1922) وحفاظه على وحدة البلاد في وجه محاولات التقسيم. وقبضت المؤسسة العسكرية على مفاصل السلطة، متسلحة بالحصانة ضد أي نقد أو مساءلة، ومنصِّبة نفسها حارساً العلمانية التي أرسى أتاتورك دعائمها. وعمل الجيش على تعزيز شعبيته عبر الخدمة العسكرية الإلزامية التي يؤديها كل رجل يبلغ بين 18 و41 سنة. تحول الجيش التركي إلى مؤسسة "مستقلة" عن الدولة، بل تعلو فوق سائر المؤسسات الأخرى (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، إذ لها موازنتها التي تعدّها رئاسة الأركان وليس وزارة الدفاع، وترسل إلى البرلمان للموافقة عليها وليس لمناقشتها.

اأولاً: انقلابات متعددة

انطلاقاً من دورهم في حماية "الكمالية العلمانية"، نفذ الجنرالات أربعة انقلابات على السلطة السياسية، في 1960 و1971 و1980 و1997. فبعد وصول زعيم "الحزب الديمقراطي" المعارض عدنان مندريس إلى رئاسة الحكومة التركية عام 1950، عمل على إعادة الأذان وقراءة القرآن باللغة العربية، وسمح بافتتاح معهد لتدريس علوم الشريعة. فاعتبر العسكريين هذه الإجراءات انقلاباً على العلمانية فنفذوا الانقلاب الأول في مايو 1960 في عهد الجمهورية، لكن ذلك الانقلاب لم يحدث إلا بضوء أخضر أمريكي، بغية معاقبة مندريس لتقاربه مع موسكو الشيوعية، العدو اللدود لواشنطن آنذاك.

بعدها، شهدت تركيا عقداً مضطرباً إثر ركود اقتصادي كبير بفعل صعود حركات اليسار التي تصادمت مع الجماعات اليمينية القومية المسلحة، وهاجمت المصالح الأمريكية في تركيا. فحمّلت واشنطن حكومة سليمان ديميريل، رئيس "حزب العدالة" اليميني المعتدل، مسؤولية ذلك، وأوعزت إلى العسكريين بضرورة إطاحته، فأرسلوا في مارس 1971 مذكرة إلى ديميريل طالبوه فيها بالتنحي لأنه فقد السيطرة على مقاليد الحكم. وكان لهم ما أرادوا، وعُرف ذلك الحدث ب"انقلاب المذكرة".

لكن ذلك لم يحل دون توسع الاضطرابات السياسية التي عمّت تركيا إثر صراع سياسي حاد ومسلح بين اليمين واليسار، ك"حرب بالوكالة" بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وبالتزامن، ظهر على الساحة السياسية "حزب السلامة الوطني" ذو الميول الإسلامية بزعامة نجم الدين أربكان، محققاً نجاحاً كبيراً في الانتخابات. ومع ارتفاع شعبية التيار الإسلامي المعتدل، زادت المخاوف من عودة الروح الإسلامية إلى تركيا العلمانية، خصوصاً بعدما فقدت واشنطن حليفها الرئيس في

المنطقة (نظام الشاه في طهران). فرأت الولايات المتحدة ضرورة وقف الحراك الإسلامي المتنامي في تركيا، للحؤول دون "التقائه" مع الثورة الإسلامية "المعادية" في إيران المجاورة.

نفذ الجنرالات انقلابهم الثالث بقيادة كنعان إيفرين في 12 سبتمبر 1980، بحجة "حماية وحدة البلد والأمة"، مستغلين تدهور الوضع الأمني. فكان الانقلاب الأكثر دموية في تاريخ الجمهورية، إذ حكم إيفرين البلاد بيد من حديد 9 سنوات، اعتقل خلالها آلاف الأشخاص وصدرت أحكام في حق حوالي 250 ألف شخص وأعدم حوالى 50 شخصاً وقضى العشرات في السجون تحت التعذيب وهاجر آلاف الأتراك.

انتظر جنرالات تركيا 17 سنة حتى ينفذوا انقلابهم الرابع، إذ لم يستطع هؤلاء تحمّل مشهد وصول زعيم حزب "الرفاه" الإسلامي نجم الدين أربكان إلى رئاسة الحكومة في صيف 1996. وكان أربكان أول رجل يحمل توجهاً إسلامياً صريحاً، ويتمكن من الوصول إلى السلطة. ومنح موقف أربكان المعادي للولايات المتحدة، وتعاطفه مع الإسلاميين الراديكالي­ين العرب، الفرصة للمؤسسة العسكرية باعتبار هذا الموقف يمس بأمنها القومي ومصالح حلفائها. فاجتمع مجلس الأمن القومي في 28 فبراير 1997، واستدعى أربكان وطلب منه التوقيع على وثيقة تتضمن 18 بنداً، تتعلق غالبيتها بتقييد التعليم الديني الذي عمل على انتشاره في أرجاء تركيا، فأذعن أربكان لإرادة العسكريين. لكن ذلك لم يشفع له بسبب مواقفه في السياسة الدولية. فصدر حكم قضائي بحظر حزب "الرفاه" بتهمة السعي إلى تطبيق الشريعة وإقامة النظام الإسلامي. وأودع السجن مع مجموعة من قادة حزبه. وأطلق على الانقلاب الرابع اسم "الانقلاب الناعم"، لكونه حدث من دون إراقة دماء.

ثانياً: هل ولى زمن الانقلابات؟

مع وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة عام 2003، كانت الولايات المتحدة تبحث عن نموذج "إسلامي معتدل" لتدعمه وتواجه به الاتهامات بأنها تعادي الإسلام في ظل حربها على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وكان حزب "العدالة والتنمية" خير نموذج لدعم التوجه الأمريكي الجديد. واعتبر أردوغان أنه لكي يقبض على السلطة فعليه أن يكون الرجل القوي الذي يحافظ على المصالح الأمريكية في المنطقة. وهكذا، قرّر في مارس 2003 التقدم إلى البرلمان بمذكرة تجيز للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لمهاجمة العراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين. غير أن نواب المعارضة رفضوا المذكرة داخل البرلمان، فاتهمت واشنطن المؤسسة العسكرية بالضغط عليهم بغية إسقاط المشروع.

ولاحقاً، كان الجيش التركي يخطط لتنفيذ انقلابه الخامس على السلطة، لكن البنتاغون خذل الجنرالات الأتراك هذه المرة، إذ لم يُعطِهم الضوء الأخضر عقاباً لهم على موقفهم من غزو العراق. والتقط أردوغان تلك "اللحظة التاريخية"، وبدأ في "خلع أنياب الجيش" تدريجياً، وبهدوء، عبر إلغاء عدد كبير من الامتيازات العسكرية، فضلاً عن تعيين قيادة عسكرية جديدة موالية بالكامل لسلطة "العدالة والتنمية". واستند في ذلك إلى قاعدة شعبية عريضة أوصلت حزبه إلى رئاستي الحكومة والجمهورية، ومحتمياً بمظلة أمريكية تأمّنت له بعد موافقته على نشر "الدرع الصاروخية" في تركيا والموجَّه ضد إيران وروسيا.

حتى ذلك الحين، كان الجيش المؤسسة الأخيرة في "الكمالية"، لكن تورّطه في قضية "إرغينيكون" (محاولة الانقلاب على أردوغان) عام 2007، أدى إلى تقييد سلطته، بل تشويه سمعته داخلياً وخارجياً، بعد اتهامه بالتخطيط لتفجير مساجد مكتظة بالمصلين في اسطنبول وإسقاط مقاتلة تركية فوق بحر إيجه. وقد وُصفت إجراءات أردوغان تلك بأنها "انقلاب على العسكريين" هو الأول من نوعه في تاريخ تركيا الحديث.

وهكذا، باتت حماية سلطة حزب "العدالة والتنمية" من خطر الانقلابات العسكرية أحد أهداف السياسة الأمريكية تجاه تركيا. وهذا يتطلب بالضرورة إضعاف نفوذ المؤسسة العسكرية التي خسرت الاحتضان الشعبي الذي استندت إليه تاريخياً، والذي هيمنت بموجبه على السلطة السياسية طوال نحو 85 سنة.

ثالثاً: هل يمكن حدوث انقلاب ع�سكري جديد؟

انتظر "جنرالات أتاتورك" نحو 13 سنة "للثأر" من أردوغان، ولو معنوياً. فقد جاءت نتائج انتخابات 7 يونيو 2015 "لتثلج صدور" العسكريين، بعدما أخفق حزب "العدالة والتنمية" في انتزاع الغالبية المطلقة من الأصوات التي تخوّله تشكيل الحكومة منفرداً. وبدأ الجنرالات يتداولون همساً ما كتبته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية في افتتاحيتها عقب الانتخابات التركية، والتي تقول فيها إن "أنقرة لم تعد تتصرّف كحليف للولايات المتحدة، ولأعضاء الحلف الأطلسي، وللدول الغربية عموماً". وذلك تعليقاً على حديث وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى صحيفة تركية كشف فيه إحجام حكومة "العدالة والتنمية" عن الانضمام إلى التحالف الدولي المناهض ل (داعش)، معتبراً الأمر "خيانة لمبادئ الحلف". فهل يعني ذلك أن واشنطن بدأت تسحب دعمها للحكومة الإسلامية في تركيا؟ وهل يفهم الجيش التركي ذلك على أنه ضوء أخضر للانقلاب على أردوغان؟

مازال الوقت مبكراً للإجابة، لكن الثابت الوحيد في المتغيرات التركية الأخيرة هو أن عودة الانقلابات العسكرية يحول دون تحقيق الديمقراطي­ة الحقيقية، وهي الشرط الأساس لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وعليه، بات على جنرالات تركيا أن يودعوا فكرة الانقلابات المباشرة، وينظروا في طرق وآليات أخرى للتعامل مع الحكومة التركية المقبلة.

الثابت في المتغيرات الأخيرة أن عودة الانقلابات العسكرية تحول دون تحقيق الديمقراطي­ة الحقيقية، وهي الشرط الأساس لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وبات على جنرالات تركيا أن يودعوا فكرة الانقلابات المباشرة، وينظروا في طرق وآليات أخرى للتعامل مع الحكومة التركية المقبلة.

 ??  ??
 ??  ?? صحفي في جريدة ”الحياة“الدولية
صحفي في جريدة ”الحياة“الدولية

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates