Trending Events

لماذا يغيب ”الإعلام المهني“في العالم العربي؟

- حسام السكري مستشار إعلامي والرئيس السابق لبي بي سي العربية

كنت على الهواء مع مستمعي بي بي سي في برنامج نقطة حوار، حول الإعلام ودوره. إحدى المداخلات الهاتفية من مواطن مصري اسمه محمد كانت ملفتة..

قال محمد في مداخلته: “يا أستاذ حسام نحن لا نعرف دور “الإعلان”. أنتم من تقولون لنا.. فأنتم رجال الإعلان، الذين من المفترض أن تكلمونا عن دوره”. تبادلت وقتها ابتسامة واسعة عبر الحاجز الزجاجي مع معد البرنامج. كان محمد صادقاً وعفوياً في قلقه. ظننت وقتها أنه كان يخلط عن غير عمد بين "الإعلام" وهو ما كنا نتحدث عنه، وبين "الإعلان" لأنه لم ينل قسطاً كافياً من التعليم، إلا أنني بعد أكثر من عشر سنوات من الواقعة أشعر بأنه ربما كان محقاً ولو عن غير عمد. وكثيراً ما تذكرت حواري معه وتساءلت: هل أصبحنا بالفعل "رجال الإعلان"؟

�أولاً: حالة ملل من �لمتلقين

أبحاث السوق كمية كانت أو كيفية، تشي بأن هناك حالة واسعة من الضجر وعدم الثقة أو الرضا عن الإعلام العربي في أغلبه بشكله الحالي. معدلات مشاهدة برامج التليفزيون في تدن مستمر، معدلات شراء الصحف تتراجع هي وأرقام التوزيع أو حتى "طاقة القراءة"، بمعنى متوسط عدد من يقرأون النسخة المباعة من الصحيفة. الصورة ليست إيجابية على الإطلاق وكلمة إعلامي لم تعد مقترنة بالمصداقية أو النزاهة في أذهان كثيرين.

صدمتني هذه الحقيقة عندما أجريت في نهاية عام 2013، عدداً من اللقاءات مع مواطنين مصريين، التقيتهم بشكل عشوائي في شوارع القاهرة. أدهشني وقتها كم الغضب واليأس والإحباط من مذيعي الفضائيات. لم يقل واحد منهم كلمة إيجابية عما يشاهد على القنوات العربية، بل ووصل الأمر ببعضهم إلى حد مسح أغلب المحطات العربية من أجهزة الاستقبال، والإبقاء فقط على قنوات الأغاني والفيديو كليب والأفلام.

ثانياً: حالة �إنكار من �لاإعلاميين

القائمون على صناعة الإعلام في عالمنا العربي يعرفون هذا جيداً. ومن المؤسف أن رد فعلهم لا يشي بأنهم فهموا الإشارات المتتالية من جمهور المستهلكين. وبدلاً من محاولة فهم ما يجري من تغيرات في السوق، وتطوير المنتج الإعلامي بما يناسب احتياجات وطموحات الجمهور، كانت النتيجة هي طوفان من البرامج الشعبوية التي تلعب على المشاعر وتبحث عن الإثارة بأي ثمن، سواء كان هذا بالعزف على أوتار الطائفية، أو بتجهيل الجمهور من خلال موضوعات الجن والسحر والشعوذة، أو بتقديم برامج رخيصة تتناول بفجاجة موضوعات "الجنس" مغلفة بغطاء الدين، من رضاع الكبير إلى زنا المحارم وغرائبيات مشايخ الفتنة.

في هذا السياق كان الحفاظ على الموارد الإعلانية هو المبرر الذي يستخدم، لتبرير التردي المتنامي في مستوى ما يقدم عبر وسائل الإعلام على اختلافها. وبحجة الإعلانات ومواردها وضرورة حماية الصناعة صار علينا أن نقبل منطق النسخ واللصق لبرامج شعبوية أجنبية، تنتج محلياً لتحصد الموارد الإعلانية من الشركات العاملة في المنطقة. وقبلت الغالبية افتراضاً

بانعدام الخيارات، واستحالة رسم خريطة إعلامية تعتمد المعايير الثلاثة التي ترتبط بمنتج يحترم عقل المتلقي العربي: إمتاع، تعليم، إخبار Inform, Educate and . Entertain

ثالثاً: ��صباب تعيق تاأ�صي�ش �إعلام محترم

هل موارد الإعلان كما نصدرها في الصورة، هي الإشكالية الحقيقية التي تواجه التأسيس لصناعة إعلام "محترم"؟ وهل يمكن استدراجنا إلى الاعتقاد بأن جهل الجمهور وإقباله على الرديء من البرامج هو السبب الحقيقي وراء ضعف المستوى؟ وأن المنتج معذور والمعلن معذور والجمهور في النهاية هو السبب؟

الحقيقة في رأيي، هي أبعد ما يكون عن هذه الحجج الواهية. فكعكة الإعلانات في أسواق عدد كبير من الدول يقل حجمها كثيراً عن الأموال المنفقة على العدد الضخم من القنوات التي تزايدت بشكل واضح بعد ثورات تونس ومصر. وهو ما يعني أن أغلبها خرج إلى السوق دون الاعتماد على دراسات تتحقق من قدرتها على اقتطاع شريحة من كعكة إعلانات السوق.

موارد الإعلانات، على أهميتها، ليست العامل الأكثر حسماً فيما يتعلق بنوعية ما يقدم على قنواتنا العربية إجمالاً، هذا بالطبع لو قبلنا فكرة أن البرامج التي تجذب الجماهير لابد أن تكون تافهة في الأصل وهو منطق آخر تم ترويجه والدفع لقبوله من دون أن يكون له أصل في الحقيقة. وإنتاج مواد إعلامية ممتعة وجماهيرية ومفيدة ومبدعة هو المعادلة التي يندر أن يفكر فيها أحد لا لشيء إلا لأنها ليست مطلوبة ولا يوجد من يدفع في اتجاه توفيرها.

العامل الحاسم هنا فيما يتعلق بخروج قناة إلى الوجود أو الاحتفاظ بها في السوق، هو وجود تمويل سياسي يدفع بها. تنشأ أكثرية القنوات بواسطة رجال أعمال، يرغب بعضهم في استقطاع حصة من سوق المشاهدين لخدمة طموحات سياسية آنية أو مستقبلية. بعضهم يكون واجهة لدول، أو حركات سياسية، أو أجهزة أمنية تستهدف الحصول على منفذ للجمهور من أجل بث رسالة سياسية في الوقت المناسب. ومهمة المحطة في هذه الحالات تكون توسيع قاعدتها الجماهيرية والوصول لأكبر قطاع مستهدف من المتلقين.

إن تأسيس قناة تعمل على تقديم إنتاج برامجي متميز يحقق المعايير الثلاثة التي سبق الحديث عنها، مسألة قد لا تكون مكلفة، ولكنها تقتضي على الأقل استقطاب مواهب وكفاءات، والخروج بأشكال برامجية متميزة وتوافق طبيعة واحتياج الجمهور. هذا الاستثمار في الاختيار والتفكير والبحث عن صياغات يكون في أغلب الأحيان أبعد ما يكون عن رؤى وإمكانات من يتم اختيارهم لإدارة هذه المحطات. وتكون النتيجة هي اللجوء للحلول السريعة والجاهزة. الأسهل هو تقديم أكثر من "مكلمة" تليفزيونية مفتعلة، تتناول موضوعاً طائفياً أو جنسياً أو عنصرياً، ولا بأس من استدراج بعض العينات الجماهيرية أو عرض بعض الحالات "البائسة" التي تستدر الشفقة والدموع من أجل تلفيق "رسالة" تنموية أو خيرية للمنتج الإعلامي.

ر�بعاً: هل من مخرج لهذ� �لو�صع؟

هذا الوضع العشوائي قد لا يحقق هدفاً ما على المدى القصير، ولا يخدم حتى أصحابه على المدى المتوسط أو البعيد. فما نراه اليوم تسبب في حالة من الإعراض عن متابعة ما يقدم، وتدن واضح في معدلات المشاهدة والقراءة والاستماع. وهو ما يعني أن هناك مصلحة للجميع في البحث عن مخرج ما، يحقق الأهداف الاستراتيج­ية للمجتمع بما يجعل الإعلام شريكا في عملية تنمية بشرية واسعة، تخدم طموحات الشعوب من أجل دعم الفهم والحوار، ونشر ثقافة العلم والمعرفة والنقد البناء، والعمل الجماعي المشترك.

من أجل هذا كله ربما يتعين إلقاء الضوء على بعض المفاهيم المرتبطة بصناعة الإعلام، بما يساعد على وضع بداية تصور للخروج من الأزمة الحالية، والتي يهدد استمرارها بتفاقم حدة الصراعات، وتدني معايير المهنية، وفقدان وسائل الإعلام لأي إمكانية للتأثير أو المساهمة الإيجابية في المجتمع.

كأي صناعة يحتاج الإعلام إلى موارد مالية من أجل إدارة منشآته، وتنميتها. كما ينبغي، كذلك أن تدر هذه الصناعة على العاملين فيها أرباحاً تغطي احتياجاتهم وتسهم في توسيع نطاق هذه الصناعة وتطويرها. وتأتي هذه الأموال عادة من أحد مصادر ثلاثة:

أولاً: الإعلانات، التي ينبغي أن ترتبط بإقبال حقيقي من الجمهور وليس بإحصاءات مزورة عن إقبال المشاهدين، أو بطلب مباشر من أصحاب النفوذ لدعم قنوات بعينها.

ثانياً: الدعم المباشر من الجمهور عن طريق الاشتراكات في قنوات مشيفرة. ثالثاً: قنوات الخدمة العامة الممولة من الضريبة العامة أو من ضريبة مباشرة للمشاهدة وهنا بيت القصيد..

فأحد الأسباب المهمة للخلل الموجود في سوق الإعلام هو إعراض الحكومات عن دعم محطات تليفزيون الدولة باعتبارها محطات للخدمة العامة التي ينبغي أن تتصدر المشهد بتقديم برامج احترافية متزنة وبعيدة عن ضغوط الإعلان ورجال الأعمال. ويقتضي ذلك القيام بعدد من الخطوات المنهجية لمساعدة أصحاب القرار على وضع رؤية تستفيد من التجارب المماثلة في هيئة الإذاعة البريطانية، والكندية وغيرهما من الأمثلة الناجحة، إضافة إلى الخروج باستراتيجي­ات تحدد المهام الموكلة إلى وسائل إعلام الخدمة العامة والتي ينبغي أن تنصب على دعم مصداقيتها بما يجعلها الملاذ لكل من يبحث عن المعلومة الصادقة المنزهة عن الأغراض السياسية. كما سيتطلب الأمر عمليات إعادة هيكلة للوسائل والأدوات الموجودة بما يحقق الأهداف المرجوة، ووضع برامج تدريبية على مستوى رفيع.

المهمة ليست سهلة ولكنها مطلوبة. ولا غنى عنها من أجل الارتقاء بمستوى ما يقدم في الإعلام، وإخراج نموذج ينافس المطروح في السوق، ويضع معياراً تقيس عليه القنوات الخاصة. ساعتها فقط يمكن ل"محمد" ضيف نقطة حوار، أن يطمئن إلى أن رجال الإعلام صاروا في خدمته، وليس في خدمة الإعلان وشركاته.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates