Trending Events

تحولات أنقرة:

المساران المحتملان لتحقيق التوازن أو ”الأزمة المفتوحة“داخل تركيا

- مرت تركيا داخلياً بثلاث مراحل أساسية، مرحلة "العلمنة" التي بدأت مع تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، ومرحلة النظام الديمقراطي التي بدأت عام 1945 وفجرت عملياً الصراع بين العلمانية والإسلام السياسي، وانتهت بالدخول إلى المرحلة الثالثة مع وصول حزب العدالة وال

ولم تكن السياسة الخارجية التي اتبعها أردوغان، لاسيما تجاه سوريا ومصر وليبيا، بعيدة عن المشهد الانتخابي الذي أفرز خريطة برلمانية مختلفة، فهذه السياسة ألقت بتداعيات أمنية واقتصادية وسياسية على الداخل التركي، خاصة مع اشتداد خطر التنظيمات الإرهابية، وتحديداً "داعش". في هذا الإطار تهدف هذه الدراسة إلى معرفة طبيعة التحولات الداخلية التي شهدتها وتشهدها تركيا، انطاقاً من الخصائص الاجتماعية والسياسية والأيديولو­جية والاقتصادي­ة والمجتمعية، والتي تشكل مجتمعة عناصر مهمة في مسيرة التحولات الجارية، والأهمية هنا، تتجاوز معرفة طبيعة هذه التحولات إلى محاولة استشراف الخريطة السياسية الجديدة والقوى الصاعدة التي باتت تحتجز مكاناً ومكانةً لها في الحياة السياسية والدستورية، بما يؤثر على طبيعة السياسات الداخلية والخارجية والخيارات السياسية التركية تجاه الدوائر الجغرافية، لاسيما العالم العربي الذي شهدت عاقاته بتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية تحسناً كبيراً قبل أن تشهد حالة من التوتر والفتور تبعاً للقضايا التي تشغل عاقة تركيا بكل دولة عربية على حدة.

�أولاً: �صعود حزب �لعد�لة و�لتنمية وبدء عهد �أفوله

عندما تأسس حزب العدالة والتنمية نهاية عام 2001 استفاد الحزب من عاملين أساسيين، ساهما لاحقاً في سلسلة الانتصارات التي حققها الحزب في الانتخابات المحلية والبرلماني­ة والرئاسية التي جرت، وهما: العامل الأول: داخلي، ويتمثل في الرؤية السياسية التي طرحها الحزب، وهي رؤية قامت على التوفيق بين الهوية الإسلامية التي كانت مقموعة منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923 والعلمانية باعتبارها تشكل أسس النظام السياسي، والاقتصاد الذي كان يعاني من أزمة كبيرة ويعيش على وصفات صندوق النقد الدولي. فمن خلال هذه الرؤية الثلاثية الأبعاد نجح الحزب في استلهام النخب السياسية والاقتصادي­ة والدينية، فضلاً عن جماهير الريف، لاسيما في عمق الأناضول، على شكل حركة ناهضة نجحت في صوغ هوية جديدة لتركيا.

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن الحزب استفاد من أخطاء أحزاب الإسلام السياسي التي تأسست في مطلع ستينيات القرن الماضي مع نجم الدين أربكان الذي أسس حزب السلامة الوطني، ومن ثم حزب النظام الوطني، ولاحقاً أحزاب الرفاه والفضيلة والسعادة؛ إذ حرص حزب العدالة والتنمية في البداية على أن يخفي أيديولوجيت­ه الإسلامية، وعلى أن ينتهج قواعد اللعبة الديمقراطي­ة واتباع الوسائل السلمية والآليات المتاحة في الحياة السياسية، تجنباً للصدام مع المؤسسة العسكرية التي تعد من أهم وأقدم المؤسسات الوطنية في تركيا. وبفضل هذا النهج نجح الحزب في تحويل خطواته التكتيكية إلى استراتيجية أثمرت في جعله الحزب الأول الذي يتصدر المشهد السياسي في البلاد طوال الفترة الماضية. العامل الثاني: خارجي، ويتعلق بجملة الظروف الإقليمية والدولية التي تزامنت مع تأسيس حزب العدالة والتنمية، فانصبت في الداخل التركي عوامل متفاعلة في خدمة استراتيجيت­ه، فتداعيات انهيار الجار اللدود، أي الاتحاد السوفييتي، انعكست صعوداً في نفوذ الحركات الإسلامية في المنطقة وتركيا، وهذا ما استفاد منه الحزب في توظيف الهوية الدينية كبعد سياسي واجتماعي وانتخابي.

كما أن نموذج إيران في تصدير الثورة دفع بالعديد من دوائر السياسة في الغرب وتركيا والمنطقة إلى التفكير في نموذج إسلامي مقابل، يحمل صفة الاعتدال والنموذج، فكان نموذج العدالة والتنمية.

وقد شكل هذان العاملان السابقان مدخلاً وجسراً لحزب العدالة والتنمية لانتهاج سياسة تركية مغايرة تجاه العالم العربي، خاصة أن الحزب عرف كيف يخاطب العالم العربي ثقافياً وأيديولوجي­اً، مستفيداً من عوامل التاريخ والجغرافيا والبنيان الحضاري.

وبفضل كل ما سبق نجحت تركيا في نسج علاقات جيدة مع الدول العربية، قبل أن تتحول إلى طرف أيديولوجي في القضايا الداخلية العربية، وتتعرض بسبب ذلك علاقاتها مع العديد من هذه الدول إلى التوتر. باختصار، استفاد الحزب من مجمل العوامل الداخلية والخارجية، ليس في الفوز بسلسلة الانتخابات التي جرت فحسب، بل في بسط سيطرته على مجمل مؤسسات الدولة التركية، إذ سيطر على الرئاسات الثلاث (البرلمان – الحكومة – الجمهورية).

وانطلاقاً من هذه السيطرة والأغلبية في البرلمان عمل على إعادة تشكيل بنيان النظام السياسي في البلاد، فنجح في وضع حد لدور الجيش وتدخله في الحياة السياسية، وألحق رئاسة الأركان بوزير الدفاع الذي أصبح مدنياً يتبع لرئاسة الحكومة، وأعاد هيكلة معظم المؤسسات الحيوية للدولة، لاسيما القضاء والاقتصاد والتعليم العالي، وأعيد الاعتبار للتعليم الديني. وبالتوازي مع كل ذلك، شهد الاقتصاد التركي تحسناً كبيراً أوصله إلى المرتبة الثامنة عشرة عالمياً.

وقد شكل كل ما سبق قصة نجاح تركية، كان بطلها بامتياز رجب طيب أردوغان الذي أسس مع رفيق دربه عبداله غول الحزب قبل أن يتفرد بقيادته ويحقق مجده في الوصول إلى قصر تشانقايا الرئاسي ويتطلع إلى الانتقال إلى القصر الأبيض ليتناسب والنظام الرئاسي الذي يتطلع إليه.

لكن مأساة أردوغان أنه في ذروة هذا الإحساس بالنجاح جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية لتضع حداً لتطلعاته، وليجد نفسه أمام واقع جديد، ومعه بات السؤال عن شكل تركيا المستقبل وسياستها وهويتها في صلب كل حركة.

ثانياً : » �لاأردوغاني­ة « .. �إلى �أين؟

خلال السنوات القليلة الماضية لم يعد أردوغان مجرد زعيم لحزب سياسي أو رئيس لحكومة أو حتى رئيس للجمهورية، فالرجل تحول إلى ظاهرة سياسية بامتياز ليس في تركيا فحسب، وإنما في مناطق عديدة أخرى من العالم، لاسيما في دول عربية، وتحديداً مصر في عهد حكم الإخوان المسلمين،

وتونس في مرحلة عهد حزب النهضة، وغزة تحت حكم حركة حماس. ولعل انتشار الظاهرة الأردوغاني­ة على هذا النحو أطلق العنان لتطلعات أردوغان الجامحة المتمثلة في الانتقال من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي بصاحيات مطلقة بما في ذلك حل البرلمان، وهو عندما تطلع إلى هذا الأمر انطلق من ثاثة عوامل أساسية: 1- فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابا­ت الرئاسية التي جرت في أغسطس 2014 بقرابة 52% من الأصوات. وعلى اعتبار أن هذه الانتخابات كانت الأولى التي تجري في البلاد بالاقتراع المباشر من الشعب (في السابق كان انتخاب رئيس الجمهورية يجري من داخل البرلمان)، فقد اعتبر أردوغان أن فوزه هذا يعطيه المشروعية السياسية والأخلاقية في الانتقال إلى النظام الرئاسي نظراً لأن هذا النظام يناسب دور رئيس الجمهورية في تحديد السياسات الداخلية والخارجية للبلاد. 2- اعتقاد أردوغان أن حزب العدالة والتنمية سيفوز بالانتخابا­ت البرلمانية التي أجريت يوم 7 يونيو 2015 بأكثر من 367 مقعداً، أي الأغلبية الدستورية المطلوبة لتمرير أي مشروع قرار من داخل البرلمان، وإن لم يكن ذلك ف 330 مقعداً؛ كي يتمكن من عرض المشروع على استفتاء شعبي. وفي أسوأ الحالات لم يكن أردوغان يتوقع أن يخسر حزبه حتى نسبة النصف زائداً واحداً المطلوبة لتشكيل الحكومة منفرداً. 3- إن أردوغان، إلى جانب تطلعه إلى إقامة نظام رئاسي، كان يخطط للوصول إلى تركيا جديدة بحلول عام 2023، أي في الذكرى المئوية الأولى، لتأسيس الجمهورية التركية وإقامة الجمهورية الثانية التي يكون هو مؤسسها بعد أن يفوز بفترة رئاسية ثانية(1).

وهنا كان يراهن على وضع دستور جديد للبلاد، دستور يتيح له إحداث تغيرات هائلة في بنية المجتمع التركي وهويته وثقافته وسلوكه على شكل التأسيس للعثمانية الجديدة، بعد أن جعل منها أردوغان رافعة سياسية وثقافية وأيديولوجي­ة، خاصة بعد أن قرر إعادة التدريس باللغة العثمانية في المدارس، وخصص موازنة ضخمة لرئاسة الأوقاف الدينية تفوق موازنة عشر وزارات.

لكن رياح الانتخابات البرلمانية عصفت بتطلعات أردوغان هذه، وجعلت من حصول حزب العدالة والتنمية على الترتيب الأول (41.8)% هزيمة سياسية، بعد أن فقد أغلبيته البرلمانية وجعلته أسيراً لائتلاف حكومي يستجيب للشريك السياسي الجديد الذي كان أردوغان يصفه قبل الانتخابات بأبشع الصفات والنعوت.

وعليه يمكن القول إنه بعيداً عن رفض الأحزاب التركية المعارضة للنظام الرئاسي، فإن نتائج الانتخابات كانت رسالة رفض من الناخب التركي لهذا النظام، والسبب الأساسي لرفضه هذا هو خشيته من إقامة نظام شمولي دكتاتوري.

ولعل ما عزز من الخشية لدى الناخبين هو تصرفات أردوغان عندما لجأ إلى ممارسة العنف ضد المتظاهرين في ساحة تقسيم باسطنبول وقمع الحريات الصحفية وزج عشرات الصحفيين والناشطين في السجون وحظر العديد من مواقع التواصل الاجتماعي وشن حرب إقصائية ضد أنصار الداعية فتح اله غولن، وجعل الأحزاب المعارضة مجرد خصوم سياسيين تشن ضدهم الحرب في كل وقت ومناسبة، وإصراره على إجبار القضاء على تجاوز ملف فضيحة الفساد التي هزت الحزب والبلاد، خاصة أنها طالت العديد من قيادات الحزب، بل وحتى نجله بلال، وقد تطلب هذا الأمر من أردوغان إلحاق القضاء بسلطة وزير العدل الذي هو في النهاية موظف في حكومة العدالة والتنمية.

ومن دون شك، فإن المشهد الجديد في مرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانية، وضع مشروع الانتقال إلى النظام الرئاسي في الثلاجة إلى حين اتضاح طبيعة التحالفات التي ستنشأ بين القوى السياسية التي ستقود المرحلة المقبلة)2،) وموقع حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة، ومعرفة تداعيات نتائج الانتخابات على الحزب. وبانتظار كل ذلك، فان ثمة وقائع باتت تشكل تحديات أمام أردوغان وحزب العدالة والتنمية، من شأنها إعادة التوازن إلى الخريطة السياسية والحزبية في الباد، ولعل من أهم هذه التحديات أن حزب العدالة والتنمية فقد العناصر القانونية والدستورية التي كانت تتيح له السيطرة على مؤسسات الدولة وإعادة صوغ الهوية الاجتماعية والثقافية للبلاد.

ومع فقدانه هذه العناصر، فإن الحزب بات يواجه تحديات تنظيمية وسياسية يبدو معها مصيره أمام خيارات مفتوحة، بين من يرى أن ما حصل سيدفع بالحزب إلى إجراء مراجعة سياسية قد تنتهي بعودة الرئيس السابق عبداله غول إلى قيادته ووضع حد لتفرد أردوغان بإدارة الحزب ولو من خلال أحمد داود أوغلو، وتعديل القانون الداخلي للتنظيم الذي كان سبباً في بقاء أكثر من سبعين نائباً خارج الحياة السياسية.. وبين من يرى أن ما سبق لم يعد ممكناً بعد أن أصبح الحزب منقسماً عملياً بين القيادة الجديدة التي أوصلها أردوغان إلى سدة القيادة الحزبية وبين القيادات المؤسسة من أمثال عبداله غول وبولنت أرينج، فضلاً عن العشرات من الذين استقالوا من الحزب بسبب رفضهم لطريقة إدارة أردوغان للحزب(3).

في جميع الأحوال، فإن حزب العدالة والتنمية قد يشهد تطورات دراماتيكية إذا ما أحس أردوغان بأن الحزب في خطر جدي. ولعل من السيناريوه­ات المطروحة هنا، احتمال استقالة

أردوغان من رئاسة الجمهورية والعودة إلى قيادة الحزب بشكل مباشر إذا ما وجد أن حزبه سيتعرض للمزيد من الانهيار وأن مشاريعه في الانتقال إلى النظام الرئاسي ووضع دستور جديد ستتعرض إلى التلاشي. وعليه ينبغي متابعة ومراقبة السلوك الذي سينتهجه حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة لمعرفة تداعيات الانتخابات على مصيره أولاً، وعلاقة ذلك بمسار الحياة الحزبية والسياسية في البلاد ثانياً.

ثالثاً: �لجي�ش رقم �صعب في �لمعادلات �ل�صيا�صية

على الرغم من نجاح أردوغان في تحجيم دور المؤسسة العسكرية وتدخله في الحياة العامة، فإن ثمة معادلة تقليدية قديمة راسخة في الحياة التقليدية التركية، تتعلق بطبيعة علاقة الجيش بالحياة السياسية ومستقبل البلاد، مفادها: )إن الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش( بعد وضع مجموعة من الآليات والمواد الدستورية للتدخل في اللحظة المناسبة، كما هي حال المادة 35 التي تتيح له التدخل والتحرك لتسلم السلطة في حال وجد أن الجمهورية والديمقراط­ية معرضتان للأخطار)4،) وهي المادة التي ما زالت سارية المفعول على الرغم من الإصلاحات التي أجرتها الحكومة على صعيد المؤسسة العسكرية ودورها وهيكلتها. ولعل ما يجعل لهذه المعادلة قيمة في اللحظة السياسية الراهنة هو مجموعة من العوامل والاحتمالا­ت، لعل أهمها: 1- إن الدستور الذي يحكم الباد هو الدستور الذي وضعه الجيش عقب الانقاب الذي قام به الجنرال كنعان إيفرين (توفي قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة بفترة قصيرة) في عام 1980، فعلى الرغم من كل التعديلات والإصلاحات التي أجرتها حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة، فإن هناك بنوداً ما زالت تتيح للجيش التحرك في اللحظات التي قد يراها أنها تشكل خطراً على مستقبل البلاد. 2- إن الجيش الذي يعد أعرق وأقوى مؤسسة وطنية في الباد يحس في العمق بأنه تعرض للإهانة والإقصاء على يد أردوغان، خاصة بعد أن زج بعشرات من قادته في السجون بتهمة التحضير للانقلاب ضده ومكافحة منظمة (أرغينيكون– الوطنيون الجدد) ومحاولة أردوغان "الأسلمة" التدريجية لمؤسسة الجيش عبر التخلص من المدافعين عن أسس العلمانية، وتسليم العديد من قيادات الجيش للمحسوبين على التيار الإسلامي، وتحديداً حزب العدالة والتنمية.

ولعل ما كان يمنع الجيش من التحرك في المرحلة السابقة هو الوضع السياسي المتمثل في سيطرة حزب العدالة والتنمية على مؤسسات الدولة، فضلاً عن الشعبية الكبيرة للحزب والنجاحات الاقتصادية التي حققها. وعلى المستوى الخارجي يتملك الجيش شعور عميق بأن ثمة تحالفاً قوياً بين الإدارة الأمريكية وحكومة العدالة والتنمية على كيفية إدارة العديد من ملفات المنطقة. لكن الثابت أن هذه المعادلات تغيرت الآن، وأن الجيش بدأ يتحسس من جديد دوره على وقع إيقاعات المشهد السياسي التركي الجديد بعد الانتخابات، والتوتر الذي يشوب السياسة الخارجية التركية. 3- إن من يراجع تاريخ تحرك الجيش التركي وقيامه بانقابات عسكرية كما حصل في أعوام 1960 – 1971 – 1980 وصولاً إلى انقابه الأبيض ضد نجم الدين أربكان عام 1997 لابد أن يدرك أن التوقيت الذهبي لتحركه دوماً، هو لحظة إحساسه بأن الباد تتجه إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار.

وربما يطرح الوضع الجديد في البلاد احتمال مثل هذا السيناريو إذا ما علمنا أن تجربة الحكومات الائتلافية في السبعينيات والتسعينيا­ت من القرن الماضي كانت فاشلة، فجميع الحكومات التي تشكلت في هذا السياق لم تستطع أن تستكمل المدد الدستورية، وفي كثير من الأحيان تحولت إلى حكومات تصريف أعمال.

ويدرك أردوغان هذا الأمر جيداً، وعليه يمكن تفسير تلويحه الدائم بإجراء انتخابات مبكرة في رسالة للجيش بأنه لن يسمح بأن تتجه البلاد إلى الفوضى، خاصة أن أردوغان، وعقب ثورة الثلاثين من يونيو في مصر ضد حكم محمد مرسي، بات مسكوناً بالخشية من تحرك الجيش في الداخل التركي. وما يعزز من هذه الخشية نتائج الانتخابات البرلمانية التي شكلت مؤشراً قوياً لرفض الشارع التركي سياساته.

وفي جميع الأحوال، فإن أردوغان يعتقد أن المرحلة المقبلة هي مرحلة انتقالية حساسة وسيتم في النهاية التوجه إلى انتخابات مبكرة بعد أن يكون قد أعد حزبه لمثل هذا الاستحقاق، فهو يعتقد أن صيغة الحكومات الائتلافية لن تسمح له بتحقيق تطلعاته.

ر�بعاً: �لق�صية �لكردية �لمفتوحة على مع�صلة �لهوية

أثبتت النتائج الكبيرة التي حصل عليها الديمقراطي الكردي

في الانتخابات البرلمانية أن قرار حزب الشعوب خوضه هذه الانتخابات حزباً مستقلاً لم يكن مجرد مغامرة سياسية كما قال البعض، بل إدراك عميق منه لحقيقة وأهمية الكتلة الانتخابية الكردية الكبيرة نسبياً وللمتغيرات والتحولات التي تشهدها تركيا، ولعل الأهم هنا على المستوى السياسي والأخلاقي مضمون خطابه السياسي الذي استطاع الجمع بين التطلعات القومية الكردية وإقناع الناخب التركي بأن برنامجه السياسي سيعزز الديمقراطي­ة ويقطع الطريق أمام احتمال الانتقال إلى حكم شمولي.

ومع تجاوز الحزب الكردي العتبة الانتخابية المحددة بعشرة بالمئة وحصوله على أكثر من 13% من الأصوات، والتي حجزت له 80 مقعداً في البرلمان، أضحى الأكراد قوة برلمانية مؤثرة في الحياة السياسية والدستورية، وبقدر ما شكل هذا الفوز انتصاراً للأكراد والديمقراط­ية في البلاد، فإنه شكل هزيمة لمشاريع أردوغان على المستوى الشخصي.

في الواقع، وبعيداً عن لغة الأرقام والنسب التي حصل عليها كل حزب، فان الكرد كانوا الرابح الأكبر في هذه الانتخابات، إذ إن النتائج أظهرت مدى ارتباط عملية التصويت بالتحولات السياسية والاجتماعي­ة والديمقراط­ية في البلاد من جهة وتعزيز قواعد اللعبة الديمقراطي­ة في البلاد، ومن جهة ثانية تحقق التوازن في الهوية السياسية والاجتماعي­ة خدمة للاستقرار بعد أن اتبعت الحكومات التركية المتتالية نهجاً إقصائياً قام على إنكار الهوية القومية للكرد في وقت باتت هذه القضية تشكل مؤشراً للديمقراطي­ة من عدمها. لذا فإن من شأن الفوز الكردي الكبير نقل القضية الكردية إلى مرحلة جديدة على صعيد العاقة بالحكومة من جهة، وصورة تركيا من جهة ثانية. وعليه، فإن السؤال الذي يُطرح هنا هو: كيف سيؤثر الفوز الكردي على خيارات الكرد السياسية؟

بداية، ينبغي القول إنه لا يمكن النظر إلى حزب الشعوب الديمقراطي­ة الذي تأسس في أكتوبر عام 2012 بعيداً عن المراجعات السياسية والفكرية التي يجريها باستمرار زعيم حزب العمال الكردستاني عبداله أوجلان المعتقل في سجن آمرالي منذ عام 1999، إذ يمكن القول إن الرجل هو المنظر الحقيقي لفلسفة هذا الحزب وممارسته للسياسة بهوية وطنية تركية، فهو طرح نفسه كصوت ديمقراطي يمثل الشعوب والأقليات والفئات المحرومة والمهمشة، فضلاً عن قدرته على جذب التيارات اليسارية والدينية والطوائف (العلويين).

ولعل هذه الهوية الوطنية الجامعة والمنفتحة هي التي تفرض على الكرد البحث عن الخيارات الديمقراطي­ة والسياسية كقوة حل وليس كجزء من مشكلة، وإلا فإنه لا معنى لوصول الكرد إلى البرلمان، حيث يرى المعنيون بالملف الكردي في تركيا أن وصول الكرد إلى البرلمان على هذا النحو ينبغي أن يؤسس لواقع جديد في العلاقات الكردية التركية وينقل الجهود الجارية بشأن التوصل إلى حل سلمي للقضية الكردية. ويمكن القول إن مامح هذا الواقع الجديد تظهر في عدة مؤشرات، من أبرزها: 1- انتقال جهود حل القضية الكردية من دائرة الاستخبارا­ت التركية إلى المحافل السياسية، لاسيما البرلمان والحكومة بدلاً من أن يكون هذا الملف محصوراً برئاسة الاستخبارا­ت التركية، مما يعني إنتاج معادلة سياسية راسخة، عنوانها الاعتراف بالهوية القومية للكرد وتحقيق الاستقرار في البلاد، وإخراج هذا السيناريو إلى الوجود عبر دستور جديد( ). 2- انتقال الشرعية التمثيلية للكرد إلى حزب الشعوب الديمقراطي، حزباً ممثاً ومشاركاً في الحياة العامة بدلاً من بقاء الحزب جناحاً سياسياً لحزب العمال الكردستاني، بمعنى تشكيل مرجعية سياسية مقبولة لدى الكرد والترك معاً، ولعل مثل هذا الأمر يقصي خيار الحل العسكري الحاضر تحت الطاولة، سواء من قبل الحكومة التركية أو حزب العمال الكردستاني. 3- قضية الاعتراف بالهوية القومية للكرد وغيرهم من الشعوب والأقليات القومية لابد أن تؤسس لانتقال إلى الحكم المحلي من خال الاعتراف بشكل من أشكال الحكم المحلي للكرد في مناطقهم، حيث يتركزون في معظم ولايات جنوب تركيا وشرقها، ويقدر عددهم حسب إحصائيات غير رسمية بنحو 16 مليون نسمة.

وفي الأصل فإن قضية الانتقال إلى الحكم المحلي مطروحة للنقاش منذ أعوام وسط ميل نحو تطبيق الحكم المحلي المستمد معالمه من التجربة الأوروبية، بما يعزز المساعي للانضمام إلى العضوية الأوروبية. 4 منهجية الخطاب السياسي، إذ إن الخيار الديمقراطي لحل القضايا والأزمات من نوع القضية الكردية لابد أن يحمل رؤية تجسد هوية منفتحة على الآخر والتعايش معه في نسيج اجتماعي تاريخي تفرضه عوامل التاريخ والجغرافيا والتجربة المشتركة، والتحدي هنا يكمن في كيفية تقديم الهوية المحلية دون الصدام مع الآخر، خاصة أن النتاج السياسي السائد في الساحة التركية أوجد فوقية قومية تركية (عزز هذا الأمر سياسة أتاتورك التي جسدت تقديس العنصر التركي على حساب باقي العناصر) من الصعوبة أن تعترف بالآخر، بل تعد كل خطوة منه للاعتراف به انشقاقاً قومياً عن السائد السياسي (أيديولوجية سياسة حزب الحركة القومية).

ويدك الحزب الكردي هذا الأمر، ولذا فقد حرص خلال الحملات الانتخابية على انتهاج خطاب وطني يقبل به الجميع من جهة، ويخاطب كل المكونات الاجتماعية ويحترم خصوصيتها من جهة ثانية. وقد شكل مثل هذا الخطاب المنفتح أحد أهم أسرار نجاح الحزب الكردي في الانتخابات الأخيرة.

ولا تتعلق المعطيات السابقة بالكرد كقومية ثانية في البلاد، لكنها تتعلق أيضاً بباقي الأقليات القومية والطائفية والدينية كالعرب والأرمن والتركمان والبلغار... وعلى مستوى الطوائف هناك الطائفة العلوية التي تقدر بنحو 20% من السكان، ولها مطالب منذ القدم، وباتت قضاياها تطرح كإشكاليات اجتماعية وسياسية تشغل نسيج الدولة التركية وهويتها وصورتها، بعد أن أسسها أتاتورك على أساس قومي تركي اتخذ من العلمانية منهجاً شكلياً لمحاربة التعدد الديني والقومي، فيما لم تعد الثقافة السياسية السائدة قادرة على تأطيرها تحت عناوين وشعارات، سواءً أكانت قومية أم دينية.

وما يؤرق تركيا واقعياً أكثر من الصعود الكردي هو أن قضيتها الكردية في الداخل تتجاوز حدود تركيا إلى القضايا الكردية الأخرى في العراق وسوريا وإيران، إذ إنه مع تحول الكرد في المنطقة إلى لاعب إقليمي مهم على وقع تحالفهم مع الغرب ضد تنظيم "داعش" بعد أن كانوا ورقة في الحسابات الإقليمية والدولية، أصبح أي تطور في هذه القضية في هذا الجزء أو ذاك يؤثر على القضية في المناطق الأخرى بعد أن باتت قضية عضوية واحدة بكل تفاعلاتها.

وقد تجسد هذا الأمر بشكل واضح في معركة كوباني (عين العرب) بين تنظيمات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتنظيم "داعش"، إذ شدت هذه المعركة من العصب القومي لكرد العراق وإيران وتركيا، حيث شهدنا احتجاجات تضامنية مع كوباني عمت أرجاء تركيا، فيما للمرة الأولى تقوم قوات البيشمركة الكردية التابعة لإقليم كردستان بالمشاركة في أعمال قتالية خارج مناطقها، كذلك انضم العشرات من كرد إيران للمشاركة في معركة كوباني، ليشكل كل ذلك انتصاراً كردياً للهوية القومية.

وربما برزت ملامح هذا على الداخل التركي في أحد الجوانب في انصراف الناخب الكردي عن حزب العدالة والتنمية، إلى درجة أن أكثر من 35% من أصوات الكرد في ديار بكر ذهبت إلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بعد أن كان نحو 40% منها تذهب لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة. واللافت هنا هو أنه حتى الأوساط الدينية الكردية انتصرت لهويتها القومية على حساب منظومتها الأيديولوج­ية التي كانت تدور في فلك أيديولوجية حزب العدالة والتنمية) (.

وإجمالاً ترى تركيا أن الصعود الكردي في الداخل ليس بمعزل عن صعود نفوذ الكرد في العراق الذين باتوا يعيشون في شبه دولة مستقلة تحت عنوان إقليم كردستان، وبدرجة أكثر كرد سوريا الذين باتوا يحققون انتصارات كبيرة على تنظيم "داعش" في معظم المناطق الحدودية السورية مع تركيا، إلى درجة أن تركيا باتت تخشى من قيام إقليم كردي في هذه المناطق على غرار إقليم كردستان العراق) (.

وفي العمق باتت تركيا ترى نفسها أمام ما يشبه "دولة كردية" تستكمل حدودها على شكل جغرافيا تمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية إلى البحر المتوسط عبر مناطق شمال شرق سوريا، وهي ترى أن الغرب يقف وراء هذا الصعود الكردي، وأن ثمة أهداف خفية وراء ذلك تتجاوز إعطاء الكرد الحقوق القومية في هذه الدول إلى تقسيم المنطقة من جديد عبر إعادة إنتاج اتفاقية سايكس – بيكو، وإعادة الاعتبار لاتفاقية سيفر عام 1920 التي أقرت للمرة الأولى في التاريخ حق إقامة دولة كردية في تركيا كما جاء في البنود 62 – 63 -64 من الاتفاقية المذكورة، هذا فضلاً عن أهداف تتعلق بتغيير خطوط تصدير النفط والغاز من العراق عبر المتوسط لتكون عبر الدولة الكردية التي تتشكل على وقع التطورات الجارية بدلاً من تركيا) (.

ولعل ما يعمق من الجروح التركية هنا، هو تزايد الحديث في الولايات المتحدة عن احتمال نقل قاعدة أنجرليك في جنوب تركيا إلى أربيل في إقليم كردستان العراق، وتعالي الأصوات المطالبة بإخراج تركيا من الحلف الأطلسي) في ظل ازدياد الخلافات بين الجانبين واختلاف الأولويات، لاسيما في ظل رفض تركيا الانخراط في حرب التحالف الدولي – العربي ضد تنظيم "داعش" في سوريا والعراق والاتهامات الكثيرة لها بدعم التنظيمات المتطرفة، لاسيما "داعش".

وينبغي أمام الصعود الكردي الكبير وعدم جهوزية تركيا

حتى الآن لحل سياسي لقضيتها الكردية في الداخل، مراقبة مسار المشهد الكردي جيداً في المرحلة المقبلة، بمعنى هل سيتحول الثقل الكردي وقراره إلى الخيار الديمقراطي الذي سلكه حزب الشعوب الديمقراطي أم أن هذا الصعود سينفجر في لحظة ما إذا اكتشف أن أنقرة غير مستعدة لتلاقيها سياسياً؟

في جميع الأحوال، باتت تركيا أمام تحدٍ مصيري بخصوص هذه القضية بعد أن دخلت مرحلة جديدة، مرحلة تبدو فيها صورتها وهويتها وخريطتها القومية والاجتماعي­ة أمام إعادة تشكيل من جديد بعد أن غير فوز حزب الشعوب الديمقراطي­ة مسار قواعد اللعبة الديمقراطي­ة، وهي قواعد باتت تتطلب البحث عن مداخل جديدة لكيفية إدخال الكرد إلى صورة تركيا وهويتها بعد أن خرج المارد الكردي من القمم الذي وضعه فيه أتاتورك قبل نحو أقل من قرن ولم تنجح الحكومات التركية المتتالية في إيجاد حل سياسي لها.

خام�صاً: �لانق�صامات �لعمودية و�لافقية في �لد�خل �لتركي

ربما يكون الأبعد في الواقع عن قضية الصعود الكردي، هو أن ثمة قضية باتت ماثلة في المجتمع التركي، وهي قضية الانقسامات العمودية والأفقية وعلى كل المستويات، وهي في تداعياتها الاجتماعية والسياسية لا تقل خطورة عن القضية الكردية ما لم يتم انتهاج سياسة جديدة تنجح في احتوائها، وهي في سياقاتها التاريخية والسياسية ترتبط بالممارسة السياسية لحزب العدالة والتنمية، وهي انقسامات تأخذ أشكالاً كثيرة، لعل أهمها: 1- إبدال قاعدة الصراع التقليدي في الباد بين العلمانية والإسام السياسي بالصراع على الهوية، بمعنى أدق الصراع بين الهوية الأيديولوج­ية لحزب العدالة والتنمية الذي هو في النهاية شكل من أشكال تنظيمات الإخوان المسلمين ويتخذ من (السنية) هوية له وبين باقي المكونات ببعدها الطائفي (العلوي والشيعي) والسياسي، أي القوى العلمانية واليسارية والليبرالي­ة( ).

وثمة من يحمل أردوغان شخصياً مسؤولية هذا الانقسام بسبب استخدامه الورقة الطائفية في معاركه ضد الخصوم السياسيين، إذ اعتاد في السنوات الأخيرة على وصف زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار أوغلو ب "العلوي"، ومؤخراً وصف أردوغان أكثر من مرة زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي صلاح الدين دميرتاش ب "الظاظي"، وقد أدى هذا الخطاب إلى انقسام في هوية البلاد بدلاً من الصراع التقليدي بين الإسلام والعلمانية. 2- الانقسام السياسي العمودي بين حزب العدالة والتنمية كمؤسسة حاكمة وبين باقي الأحزاب والقوى السياسية في الباد كمعارضة قومية ويسارية ودينية، إذ إن حزب العدالة والتنمية مزهواً بالانتصارا­ت الانتخابية المتتالية التي حققها خلال السنوات الماضية لم يعمل على إقامة تحالفات سياسية أو حتى اجتماعية مع هذه الأحزاب والقوى، وإنما عاملها بنوع من الفوقية وعدم الاحترام وحتى السخرية، وكثيراً ما عاملها بمنطق عدائي، خاصة بعد أن تفجر الخلاف بينه وبين حليفه السابق فتح الله غولن الذي تعرض أنصاره إلى حملة إقصائية شاملة في مؤسسات الدولة، لاسيما في القضاء والأمن والشرطة والتعليم، بحجة مكافحة (الكيان الموازي)؛ وهو ما عمق من الانقسامات السياسية والاجتماعي­ة في البلاد، وقد بدا هذا الأمر جلياً في صعوبة تشكيل حكومة ائتلافية نظراً لتناقض أجندة هذه الأحزاب وانقساماته­ا المتعددة. 3- تزايد حدة الانقسام القومي بين الترك والكرد، وقد تجسد هذا الأمر بشكل واضح في التصويت في الانتخابات، فنتائج التصويت أشارت بوضوح إلى تقدم حزبين: حزب الشعوب الديمقراطي­ة الكردي بوصفه يمثل أملاً قومياً كردياً، وحزب الحركة القومية المتطرف الذي يمثل الأيديولوج­ية الطورانية التركية، إذ نجح هذا الحزب في زيادة أصواته بنسبة 3%، في حين كان الحزبان الخاسران لعدد الأصوات هما حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري.

ولعل هذا الشقاق أو الانقسام القومي ستكون له تداعيات كبيرة على المشهد التركي في المرحلة المقبلة، في ظل تزايد حدة المطالب القومية الكردية مقابل رفض حزب الحركة القومية لأي اعتراف بهذه المطالب واعتباره أي اعتراف بوجود قضية كردية في البلاد بمنزلة خيانة للقومية التركية وتقسيم للبلاد، وهو ما يرجح الصدام القومي والعودة إلى المربع الأول في وقت كانت هناك فرصة حقيقية لإيجاد حل سلمي للقضية الكردية في ظل المبادرات العديدة التي أطلقها عبداله أوجلان دون أن يتلقفها حزب العدالة والتنمية رغم إعلانه مراراً أنه سيمضي في حل

هذه القضية سلمياً. وثمة من يرى من الأتراك أن حزب العدالة والتنمية يتحمل مسؤولية خسارة أكثر من ربع ناخبيه وانزلاق الباد إلى القضايا الأساسية المتعلقة بإشكالية الهوية والسياسة، بعد أن كانت قد قطعت شوطاً كبيراً في التأسيس لدولة مدنية تسعى إلى نيل العضوية الأوروبية، وهؤلاء يرون أن الحزب مارس جملة من السلوكيات الخاطئة في الحكم أدت إلى وضع نهاية لتجربة الحزب بعد أوحت هذه التجربة أنها تشكل نموذجاً يمكن الاقتداء به. ولعل من أهم هذه الممارسات ما يلي: أ إن حزب العدالة والتنمية الذي جاء للحكم وفقاً لقواعد اللعبة الديمقراطي­ة أرسى سياسته في مرحلة ما بعد (ثورات الربيع العربي) على أساس أيديولوجي؛ مما زاد من الانقسام والاستقطاب وزيادة التوتر في الشارع حول عدد من القضايا في الداخل وحول نجاعة هذه السياسة تجاه علاقات تركيا بسوريا ومصر والعراق. ب إن الشارع التركي، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية، لم يرق له أن يكون الرئيس رجب طيب أردوغان رئيساً ثانياً للحزب، فيتدخل في الانتخابات ويخطب في الحشود تطلعاً إلى النظام الرئاسي، خارقاً بذلك الدستور( ). ج تراجع أمل المواطن في تحسن الوضع الاقتصادي وتراجع الإصاحات وتبخر العديد من المشاريع الخدمية والعقارية الضخمة التي تحدث عنها أردوغان في كل مناسبة، مقابل زيادة ثروة طبقة في صفوف قيادة الحزب والمقربين منها وسط فضائح تتعلق بالفساد والرشى والمحسوبيا­ت، ناهيك عن فضيحة الفساد التي هزت البلاد قبل أكثر من عام وأثرت بالسلب على مصداقية العدالة والتنمية وأردوغان شخصياً.

وفي المحصلة باتت الحياة المعيشية صعبة وسط تنامي المخاوف من انهيار اقتصادي، فضلاً عن انهيار المصداقية الأخلاقية لأردوغان الذي قال مراراً إنه يفتخر بأن حزبه هو الوحيد الذي لا يوجد فيه فساد. د فقدان الحزب لقسم من قاعدته الإسامية بعد أن انتهجت قيادته سلوكاً متكبراً لا ينسجم وهويته وخطابه الإسامي، إذ بعد كل هذه السنوات بدا الحزب وكأنه ينظر إلى الشعب من علياه، بل إن القصر الأبيض )يتألف من نحو 1150 غرفة وكلف ما يقارب من 700 مليون دولار( أضحى بمثابة رمز للتجبر، وهو ما زاد من حنق الشعب على الحزب في الوقت الذي تقول التقارير إن عدد العاطلين عن العمل في البلاد تجاوز 17 مليوناً وسط انهيار مستمر في قيمة العملة التركية وزيادة معدلات التضخم والديون وتوقف معظم المشاريع الضخمة التي تحدث عنها أردوغان خلال السنوات الماضية) ولعل ما زاد من حنق الشعب ضد حزب العدالة والتنمية هو التكاليف الضخمة لحملته الانتخابية واستخدام صلاحيات الحكومة والدولة في هذه الحملة.

وبسبب هذه الممارسات وغيرها، رفع الناخب التركي بطاقة حمراء أولى في وجه الحزب، وربما يرفعها بشكل نهائي ما لم يتخلص من هذه الممارسات ويقوم بمراجعة شاملة لسياساته، تلك السياسة التي دفعت بالبروفيسو­ر أحمد أنسل عميد كلية الاقتصاد السابق في جامعة غالاطا ساري التركية إلى التساؤل عما إذا كان حزب العدالة والتنمية يؤمن فعلاً بالديمقراط­ية أم أنه استخدم الأخيرة لتحقيق مشروعه الحقيقي في أسلمة الدولة والمجتمع التركيين، فقد شكل هذا السؤال محور الكتاب الذي أصدره البروفيسور أنسل قبل أسابيع باللغة الفرنسية تحت عنوان )تركيا أردوغان: "من حلم الديمقراطي­ة إلى حلم الأوتوقراط­ية" عن دار لاديكوفيرت) (.

� صاد�صاً: �إعادة �لتو�زن �أم �لدخول في �أزمة مفتوحة؟

لا يمكن فهم ما يجري في تركيا هذه الأيام إلا من خلال معرفة الخصائص التاريخية والجغرافية والاجتماعي­ة والأيديولو­جية التي تشكل معاً مداخل لفهم حركة المجتمع التركي في الداخل، وبالتالي سياساته الإقليمية والدولية. فتركيا بموقعها الجغرافي الفريد الذي يشكل جسراً بين الغرب والشرق، وتتوسط مجموعة من الدوائر الجغرافية تمتد من بحر الأدرياتيك­ي إلى سور الصين، مروراً بالبلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتجاور دول إقليمية مهمة مثل إيران وروسيا والمشرق العربي (العراق وسوريا) تبدو نقطة جذب سياسية في هذه الدوائر، بما يؤثر على خياراتها السياسية ومصالحها وهويتها.

وتبدو تركيا في حركتها هذه أسيرة بين تطلعها إلى زعامة تاريخية مستمدة من هويتها العثمانية على أساس أنها دولة مركزية قائدة في الشرق الأوسط الذي يتشكل من جديد، وبين كونها دولة عضواً في الحلف الأطلسي وحليفاً تاريخياً للولايات المتحدة وتقوم بدور مهم في المنظومة الأمنية للحلف الأطلسي. وفي الداخل، يمكن القول إن تركيا مرت بثاث مراحل أساسية، مرحلة العلمنة التي بدأت مع تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، ومن ثم مرحلة النظام الديمقراطي التي بدأت عام 1945 والتي فجرت عملياً الصراع بين العلمانية والإسام السياسي، وانتهت بالدخول إلى المرحلة الثالثة مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، ومن أهم معالم هذه المرحلة الثالثة "الأسلمة" التدريجية للدولة والمجتمع، والتي انتهت إلى "العثمنة") قبل أن تدخل هذه المرحلة الأخيرة مرحلة الاحتضار بفعل ثاثة عوامل أساسية وهي: 1- الصدام مع الجوار الإقليمي، فباستثناء بعض حركات الإسلام السياسي، وتحديداً تيار الإخوان المسلمين في العالم العربي، والذي رحب بالعثمانية الجديدة، ووجد فيها ما يقوي

موقفه السياسي، رأى العالم العربي على المستويات الرسمية والحزبية والشعبية في العثمانية الجديدة عودة إلى الهيمنة، إن لم نقل الاستعمار، وعليه رفضه بقوة بعد أن رحب بالانفتاح التركي عليه تحت شعار نظرية "تصفير المشاكل" التي طرحها البروفيسور أحمد داود أوغلو قبل أن يصبح وزيراً للخارجية ومن ثم رئيساً للوزراء.

ولا يخفى على المراقب أن المشروع الإقليمي التركي تعرض لضربة قاصمة بعد سقوط حكم مرسي في مصر وتراجع نفوذ الإخوان المسلمين في كل تونس وليبيا)15(. 2- الرفض الغربي للعثمانية الجديدة، خاصة أن الأخيرة أيقظت الذاكرة التاريخية للغرب تجاه ما قامت به الدولة العثمانية تاريخياً، وعليه وقف بقوة ضدها. ولعل ما دفعه إلى اتخاذ مثل هذا الموقف تلك التصريحات النارية لأردوغان ومحاولته جعلها )العثمانية الجديدة( أيديولوجية لسياسة الدولة التركية.

وقد برز هذا الأمر جلياً في إعادة التعليم باللغة العثمانية إلى التعليم والمشاريع العمرانية والخدمية الضخمة التي اتخذت منها رمزاً سياسياً وثقافياً... إلخ، وهذا ما دفع بالعديد من مراكز الأبحاث الغربية إلى السؤال: هل فعلاً ما زالت تركيا منسجمة مع أهداف المنظومة الأمنية للحلف الأطلسي. فهذا السؤال نفسه دفع العديد من الباحثين في هذه المراكز إلى المطالبة بإخراج تركيا من الحلف نظراً لأن سياستها وأهدافها لم تعد منسجمة معه)16) ومع القيم الأوروبية حيث السعي التركي إلى نيل العضوية الأوروبية. 3- إن العثمانية الجديدة قوبلت بالرفض في الداخل من قبل أوساط واسعة في المجتمع التركي، لاسيما من قبل الأقليات القومية والدينية التي ترى فيها رمزاً للإقصاء والظلم، وكذلك من قبل الأوساط الديمقراطي­ة واليسارية والعلمانية التي قطعت شوطاً كبيراً في بناء بنية مدنية منسجمة مع الهوية الوطنية بعيداً عن الأيديولوج­ية التوسعية أو الدينية.

وفي الإجمال، ينبغي القول إن انكسار العثمانية الجديدة كنظرية مستحدثة لسياسة حزب العدالة والتنمية هو شكل من أشكال الإخفاق السياسي للحزب وتطلعه إلى التفرد بالسلطة والخيارات السياسية للبلاد في الداخل والخارج، كما هي حال مشروع أردوغان في الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.

إن معرفة تركيا المستقبل تتطلب متابعة الحراك الداخلي الجاري وملاحظة صعود قوى جديدة إلى المشهد السياسي، لاسيما الكرد الذين لن يقبلوا بعد اليوم تجاهل قضيتهم أو القفز فوقها أو تأجيلها إلى ما لا نهاية، وهنا يمكن القول إن المرحلة الجديدة التي دخلتها تركيا تتوقف إلى حد كبير على كيفية تصرف حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة، حيث يبدو المشهد أمام مسارين أو خيارين مختلفين، وهما: الخيار الأول: خيار المراجعة السياسة الشاملة، بمعنى أن ينظر حزب العدالة والتنمية إلى نتائج الانتخابات من منظور قواعد اللعبة الديمقراطي­ة وممارسة الديمقراطي­ة كمفهوم وليس كصندوق اقتراع وعدد أصوات فقط، إذ وفقاً للديمقراطي­ة كمفهوم ينبغي أن لا ينظر الحزب إلى نتائج الانتخابات كهزيمة له، خاصة أنه حصل على الترتيب الأول (أكثر من 41% من الأصوات - 258 نائباً).

وهذا يتطلب منه مراجعة أيديولوجية شاملة تنهي الأفكار الشمولية التي لها علاقة بالحكم الشمولي وربط مؤسسات الدولة به والسعي إلى فرض أيديولوجية محددة على الدولة والمجتمع تقضي على التنوع الديني والقومي والاجتماعي، وهي مراجعة يجب أن تعطي من جهة ثانية دفقاً للقوى السياسية الصاعدة في الإفساح لها كنتاج اجتماعي وسياسي وفكري يساهم في تعميق الديمقراطي­ة كممارسة وسلوك ومفهوم، وبما يبعد ثقافة الإقصاء والإنكار لصالح الحرية وتحقيق التوازن والاستقرار، وبالتالي امتلاك الأدوات السلمية لحل المعضلات وتجاوز التحديات.

ولعل أهمية هذا المسار عربياً تكمن في أنه يعني مستقبلاً أفضل للعلاقات التركية – العربية التي تعاني الآن من إشكاليات كثيرة لها علاقة بالمشروع الإقليمي التركي تجاه الدول العربية كما هي حال المشروع الإيراني، فالمشروعان لهما علاقة بانتهاج سياسة التوسع والبحث عن النفوذ والهيمنة انطلاقاً من محددات القوة.

وعليه ثمة من يرى أن الخريطة السياسة والحزبية الجديدة التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية ينبغي أن تنعكس على مستوى السياسة الخارجية التركية، لاسيما تجاه العالم العربي، بحيث تنتقل من انتهاج الأيديولوج­ية كبعد في هذه السياسة إلى ممارستها وفقاً للمصالح المشتركة، وبعيداً عن أن تكون تركيا طرفاً داخلياً في القضايا العربية، وتتحول إلى ممر لإرسال الأسلحة والمقاتلين وركوب موجة الثورات والاحتجاجا­ت التي حولت العالم العربي عملياً إلى ساحة للقتل والتدمير والفوضى بدلاً من الحرية كما وعدتنا بها (الثورات العربية).

وبالتأكيد فإن مثل هذه المراجعة لابد أن تشمل السياسة الخارجية التركية اتجاه أوروبا والبلقان وآسيا الوسطى وحتى إسرائيل وغيرها من الدوائر السياسية والجغرافية، فسياسة الصوت العالي والخطابات النارية التي اتبعها أردوغان أضرت بتركيا كثيراً ووضعتها في عزلة سياسية وتحديات مصيرية.

باختصار شديد، التغيير في المشهد السياسي التركي الداخلي ينبغي أن ينعكس على السياسة الخارجية التركية، خاصة أن الخريطة السياسية الجديدة أنهت أغلبية حزب العدالة والتنمية في البرلمان، وباتت القوى الجديدة قادرة على متابعة ومراقبة صانع القرار السياسي والأمني، وهو ما يعني الحفاظ على النظام البرلماني. الخيار الثاني: خيار الذهاب إلى أزمة مفتوحة، ولعل ما يرجح مثل هذا السيناريو هو شخصية أردوغان التي ترى أن نتائج الانتخابات على هذا النحو كانت نتاج مؤامرة شاركت فيها أطراف داخلية وخارجية بهدف إسقاط حكمه ومنعه من تحقيق مشاريعه السياسية وخططه لبناء تركيا جديدة كان يطمح إليها، فعلى الأقل هذا ما يمكن استنتاجه حتى الآن من تصريحاته

وتصريحات رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، سواء فيما يتعلق بتشكيل حكومة ائتلافية أو على صعيد السياسة الخارجية، إذ إن لسان حال هؤلاء يقول إن لا تغير في هذه السياسة.

ولعل شخصية أردوغان التي اعتادت على تحقيق الانتصارات والمجد الشخصي لن تقبل بالهزيمة السياسية، بمعنى القبول بشروط الأحزاب الأخرى في التخلي عن النظام الرئاسي وغيره من الشروط للقبول بالدخول في ائتلاف حكومي مع حزب العدالة والتنمية.

وعليه ثمة من يرى أن استراتيجية أردوغان للمرحلة المقبلة هي كيفية الإعداد لمعركة الانتخابات المبكرة بعد أن يكون أعد حزب العدالة والتنمية لمثل هذا المعركة.

ولكن مثل هذا السيناريو يواجه تحديات كبيرة قد تعقد المشهد التركي أكثر وتدخله في أزمة مفتوحة كتلك التي كان يقول عنها رئيس الوزراء الراحل بولند أجاويد: "إن أزمات تركيا هي من نوع أزمة بنية النظام".

ولعل أول التحديات هنا تتعلق بكيفية إعادة أردوغان ترتيب البيت الداخلي لحزب العدالة والتنمية في وقت هناك من داخل الحزب من يحمله المسؤولية المباشرة عن ما تعرض له، وثمة من يرى أن الرئيس السابق عبداله غول سيكون رجل المرحلة المقبلة في قيادة الحزب، لكن ما تسرب من اتصالات غول – أردوغان واجتماعات غول مع قيادات حزبية من الجيل الأول هو أنه لن يقبل بالعمل وفقاً لمشيئة أردوغان وأجندته المتعلقة بالنظام؛ وهو ما يطرح ربما سيناريو عودة أردوغان إلى رئاسة الحزب بعد أن يقدم استقالته من رئاسة الجمهورية، بما يرجح هذا الأمر حصول انشقاق في حزب العدالة والتنمية.

الأمر الثاني هنا، هو أنه حتى لو جرت انتخابات مبكرة، فإنه ليس هناك ما يشير إلى أن حزب العدالة والتنمية سيحصل على نتائج أفضل مما حصل عليها، بل ثمة معطيات تشير إلى عكس ذلك.

ولعل أول هذه المؤشرات هو أن ناخب حزب العدالة والتنمية بعدما رأى نتائج الانتخابات بات يمتلك الجرأة لقول لا ضد سياسة الحزب وأجندة أردوغان. وثاني هذه المؤشرات هو أن حزب الشعوب الديمقراطي­ة الكردي بات يحظى بالمزيد من المصداقية في الشارع التركي، خاصة في ظل الخطاب الندي لزعيمه صلاح الدين ديميرتاش تجاه أردوغان ورفضه الدخول مع حزب العدالة والتنمية في حكومة ائتلافية، وهو ما عزز من مصداقيته كحزب ناهض قادر أن يجمع الكرد والترك ويقف في وجه حزب العدالة والتنمية الذي بات حكمة رمزاً لمرحلة مضت.

لكن الثابت أن مثل هذا الجدل يرشح المشهد التركي إلى المزيد من التأزم الداخلي على شكل أزمة مفتوحة قد تستحضر صراعات وخيارات جديدة، فالثابت أن الصراع الكردي – التركي قد يشهد تطورات دراماتيكية على وقع فشل عملية السلام) وصعود الكرد في دول المنطقة بما يشكل ضغطاً على تركيا ويدفع مؤسستها العسكرية إلى التحرك نحو السلطة من زاوية الحفاظ على وحدة البلاد ومنع التقسيم، لكن ما سبق لا يعني أن الكرد سيقبلون به، بل ربما يشرع الباب أمامهم في البحث عن خيار تشكيل إقليم كردي في جنوب شرق البلاد وتحويل ديار بكر إلى عاصمة لهم على غرار أربيل في كردستان العراق.

وفي جميع الأحوال، فإن تركيا دخلت مرحلة سياسية جديدة، مرحلة تبدو فيها كل السيناريوه­ات مطروحة، سواءً على صعيد تشكيل حكومة ائتلافية أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة أو حتى الدخول في أزمة سياسية مفتوحة ستكون لها بالتأكيد تداعيات على هوية تركيا بعد اليوم وعلى سياستها الخارجية، لاسيما تجاه المنطقة العربية.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates