Trending Events

لماذا يتزايد ”الاندفاع الاستهلاكي“ في رمضان؟

مشهد اندفاع الناس بكافة مستوياتهم، وبمختلف طبقاتهم نحو الأسواق لشراء مستلزمات رمضان، ليس جديداً ، فهو يتكرر كل عام قبل شهر رمضان بأيام، ويظل مستمراً خلال الشهر الفضيل، لا ينجو منه إلا قلة قليلة.

- عائشة سلطان كاتبة إماراتية - مؤسسة ومديرة دار ورق للنشر في دبي

ومن ثم فالسؤال كيف تحول شهر رمضان إلى أن يصبح أهم مظاهره عملية شراء متفاقمة، وتخزين للسلع الغذائية؟ وهل يشتري الأفراد في رمضان احتياجات فعلية في ترددهم المستمر واليومي على السوق؟ هل يشترون بشكل مقنن ومدروس أم أنهم محكومون بالتقليد وتأثيرات الإعلانات؟

من متابعة أداء الأسواق وحركة البيع والشراء والإقبال عليها بصفة عامة طوال العام، في دولة الإمارات، وفي عدد من الدول الخليجية والعربية، نجد أن الإحصاءات تشير إلى زيادة الاستهلاك في الشهر الفضيل بنسب تتراوح من 30 إلى80% عن باقي شهور السنة. وأن استهلاك الأسر الفعلي والحقيقي من هذه الزيادات الكبيرة في الكميات المشتراه لا يتجاوز نسبة ال 40%، ومن ثم يكون مصير باقي الكميات سلال المهملات مع الأسف.

�أولاً: �لثقافة �لا�صتهلاكية

يبدو أن هناك انطباعاً أولياً يشير إلى وجود مزاج تسوق غير مقنن وعشوائي وخاضع لتفسيرات متباينة، يسود في شهر رمضان أكثر من باقي شهور السنة. فما الذي يجعل الغني والفقير والمثقف وصاحب الوعي وغير المبالي يجتمعون تحت السقف نفسه وبالحماس نفسه سوى ثقافة واحدة يطلق عليها علماء السلوك "ثقافة الاستهلاك". ففي قناعاتنا الراسخة وأحاديثنا اليومية فإن شهر رمضان هو موسم عبادة وصوم، وهو شهر يتحدث الجميع عنه باعتباره شهر الروحانيات، وأنه شهر يحث على تدعيم قيم ومبادئ الإحساس بالفقراء ومشاركتهم مصاباتهم. لكن على ما يبدو فإن هذه الأحاديث تصبح أمراً "ظاهرياً وشكلياً" وليس ممارسة حقيقية، وهو ما يظهر في حالة الهلع التي تنتاب الناس للشراء استعداداً للإفطار، وخوفاً من الجوع وكأنهم يواجهون أزمة أو كارثة ستمنع وصول إمدادات السلع والبضائع للبلد، وأصبح هناك ربط خاطئ بين مفهوم صيام رمضان، والجوع، وليس بين رمضان كشهر للشعائر الدينية.

ما يحدث هو إشكالية حقيقية، فالظاهرة التي يفسرها الناس ببساطة على أنها احتفاء بشهر رمضان، وأنه شهر كريم يأتي ويأتي بخيراته معه، وأنه ضيف غريب لا بد من توفير متطلباته، قد تجاوزت كل الحدود بكثير. وتحولت إلى شراهة حقيقية في التسوق، وهيمنة ثقافة استهلاكية غير رشيدة، بل يمكن وصف الأمر لدى البعض إلى تحوله إلى حالة مرضية مزمنة. من جانبها تعمل قوى السوق على دعم هذه "الشراهة" بكافة الطرق، فإعلاء وسيادة وانتشار ثقافة الاستهلاك غير المقننة، هي في الحقيقة تخدمه وترفع مستويات الفائدة عنده، فكلما زاد طلب الأفراد على السلع والخدمات، ازدهرت العمليات الاقتصادية المرتبطة بالتصنيع والتوزيع والبيع وتحقيق الأرباح. ومن هنا يحرص السوق على تحريض قيم

ونوازع الاستهلاك عند الإنسان، من خلال الدعاية والإعلان كأداة ضاربة وذات تأثير قوي ومسيطر على أذهان وتوجهات الناس، وإثارة منبهات ورغبات الشراء والامتلاك لديهم، بعيداً عن منطق الحاجة والضرورة في أحيان كثيرة، فالثابت أن الكثير مما يشتريه الإنسان المعاصر اليوم ليس بحاجة ماسة وضرورية له. بل لقد نجح السوق في إقناع الناس بسلع لا يستقيم صومهم بدونها واعتبارها جزءاً من الذكريات وطقوس العائلة.

من جانب آخر تعمل الأسواق على جعل متعة الشراء والاستماع بمراكمة السلع والتباهي بامتلاكها ثقافة سائدة، هذا النجاح ليس وليد اليوم ولا يقتصر على المجتمعات الخليجية، بل هو أمر منتشر في المجتمعات العربية كلها. وهو أمر ناتج عن عدد من الأمور المتشابكة، منها أن انتشار سلع الإنتاج الرأسمالي، التي أدت إلى تراكم الثقافة المادية، في شكل سلع وخدمات استهلاكية، تحتاج إلى التسويق وأن تحقق مبيعات لتستمر دورة الإنتاج، ومن ثم تشجيع منظور يربط بين تحقق الإشباع من السلع الاستهلاكي­ة والمكانات الاجتماعية. وكذلك الضغط على فكرة أن تحقيق السعادة يمكن من خلال عملية الاستهلاك. من جانب آخر تعمل الأسواق والثقافة الاستهلاكي­ة على نشر أفكار الاستهلاك الجمعي، ألا يشتري معظمنا هذا المنتج أو ذاك لأن أهله وجيرانه وأصدقاءه يشترونه، ولأن ماكينة الدعاية الإعلانية تغرسه في وعينا على أنه احتياج لا يستقيم رمضان بدونه، ولا نكون صائمين حقاً بدون توافره. وفي الواقع نحن لا نجوع في رمضان بقدر ما توقعنا أوهام الثقافة الاستهلاكي­ة في "مطب الجوع النفسي" فنسرع للسوق اتقاء لهذا الجوع.

ثانياً: دور �لاإعلانات

ما ذكر أعلاه يحيلنا مباشرة إلى دور الآلة الإعلانية في هذا السياق. فاذا قمنا بدراسة القيم التي تبثها الإعلانات المعروضة علينا على مدار الأربع وعشرين ساعة، والخاصة بالسلع الاستهلاكي­ة التي يقبل عليها الناس في شهر رمضان كالأطعمة والمشروبات ووسائل الاتصال والثياب و.. إلى آخره. فهناك تركيز على ربط قيم العائلة والسعادة والترابط الأسري وقيمة الأم وتوثيق العلاقات، ربطها جميعها بالمنتجات المختلفة، على سبيل المثال: المنتج (أ) "يمثل "حلاوة اللقاءات والاجتماعا­ت العائلية ولقاءات الأصدقاء، فلا يحلو اللقاء بدونه"، والمنتج (ب) يمثل توافره في المنزل "قمة الأمومة" وهكذا....، وبالطبع تزداد مرات بث هذه الدعايات وبث هذه القيم قبل رمضان بأيام شحناً لمشاعر المتلقين حتى يتم الإقبال على المنتج من دون أدنى تفكير في جودته أو ضرورته.

ثالثاً: �لعو�مل �لنف�صية

من جانب آخر وإلى جانب الأداة الإعلانية، تعمل آلية السوق على استخدام آليات نفسية، من خلال طريقة عرض السلع والمنتجات في السوق، بطرق تحفز الاستهلاك وزيادة الطلب، من خلال الهدايا والمحفزات والتخفيضات، ما يجعل ممارسة التسوق تتعدى كونها مجرد فعل اقتصادي معتاد وثانوي، إلى أن تتحول إلى ممارسة تدخل السعادة على النفوس، ويصبح الاستمتاع بعملية الشراء هدفاً في حد ذاته. وهذا هو ما يُطلق عليه الباحثون حث فكرة "الاستهلاك البصري"، حيث يصبح التجول في الأسواق هدفاً في حد ذاته. ولهذه العملية جانبان: الجانب الأول يرتبط بالاستمتاع الشخصي والمعنوي، والجانب الثاني يرتبط بوعي الشخص بظهوره في السوق، والصورة التي يثيرها لدى الآخرين من خلال هذا الظهور. وفي كل الأحوال تقود هذه الظاهرة إلى عملية شراء بغير وعي في كثير من الأحيان ولسلع لا حاجة حقيقية لشرائها. وتتزايد هذه الممارسات في شهر رمضان مع تزايد ما تطرحه الأسواق من عروض وتحفيضات تشجع على استمرار الشراء اللاواعي.

كذلك تستغل الثقافة الاستهلاكي­ة بعض القيم والعادات وسمات الثقافة العامة للمجتمع العربي، وتستحضرها لاستغلالها من أجل زيادة الاستهلاك. فمعروف عن الشهر الكريم زيادة الزيارات وتبادل الولائم، ومن ثم تدفع الإعلانات إلى استحضار قيم الضيافة والكرم وأهمية الاحتفاء بالضيوف والتباهي، ما يزيد من الطلب على السلع والمستلزما­ت بلا رشد في كثير من الأحيان.

خاتمة

هناك حالة من تزايد الإقبال على الشراء خلال شهر رمضان، يصل إلى حد الإسراف والتبذير. وينتج عنه إتلاف كبير لكميات من السلع وهو أمر لابد من طرحه للتباحث، والعمل على وضع آليات مجتمعية توضح أن هذا الربط بين كرم الضيافة وما يؤدي إليه من مبالغة في إتلاف السلع واستخدامها بشكل غير مقنن له مساوئ كثيرة، تتعارض أولاً مع توجيهات الدين من جانب، ومن جانب آخر مع مبدأ الحفاظ على النعم (الموارد). فهناك ثروات يتم هدرها بشكل غير سليم. وفي حالة متوسطي الدخل فإن هذه الثقافة تؤدي إلى مراكمة أعباء مالية على الأسر، فالإحصاءات تشير إلى أن الكثير من الأسر تنفق خلال رمضان ما تنفقه خلال 3 أشهر عادية من السنة، حالة من الضائقة المالية على شريحة كبيرة من الأسر العربية من أجل إشباع نزعة الاستهلاك وحب المظاهر وتلبية متطلبات رمضان "الزائفة" التي تتناقض قدسيته وروحانيته ومعانيه العظيمة مع هذه الثقافة وهذا الشره.

هناك حالة من تزايد الإقبال على الشراء خلال شهر رمضان، يصل إلى حد الإسراف والتبذير. وينتج عنه إتلاف كبير لكميات من السلع وهو أمر لابد من طرحه للتباحث، والعمل على وضع آليات مجتمعية توضح أن هذا الربط بين كرم الضيافة وما يؤدي إليه من مبالغة في إتلاف السلع واستخدامها بشكل غير مقن له مساوئ كثيرة، تتعارض أولاً مع توجيهات الدين من جانب، ومن جانب آخر مع مبدأ الحفاظ على النعم (الموارد).

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates