Trending Events

كيف يفكر المهاجر غير الشرعي؟

إذا بدأنا بالتفكير حول ما يفكر به كلٌ عازم على الترحال كمهاجر من وطنه إلى وطن آخر، خاصة إن كان بصورة غير شرعية، فلابد أن ذهنه تجتاحه عواصف من المشاعر والفِكر والمخاوف والآمال المتواجهة مع بعضها في تزاحم وصراع.

- د. علي محمد فخرو مفكر بحريني- وزير التربية والتعليم الأسبق بالبحرين

أمامنا إنسان يعيش مأساة شخصية ما عاد يطيقها، أو مأساة اجتماعية فرضها الآخرون عليه. وعادة لا يترك إنسان حياة مليئة بالعلاقات الإنسانية والأمان والذكريات إلى حياة مليئة بعلاقات غامضة، وإمكانيات للمفاجآت والأخطار، والمجازفة بالمستقبل، إلا إذا دفعته إلى ذلك ظروف قاهرة وخانقة. فمن يريد استبدال علاقات الود وتبادل الابتسامات مع أفراد عائلته، واستبدال صداقات الطفولة والحيّ والعمل، واستبدال الشارع الذي قطعه وألفه سنة بعد سنة حتى أصبح الطريق جزءاً من كيانه وأصبح هو جزءاً من صخب الطريق وضحكاته، فمن يريد استبدال كل ذلك العنفوان وكل تلك البهجة بمشهد غامض

مظلم لا يعرف كنهه ولا وجهة مساره.

�أولاً: دو�فع �لهجرة غير �ل�صرعية

لقد التقيت شخصياً ببعض المهاجرين غير الشرعيين في عدد من الدول الأجنبية، كثير منهم كانوا يائسين وضائعين، تسيطر عليهم ملامح القلق الدًّفين، ومن ثم كان السؤال الذي يلح هو: إذا وجد الإنسان نفسه في جحيم قضايا شخصية أو اجتماعية أو سياسية أو أمنية تتطلب الابتعاد المؤقت، ولكن الظروف لم تيسر له القيام بهجرة شرعية، ومن ثم يكون البديل الهجرة غير الشرعية، والسؤال، لماذا يوافق على القيام بها على الرغم من المصاعب والمشاكل؟

على الرغم من أن المنطق يقول إن الحل ليس في الهجرة بصورة غير شرعية، لأنها بمنزلة الهروب إلى الأمام، ولن يحل مشاكل الإنسان الأصلية. بل إنها أقرب إلى عملية استبدال مشكلة مفجعة بمشكلة مفجعة أخرى. هذه ممارسة عبثية تجعل الإنسان يدور في حلقة مفرغة خانقة لا يخرج منها إلا بالقفز منها لمواجهة المشكلة الأصلية في مكانها وزمانها والمتسببين فيها.

لكن، لا يمكن تجاهل العديد من الدوافع سواء الشخصية، حيث الحاجة الماسة إلى العمل، وعدم توفره في بلده، كما أن التطورات التي يمر بها عدد من الدول في أعقاب الثورات العربية وتعرض بعض المجتمعات إلى حالة الحرب والصراع، مثل ما يحدث في سوريا، تدفع نحو الهجرة بأي وسيلة. وفي هذه الحالة لا تصبح دوافع الهجرة دوافع شخصية فقط، بل تصبع أملاً جماعياً لمجتمعات بالكامل. وللأسف هذه الأزمات لا يكون حلها بالطرق التقليدية. فإذا كان دافع الهجرة شخصياً، يمكن أن يكون لها بعض من الحلول في تبني المجتمعات برامج تنموية تنطلق من الرغبة في الحل والمواجهة. لكن في حالة دولة، مثل سوريا، فإن الأمر مختلف، لأن ما يحدث في سوريا واليمن حالياً، على سبيل المثال، هو هجرة الألوف المؤلُّفه من الشباب العرب غير الشرعية يومياً وموت

الكثير منهم غرقاً أو جوعاً وعطشاً، والتسُّبب في موت الأطفال أو النساء أو كبار السن المرافقين لهم. وهنا يكمن السبب الأساسي في حالة "الجنون" التي سيطرت على بعض الدول وباتت تحرق الأخضر واليابس، هو جنون الاستبداد والتسلُط من جهة، وجنون الجهاد التكفيري المدمُر لكل شيء أمامه من جهة أخرى. هذا الجنون لم يترك أمام الشباب منفذاً يحتمون به إلا منفذ الهجرة غير الشرعية. لقد أوصلت بعض المجتمعات وسلطات الحكم شباب العرب إلى مرحلة الجنون فغاب العقل وتشوه التفكير.

ثانياً: �لمهاجر و�صعيه نحو �لمجهول

بات عدد من الشباب العرب يعانون غياباً للعقل والتفكير المنطقي، وأصبحنا بالفعل أمام مشهد لإنسان لا يقلُّ تخبُّطه في أمواج هذا البحر المجهول من قرار الهجرة غير الشرعية، عمّا رسمه شاعر الأساطير اليوناني هوميروس لأبطال قصصه وهم يواجهون المجهول إبان رحلاتهم في البحار الهائجة العاصفة. القلق الوجودي نفسه الذي انتاب أبطال هوميروس ودفعهم نحو اجتياز أهوال المحيطات والعواصف سيدفع بالشباب المهاجر نحو اقتحام المغامرة وركوب قوارب الغرق والموت، وهي تحمله مع المئات الآخرين عبر أمواج وعواصف البحر الأبيض المتوسط، أملاً في الانتقال من نار إلى جنًّة ومن قلق إلى سكينة.

عند ركوب قارب الموت، وسط الأمواج والعواصف، ومشاعر الفناء العبثي تملأ كيانه، يكون المهاجر قد وصل إلى التماثل المأساوي التراجيدي مع بطل هوميروس المأساوي يوليسوس وهو يبحر خلال بحر إيجة اليوناني إلى المجهول. إن ما يدفعه الآن ويشدُ عزيمته هو التحدي وما يدخل السكينة في قلبه هو الأمل بوصول الشاطئ الآخر. لحظة ركوب قارب الموت ذاك ينقلب المهاجر إلى المغامر. إنها لحظة هبوط من قمة القلق الوجودي المليئة بالأحلام والآمال بما يمكن أن يحققه في المستقبل، إلى حضيض ألعاب التخفًّي عن أعين سلطات الهجرة ومفتشي العمل، والقبول بلعب أدوار الذل والخنوع أمام أصحاب الأعمال، وشتى أنواع المافيا الملوحين دوماً بإفشاء السر.

ومع الوقت تقود حياة الذل والخنوع إلى حياة العبودية الكاملة التي يعيشها المهاجر غير الشرعي ليل نهار بتوجس وخوف يحيلان حياته إلى جحيم. وهكذا يخرج من جحيم في الوطن الذي رحل عنه إلى جحيم أسوأ في البلد الذي رحل إليه.

ثالثاً: كيف فكر �لمهاجر غير �ل�صرعي؟

كيف فكَّر ذلك المهاجر حتى قاد نفسه إلى هذه اللحظة المفجعة الحزينة؟ من الواضح أن فكراً مشوشاً كان سيد الموقف، يبدأ عندما يعتقد المهاجر أن العمل بصورة غير شرعية سوف تقتصر مصاعبه ومشاكله على الفترة الأولى، وهذا غير صحيح. فالعمل بصورة غير شرعية، بل كل الوجود غير الشرعي، يحيل حياة المهاجر إلى حياة هروب دائم، هروب من عمل إلى عمل آخر. ويزداد الأمر تعقيداً أن أغلب تعاملات المهاجر مع مؤسسات الحكومة أو مؤسسات القطاع الخاص، وجميع الخدمات التي سيحتاج لها، مثل خدمات السفر والصحة والتعليم والإسكان التي تحتاج إلى بطاقات تعريف أو جوازات سفر صالحة أو أوراق دخول شرعية، وهو ما لا يملكه المهاجر الذي يعيش حياة التخفي والمخادعة.

إزاء كل ذلك يصبح اعتقاد المهاجر غير الشرعي قبل سفره بأن حياته في المهجر ستكون أفضل وأسهل، يصبح وهماً لا يكتشفه المهاجر إلا متأخراً. عند ذاك لا ينفع الندًّم. تفكير آخر خاطئ هو اعتقاد المهاجر بأن راتبه في المهجر سيكون مجزياً، بل وفيه فائض يمكن ادخاره. والواقع أن ذلك وهم آخر، إذ إضافة لغلاء المعيشة في بلدان المهجر، وللمصاريف الكثيرة التي تحتاجها حياة التخفًّي، هناك ثمن آخر غير بين يدفعه المهاجر، وهو ثمن الأضرار والمخاطر بالنسبة لصحته. فهو عادة ما يتعرض لسوء التغذية، كما يهيمن عليه شعور القلق الدائم من إمكانية افتضاح أمره، وشعوره بالانكسار والخجل لعدم تحقق أحلامه، وهواجس النًّدم على ارتكاب غلطة الهجرة، مع ما يصاحبها من غياب الاستقرار العائلي وشعور بالاطمئنان والسكينة. جميع هذه الأمور تؤدي إلى علل جسدية ونفسية واجتماعية ستكون لها آثار سلبية على حياة المهاجر في حاضرة وفي مستقبله، حتى وإن عاد إلى وطنه الأصلي مختاراً أو مرحلاً من قبل سلطات دولة المهجر الجديد.

تفكير خاطئ آخر عندما يعتقد المهاجر أنه سيجد في الغربة صداقات جديدة وعلاقات اجتماعية مثيرة وفرحة، وأنه سيكون أكثر حريُة في غياب مراقبة عائلته وأوامرها ونواهيها، وأنه سيحصل على فرص ترقيات إلخ ... هذا وهم آخر. إن حياة التخفًّي تعنى التنقًّل الدائم من وظيفة إلى وظيفة، ومن مسكن إلى مسكن آخر، ومن عمل مؤقت في غالب الأحيان إلى بطالة ملازمة للحياة الاقتصادية في بلدان المهجر، الأمر الذي يجعل بناء علاقات إنسانية حميمة أمراً شبه مستحيل، وعوضاً عن ذلك تهيمن الوحدة ومشاعر الغربة على المهاجر.

إن هناك أوهاماً عدة تسيطر على من يقرون الهجرة بصورة غير شرعية، تتنوع بين اعتقادهم بأنهم سيهاجرون إلى بلد الأحلام التي سوف يحققون فيها كل الآمال، وبين من يهاجر أملاً في البقاء على قيد الحياة. وشتان بين الأمرين.

من الواضح أن فكراً مشوشاً كان سيد الموقف، يبدأ عندما يعتقد المهاجر أن العمل بصورة غير شرعية سوف تقتصر مصاعبه ومشاكله على الفترة الأولى، وهذا غير صحيح. فالعمل بصورة غير شرعية، بل كل الوجود غير الشرعي، يحيل حياة المهاجر إلى حياة هروب دائم، هروب من عمل إلى عمل آخر.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates