Trending Events

معضلة مستمرة:

مشكلة ”ملكية الأرض“ في قارة أفريقيا

- سبستيان جاتيمو باحث في شؤون الجريمة وعدالة التوزيع، مؤسسة الدراسات الأمنية، نيروبي، كينيا

لاتزال الأرض مصدر رزق أساسي لمعيشة غالبية الأفارقة، وتبرز أهميتها في مجالات التنمية الزراعية والسياحة والإسكان، ومع ذلك فإن أحد التحديات الرئيسية التي تواجه العديد من البلدان الأفريقية اليوم هي قضية "ملكية الأراضي"، إذ يوجد في معظم البلدان الأفريقية نظامان لحيازة الأراضي، يقوم أحدهما على أساس حقوق الملكية الخاصة، بينما يقوم الآخر على الحقوق العرفية، ويتسبب التباين بين هذين النظامين في الأغلب في حدوث الكثير من النزاعات في أفريقيا.

وتنبع قيمة الأراضي الزراعية ليس فقط من كونها مورداً للغذاء والدخل، ولكن كذلك من توفير الاحتياجات الأساسية، مثل حطب الوقود والأسمدة العضوية، والأدوية، ومواد بناء المساكن) 1 (. ويتمثل الملمح الأساسي من مشكلة الأرض في معظم بلدان القارة في الاختلال الشديد في تملّك الأراضي، وذلك على أساس عرقي أو طبقي، بالإضافة إلى تنامي ظاهرة تملك الأجانب للأراضي)2،) يستوي في هذا الدول التي عانت من سيطرة المستوطنين الأجانب على الأراضي الزراعية في ظل الاستعمار الأجنبي، أو تلك التي لم تعان من هذه المشكلة، مثل السودان وجنوب السودان، واللتين تعانيان من سيطرة النخب والشركات الأجنبية على الأراضي الزراعية والسياحية ذات الجودة العالية)3(. وتختلف حدة مشكلة الأرض من دولة لأخرى، ففي الدول التي قام فيها المستعمر بمصادرات محدودة للأراضي، مثل بوتسوانا وزامبيا وملاوي، على سبيل المثال، نجد أن مشكلة الأرض تكون أقل حدة، وتحولت المشكلة بمرور الوقت إلى تركز الأراضي في يد قلة من السود، بينما أدت سيطرة المستوطنين على مساحات واسعة من الأراضي في كينيا وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وناميبيا وموزمبيق وأنغولا إلى

صراعات ممتدة(4 ). وعلى الرغم من صعوبة تحليل مسببات الصراع في النزاعات المسلحة في القارة الأفريقية على مدى العقود القليلة الماضية، فإن عوامل مثل محاولات السيطرة على الأراضي والموارد الطبيعية، تُعتبر من العوامل الرئيسية المسببة للصراع.

�أولاً: �لاأبعاد �لمختلفة لم�صكلة �لاأر�ش

تعاني القارة الأفريقية من مشكلات تتعلق بملكية الأراضي، وستتم الإشارة هنا إلى أبرز الدول التي تعاني من هذه الظاهرة، وهي تتمثل فيما يلي: 1- إثيوبيا: تُعد واحدة من الدول التي تمر بعملية تحوّل بطيئة نحو الاقتصاد الرأسمالي، ولذلك توقع البعض أن تتجه إثيوبيا نحو الخصخصة وتسجيل ملكية الأراضي، إلا أنه سرعان ما خابت تلك التوقعات، فلقد قررت الحكومة الانتقالية في إثيوبيا عدم النظر في مسألة ملكية الدولة، على الرغم من التزامها بتحرير الاقتصاد(5 ). وقد أدى تقييد حقوق تملك الأرض، إلى تقليل الحوافز للاستثمار فيها، كما أنه يحد من نقل ملكية الأراضي، وهو ما يقيد بدوره تنمية القطاع الزراعي وإدارة الموارد الطبيعية، وفي

الوقت الذي طبقت فيه الحكومة الإثيوبية سياسة تقوم على ملكية الدولة للأرض، يروج العديد من الاقتصاديي­ن الزراعيين والوكالات الدولية المانحة شكلاً من أشكال خصخصة ملكية الأراضي) 6 (. 2- كينيا: تعتبر الأراضي السبب الرئيسي وراء انعدام الأمن في شرق أفريقيا، وتعد كينيا مثالاً جيداً على ذلك، فقد كانت الأراضي هناك مصدراً للصراع لسنوات، ومن ذلك أعمال العنف التي شهدتها كينيا مؤخراً في مقاطعة لامو في عام 2014، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من مائة مواطن وهروب الآلاف من منازلهم)7،) وشهدت عدة مناطق في السنوات العشر الأخيرة أعمال عنف، مثل إقليم الساحل، والوادي المتصدع، والمحافظات الغربية والشمالية. وكانت مشكلة الأراضي أهم المظالم في المنطقة، ولكن لا توجد مع ذلك إرادة سياسية لحلها، وجاء في تقرير صدر مؤخراً في كينيا عن لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة أن هناك صلة وثيقة بين عدم المساواة في توزيع الأراضي وبين العنف العرقي في البلاد. وتأخذ المظالم المتعلقة بالأراضي عدة أشكال، منها الاستيلاء على أراضي الأفراد والمجتمعات المحلية من قبل المؤسسات العامة والخاصة والمسؤولين الحكوميين، واستفادة بعض الجماعات العرقية من مخططات الاستيطان على حساب الآخرين، والإخلاء القسري. ويسيطر 20% من السكان فقط على 50% من الأراضي الصالحة للزراعة في كينيا، كما أن هناك 15% من الكينيين لا يمتلكون أية أراض، في حين أن 67% من السكان يمتلكون أقل من فدان لكل شخص) 8 (. 3- أوغندا: لا تعتبر الأرض هناك عاملاً من عوامل الإنتاج فحسب، بل إنها أولاً وأخيراً تشكل وسيلة لتحديد الروابط الاجتماعية والروحية عبر الأجيال. فهناك ربط بين الإثنيات والسيطرة على أراض معينة، سواء أكانت ملكية على المشاع، أو ملكية خاصة)9،) وهو ما يتسبب، إلى حد ما، في نشوب النزاعات والتوترات الإثنية باعتبار أن مسألة الأرض ما زالت منذ سنوات حتى الآن دون حل. ونظراً لأن اقتصاد البلاد هو اقتصاد زراعي، تزداد قيمة الأرض بالنسبة للسكان لكونها من الأصول الاقتصادية – الاجتماعية الاستراتيج­ية، كما تأتي أهمية هذا القطاع من هيمنته على الاقتصاد الوطني، ففي عام 2009، ولد القطاع الزراعي حوالي 43% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، و85% من عائدات التصدير، كما يعمل به 80% من العمالة الوطنية. وهناك 2.5 مليون من صغار الملاك في أوغندا يعمل كل منهم على أقل من هكتارين من الأرض لإنتاج القسم الأكبر من الإنتاج والمحاصيل الغذائية التي حلت محلها محاصيل التصدير كمصدر رئيسي للدخل بالنسبة للعائلات الريفية(10)، ونتيجة لذلك، فإن مصدر رزق ورفاهية معظم الأوغنديين ما يزال معتمداً على إدارة وتنمية الأرض على نحو مستدام، وهذا ما يجعل الأرض هناك مسألة سياسية حساسة، كما لا تزال تسيطر على أجندة التنمية في أوغندا. وقد أدى اكتشاف النفط في منطقة ألبرتاين غابين إلى رفع سقف التوقعات لدى المواطنين في أوغندا بسبب العائدات المتوقعة، وتأثيره الإيجابي على الاقتصاد الأوغندي وتحقيق الرفاهية الاجتماعية، غير أنه على الجانب الآخر، فقد أدى هذا الأمر إلى تعقيد مسألة الأرض أكثر، نظراً لأن قيمتها وأهميتها ارتفعت كثيراً من وجهة نظر المجتمعات المحلية. 4- جنوب السودان: تعد جنوب السودان في حاجة ماسة إلى سياسة مدروسة بعناية لتقنين ملكية الأراضي، لكن تنفيذها لن يكون مهمة سهلة في منطقة يوجد فيها مختلف أشكال الملكية المجتمعية، وإضافة إلى ذلك، فإن المنطقة قد دمرتها الحروب والمجاعات طول سنوات كثيرة. وتتمثل العوامل التي تجعل من تقنين ملكية الأرض مسألة حيوية العوامل التالية: • الحاجة المتزايدة إلى الأرض لإعادة توطين اللاجئين والأشخاص النازحين داخلياً. • الضغوط التي يمارسها المستثمرون والجهات المانحة من أجل جعل الأرض متاحة للملكية الخاصة للاستخدام التجاري، خصوصاً في قطاع الصناعات الاستخراجي­ة. • ضرورة تحديد وتخصيص أراض لأغراض عامة ولعمليات التطوير العمراني وتطوير البنية التحتية. • حل مشكلة الصراع على الموارد وملكية الأراضي. وعلى الرغم من الحاجة الملحة لمثل هذا التقنين لملكية الأراضي، فإنه من غير المتوقع أن يتم ذلك في المدى القريب، فما زالت الحكومة في مراحل مبكرة من عملية تأسيس هياكلها الإدارية في الولايات العشر الواقعة تحت سلطتها، وهي العملية التي تسير الآن ببطء وعلى نحو غير متجانس في أنحاء الولايات المختلفة، وذلك بسبب الافتقار إلى الرأسمال البشري والخبرة والموارد المالية(11).

إن طريقة علاج مشكلة الأرض ستحدد مستقبل الاستقرار السياسي لمعظم البلدان الأفريقية، ولابد للنخب السياسية من أن تتفادى عادة النظر إلى مصالحها الشخصية، وأن تفكر في مصالح مواطنيها، وذلك من أجل التوصل لتسوية شاملة تضم جميع مكونات المجتمع، وتضع نهاية لمشكلة الأرض في هذه القارة.

ثانياً: عو�قب �لاأنماط �لحالية لملكية �لاأر��صي في �أفريقيا

لاتزال مسألة الأرض تشكل الدافع الرئيسي للعنف الإثني في العديد من الدول الأفريقية لسنوات عدة، ومن ذلك كينيا، وعلى وجه الخصوص في الأحداث التي وقعت بين عامي 2007 و2008، حين تم قتل أكثر من ألف شخص ونزح الآلاف من منازلهم، بعد أحداث العنف التي تلت الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2007، وهم الآن ينتظرون تحقيق العدالة

من خلال القضايا التي مازالت المحكمة الجنائية الدولية تنظر فيها)12،) ولا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة لأوغندا. ويلاحظ ارتباط مسألة الأرض في معظم بلدان أفريقيا بمشكلة الفساد؛ ففي بعض الحالات، تستولي النخب على الأراضي من أجل المضاربة بها وبيعها بأسعار مبالغ فيها للحكومة، ولابد من مكافحة الفساد، حتى يتم تحقيق الاستقرار والسلام، باعتبار أن الأرض تبقى ثروة اقتصادية واجتماعية رئيسية بالنسبة لأفريقيا. وبعد اكتشاف الثروات الطبيعية، خصوصاً المعادن والنفط والغاز، في مختلف أنحاء القارة، توشك النخب على الاستئثار بالمنافع والفوائد لنفسها، وذلك على حساب المجتمعات المحلية، وبالرجوع إلى الخبرة الأفريقية السابقة، نجد أن ذلك تسبب في نشوب الصراعات في مختلف أنحاء البلدان الأفريقية بما فيها جمهورية الكونغو الديمقراطي­ة وجنوب السودان وأنغولا وغيرها. ويمكن القول إن من مشاكل ملكية الأرض في الحالة الأفريقية، التخلي عن نظام ملكية الأراضي التقليدي، الذي كان سائداً قبل الاستعمار، وذلك بسبب التبني اللاحق لسياسات المستوطنين التي جاءت بعد الاستعمار. فقد قام المستعمرون بفرض الملكية الفردية للحقوق العقارية على الأراضي التي كانت في السابق ملكية مجتمعية. وفي النهاية تم اتباع أنظمة مختلفة لملكية الأرض، وهو ما أدى إلى ازدواج وإرباك نظم إدارة الملكية الزراعية.

ثالثاً: م�صتقبل م�صاألة �لاأر�ش و�لحلول �لممكنة

لاتزال مسألة الأرض في أفريقيا دون حل حتى الآن، وهو ما يمكن إرجاعه لعدة عوامل، أهمها المقاربة التدريجية في مجال إصلاح نظام الملكية الخاصة بالأراضي، فضلاً عن الميل للتقليل من المشكلة في الجدل الفكري والسياسي الرسمي، من خلال تبني مناهج الغاية تبرر الوسيلة في الجدل الدائر، والتي تتوقع نمواً أكبر في الطلب على الوظائف في القطاع الصناعي وغير الزراعي بصفة عامة، فضلاً عن الترويج لأيديولوجي­ا تنتقد نظم الإنتاج الزراعي، ونمط الحياة في المناطق الريفية، وهي كلها عوامل، وفقاً لأصحاب هذا التوجه، سوف تحد من مشكلة الأرض بصورة تدريجية وتلقائية.

ويمكن القول إن طريقة علاج مشكلة الأرض ستحدد مستقبل الاستقرار السياسي لمعظم البلدان الأفريقية، ولابد للنخب السياسية من أن تتفادى عادة النظر إلى مصالحها الشخصية، وأن تفكر في مصالح مواطنيها، وذلك من أجل التوصل لتسوية شاملة تضم جميع مكونات المجتمع، وتضع نهاية لمشكلة الأرض في هذه القارة، ولابد أيضاً من تمكين المؤسسات لكي تقوم بدور الإشراف، وتقدم توصيات سياسية تتصف بالحيادية، وهذا سيساعد بدوره في الحد من العداء الإثني الذي تسبب بالخراب والدمار في هذه البلدان وظهور الدول الفاشلة.

وعلى الرغم من أن هذه العملية سوف تكون ذات تكلفة عالية بالنسبة للأرستقراط­يين المالكين للأراضي، فإن المضي قدماً نحو هذا الحل سوف يضمن تحقيق الوحدة الوطنية والسلام والمصالحة بين مكونات المجتمع، وهي شروط لازمة من أجل توفير المناخ الملائم للاستثمار والتنمية المستدامة.

وتعد استشارة المواطنين والمجتمعات المحلية عاملاً حاسماً في نجاح الخطة، وفي تقليص التوتر والصراع على الأرض، ولابد، في هذا الإطار من الاختيار بين الاستمرار باستخدام الأنظمة المتعددة لملكيات الأراضي أو السعي إلى نظام ملكية مستدام وجدير بالثقة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates