Trending Events

كيف تحدث التحولات الفكرية؟

يبدو للوهلة الأولى أن التحول الفكري من عقيدة لأخرى ظاهرة استثنائية؛ وأن ثبات المرء على معتقداته هو الأصل؛ ولكننا لو أمعنا النظر لاتضح أن التحول العقائدي الفكري هو الأصل.

- أ.د. قدري حفني

يشير المتخصصون إلى أن الثبات على العقائد والمعتقدات والأفكار من دون تغيير أو تبديل هو الظاهرة التي يطلق عليها المتخصصون في علم النفس ظاهرة الجمود (Rigidity). ولعل هذا الخطأ في التصور والخلط بين القاعدة والظاهرة الاستثنائي­ة يسهم في خذلان محاولاتنا التصدي لظواهر بعينها، ومنها الإرهاب، حين نربطه بخاصية طبيعية وهي التحول الفكري.

اأولاً: ظاهرة عابرة للتاريخ والمجتمعات

لقد اتخذ انتشار الأديان والعقائد والأفكار الجديدة على تنوعها وتباينها مساراً محدداً يقوم على انتقال الفكرة من صاحبها الأول إلى المحيطين به ليجتذبهم لفكرته فيتحولون فكرياً إليها مولين ظهورهم لأفكارهم القديمة وهكذا. ومن ثم فإن أعداداً لا حصر لها من الأفكار تترى على عقول البشر ووعيهم منذ كانت البشرية، وينتهي الكثير من تلك الأفكار من دون أن يرى النور إذا ما وجد صاحبها، لسبب أو لآخر، أن مجرد الإفصاح عنها لا معنى له أو لا جدوى منه؛ فقد تبدو له تلك الفكرة الجديدة سخيفة أو غير منطقية أو صادمة أو تافهة أو متهورة.

وقد يقدم الفرد على اختبار فكرته بين معارفه وأصدقائه فا تجد لديهم صدى فينساها أو يتناساها أو يحتفظ بها لنفسه. وقد تجد الفكرة صدى فتتبناها جماعة وتتحمس لها وتشرع في الدعوة إليها؛ ومع اتساع أو ضيق نطاق الداعين والمستجيبي­ن، تنتقل ملكية الفكرة من صاحبها الأصلي لتصبح ملكاً مشاعاً للجماعة فتتولى تطويرها وتحديثها وتفسيرها وتعديلها بما تراه مناسباً، وقد تختلف الجماعة حول تلك التحديثات والتفسيرات والتعديات اختافاً يصل إلى حد الانشقاق واستقال كل جماعة فرعية بتفسيرها الذي تراه الأقرب للصواب.

بعبارة أخرى فإن تغيير الفرد فكره أو عقيدته لا يتحول إلى ظاهرة لها تأثيرها إلا إذا ما وجد المرء لفكرته أنصاراً ومريدين وتاميذ ينبذون أفكارهم القديمة وينبذون معها انتماءاتهم لجماعاتهم القديمة ويتحولون بتلك الانتماءات إلى الجماعة الجديدة، سواء كانت تلك الجماعة الجديدة علمية أو سياسية أو عقائدية أو وطنية.

ثانياً: تحول فكري اأم تحول انتماء؟

إن اقتصار الحديث على "التحول الفكري" قد يضلل كثيراً؛ فهو إذا ما ظل في نطاق الفرد لا يتجاوزه لكان أمراً هيناً إلا إذا مارس الفرد سلوكاً شخصياً يضعه تحت طائلة القانون. التحول الفكري المهم في هذا السياق هو تحول الانتماء من جماعة إلى أخرى.

كثيراً ما يقف البعض مندهشاً حين يقرأ أو يشاهد شاباً فرنسياً أو بلجيكياً، يولي ظهره لعقيدته الأصلية، متوجهاً إلى الإسام، ثم سرعان ما ينتقي من التأويات الإسامية أشدها تطرفاً وتشدداً، ثم يبحث من بين تلك التأويات الإسامية المتشددة المتطرفة عن أشدها عنفاً ودموية؛ فإذا هو في النهاية يترك حياته الرغدة ليمارس بكل برود انفعالي

ويقين عقلي مهام الذبح والحرق؛ بل قد نجده قد طوق نفسه بحزام ناسف مفجراً نفسه فيمن أصبح على يقين من أنهم يناصبون عقيدته الجديدة العداء؛ وأنه مأمور بقتلهم، وأن تلك العقيدة الجديدة منتصرة حتماً على أعدائها.

وقد يبدو للوهلة الأولى أن "صاحبنا" قد تغير فجأة ودون مقدمات، والحقيقة أنه قد مر بمراحل متتالية من تحول الانتماءات، ولو لم نتبين تمايزها والفروق بينها لاختلط الأمر وفشلت محاولات تافي الخطر. لقد بدأ "صاحبنا" بأن ثار داخله الشك في صدق توجهات جماعته الأساسية، وشيئاً فشيئاً اكتسبت صورتها لديه خصائص غير محببة، ففترت عاقته بها حتى ولَّاها ظهره. ويحدث لكثيرين أن يقفوا عند تلك المرحلة فيتحول بعضهم إلى الانعزال، أو فقدان اليقين في أي شيء. ولكن البعض ومنهم "صاحبنا" قد يبحث عن انتماء جديد أو قد يصادف من يلتقطه فيدعوه إلى جماعة انتماء جديدة.

إن تراث علم النفس الاجتماعي يفيض بدراسات تتناول ما يطلق عليه قوانين تماسك وتفكك الجماعات؛ بل إن التطبيقات الحديثة لتلك القوانين، خاصة في مجال علم النفس السياسي تتناول أساليب تفكيك الجماعات، كما تتناول أساليب اختاق أدوات تماسكها.

تبدأ أولى خطوات التحلل من الانتماء القديم بما يطلق عليه "تناقص قدرة الجماعة على الإشباع"، والإشباع في هذا السياق هو الإشباع الفكري، أو تناقص قدرة الإطار الفكري للجماعة عن إجابة تساؤلات يفرضها الواقع المعاش، خاصة لو كان ذلك الواقع يحمل نذر سقوط حلم فكري. ولو تصورنا مثاً أن "صاحبنا" تساءل: ترى لماذا لم تنتصر أحامنا وتتحقق؟ لو تساءل عن سبب تدهور أحوال جماعته المسلمة، فوجد من يجيبه سواء مباشرة أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي بأن السبب هو الابتعاد عن صحيح الدين، وأن حب الدنيا غلب حب الخالق. وفي حال حاول تلمس إجابة أخرى، فلم يجد إلا من يحفزونه بأن الحل هو نقل انتمائه إلى جماعة جديدة "هي إرهابية في هذه الحالة"، مولياً ظهره لجماعته القديمة التي باتت بالنسبة له جماعة خانعة ذليلة مستسلمة، في حين أن جماعته الجديدة "الإرهابية" تقدم له إجابات واضحة قاطعة يقينية على تساؤلاته المعلقة.

ثالثاً: متى يتحول التطرف اإلى العنف؟

السؤال إذن، هل يؤدي التحول الفكري تلقائياً إلى نموذج أكثر تشدداً؟ وهل يؤدي التطرف الفكري تلقائياً إلى ممارسة العنف الإرهابي؟ ليس ثمة ما يؤكّد أن التعصّب أو التطرّف الفكريّ، مهما بلغت درجته، يمكن أن يؤدّي تلقائيّا إلى ممارسة عنفٍ من أيّ نوع. صحيحٌ أن كلّ ذلك إنّما يؤدّي إلى العديد من التشوّهات الانفعاليّة والفكريّة، ومنها: الكراهية للآخر، والنفور منه، بل وتمنّي اختفائه، وكذلك العجز الفكريّ عن رؤية الجانب الآخر من الصورة، ومن ثم العجز عن الرؤية الموضوعيّة.

إن مثل هؤلاء المتطرّفين المتعصّبين، قد تفيض أحامهم برؤي بالغة العنف والدمويّة، ولكنّ شيئاً من ذلك – على الرغم من خطورته - لا يؤدّي وحده إلى ممارستهم الفعليّة للعنف. إن تحوّل الأفكار والانفعالا­ت إلى ممارسات سلوكيّة، يتطلّب أن يتوافر إلى جانبها العديد من الخصائص والسمات النفسيّة والاجتماعيّة والموقفيّة. فكراهية الآخر مهما بلغت شدّتها لا تكفي وحدها للتنبؤ بممارسة العنف حيال هذا الآخر، بل إنها قد تؤدّي عمليّاً إلى الانسحاب كلّيةً من مواجهة هذا الآخر المكروه .

وفضاً عن ذلك، فإن حقائق التاريخ، البعيدة والقريبة، تؤكّد أن التطرّف الفكريّ، والتعصّب المذهبيّ، كثيراً ما يؤدّيان، على المستوى السلوكي إلى أقصى درجات السلبيّة، بل وحتى الاستسام. ومن ذلك جماعات الطرق الصوفيّة الإساميّة، أو نظام الرهبنة المسيحيّ. ومن ثم فإن محاولة القضاء على الأفكار بدعوى اجتثاث الجذور الفكريّة للعنف، أو للعنف المضاد، ليست سوى أوهام تدحضها حقائق العلم والتاريخ معاً.

خاتمة

يبدو أن هناك ما يمكن اعتباره مامح أو صورة ذهنية تحكم التحولات الفكرية وتقود بدورها إلى أن يتحول التطرف الفكري إلى ثقافة عنف سياسي ومنها: 1- النظر إلى الآخر إمّا على أنه عميلٌ مأجور، أو ساذج جاهل، فليس من المنطقيّ، أن يوجد شخصٌ عاقلٌ نزيه، يمكن أن يقبل بتلك الترّهات. 2- لم يعد الحوار مع الآخر مجدياً، وقد استنزفنا معه إمكانيات الحوار كافة، وهو لا يفهم إلّا لغة القوّة، والتفاهم معه لا يعني سوى الضعف والتخاذل. 3- الآخر هو الخارج على الأصول الصحيحة، الشرعيّة القانونيّة، الإسام الصحيح، الاشتراكيّة الصحيحة، المسيحية الأرثوذكسي­ة..الخ . المهم، أنه هو الخارج دوماً عن الأصول، ونحن الملتزمون دوماً بتلك الأصول. 4- الآخر لا يمثّل إلّا أقليّة، أمّا الغالبيّة، فإنها تتعاطف معنا بكل تأكيد، وأيّة مؤشّرات تشير إلى غير ذلك فإنها - أيا كانت - مجرّد زيف. 5- مهما قال الآخر، أو حتى فعل، لكي يوهمنا بأنّه قد تغير، فإنه يظل في جوهره كما هو. 6- الآخر يريد لنا الاغتراب عن الواقع، اندفاعاً إلى مستقبلٍ غريبٍ عنّا، أو انسحاباً إلى ماضٍ سحيقٍ لم تعُد لنا عاقةٌ به. 7- لا ينبغي أن نفرّق في مواجهتنا لهم بين "المفكّرين" و"المنفّذين"، في صفوفهم، فكلهم أعداء، بل ولعلّ ما يبدونه من تنوّع في المواقف ليس سوى نوع من الخديعة. 8- ينبغي أن ننقّي صفوفنا من أولئك المتخاذلين الذين يدعون إلى حوارٍ مع أعدائنا، إنّهم إمّا سُذّجٌ مضلّلون، أو عماءٌ مندسّون، أو ضعافٌ ترعبهم المواجهة الشاملة.

ومن ثم فإن انتشار هذه الأفكار يقود بدوره إلى حدوث التحولات الفكرية، والتي يمكن في ظل بيئة مواتية أن تتحول إلى التعصب، ثم إلى العنف.

 ??  ??
 ??  ?? أستاذ علم النفس السياسي
بجامعة عين شمس
أستاذ علم النفس السياسي بجامعة عين شمس

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates