Trending Events

دور متصاعد:

الأبعاد الاستراتيج­ية للعلاقات الروسية – اللاتينية

- سانتياجو فيار

شهدت العلاقات بين روسيا ودول أمريكا اللاتينية، منذ عهد الاتحاد السوفييتي وحتى الآن تقلبات ارتباطاً بتغير القادة في موسكو، وتبنيهم سياسات مختلفة. وعلى الرغم من أن العلاقات بينهما انتكست مع انهيار الاتحاد السوفييتي، فإنها بدأت تنمو من جديد مع بداية القرن الحادي والعشرين لتؤسس لعلاقات قوية بين الجانبين، لا ترتكز إلى الجوانب الاقتصادية وحدها، ولكنها تمتد لتشمل أبعاداً سياسية واسراتيجية. تعد روسيا اليوم با شك قوة عالمية عظمى، سواء من الناحية الاقتصادية أم العسكرية. وأصبحت إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، جهة فاعلة مؤثرة في النظام الدولي، وهو ما يتضح من تصاعد دورها في عدد من الأقاليم المختلفة، كما في القرار الروسي بالتدخل العسكري في سوريا في عام 2015، أو التوسع في مشاريعها للتنقيب عن الطاقة في القطب الشمالي، فضاً عن مشاركتها في الجهود الرامية إلى العثور على الغواصة الأرجنتيني­ة المفقودة "سان خوان" في نوفمبر 2017.

واتجهت روسيا في السنوات الأخيرة إلى إظهار نفسها بمظهر الشريك الموثوق به، ذي الإمكانات الهائلة والرغبة في تعزيز الروابط مع شركائه في أمريكا الاتينية. وسوف يتم تحليل أبعاد العاقات بينهما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع التركيز على الأبعاد الاقتصادية والجيواستر­اتجية، من أجل تقديم فهم أفضل لعاقاتهما الحالية.

اأولً: �سيا�سات رو�سية متباينة

أدى تنامي العاقات بين روسيا ودول أمريكا الاتينية، إلى إثارة التوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار الحرب الباردة، خاصة أن الأخيرة كانت تنظر إلى القارة، باعتبارها مجالاً حصرياً لنفوذها. ولعل ذلك ما دفع بعض الباحثين إلى دراسة دور القوى الكبرى في القارة من منظور العاقات الثاثية ‪Trilateral relations(‬ ،) أي في ضوء التفاعل بين موسكو وواشنطن ودول القارة) .)

وعلى الرغم من أن العاقات السوفييتية – الاتينية تعود إلى ما قبل فترة الحرب الباردة من خال وجود بعض الروابط بين الأحزاب الشيوعية من كا الجانبين، فإن الاهتمام الروسي بهذه المنطقة لم يتوطد إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بعد نجاح الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو في عام 1959.

وفي هذه المرحلة الأولى، لم يكن هدف الاتحاد السوفييتي هو نشر نموذجه الاقتصادي بين دول القارة، بل كان يهدف إلى مساعدتها على الدخول إلى النظام الاقتصادي العالمي، والتخلص من التبعية لاقتصاد الأمريكي، وذلك كخطوة ضرورية تسبق تحوّل نظامهم الاقتصادي إلى النموذج الاشتراكي) ومن ناحية أخرى، بدأت الولايات المتحدة، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، معركتها ضد الشيوعية داخل حدودها وخارجها، بما في ذلك في أمريكا الاتينية، في محاولة للحد من النفوذ السوفييتي هناك.

فخال حكم "نيكيتا خروتشوف" )1953 – 1964(، سعت الحكومة السوفييتية إلى إدخال تغييرات هيكلية في سياساتها

الخارجية، تضمنت وضع إطار جديد للعاقات مع دول "العالم الثالث"، ومن ضمنها دول أمريكا الاتينية. وسعت موسكو إلى تقديم المنح والمساعدات الاقتصادية لدول القارة بهدف دعم نموها الاقتصادي، وهو ما عزز من النفوذ السوفييتي في المنطقة، كما سعت موسكو لتعزيز العاقات مع الحركات اليسارية، وهو ما نجحت فيه بصورة كبيرة.

وتعمقت هذه العاقات بصورة أكبر في حقبة الستينيات من القرن العشرين، خاصة مع الدول الاتينية التي كانت تسعى لمزيد من الاستقالية عن الولايات المتحدة. وقد عززت موسكو من هذه الروابط من خال إبرام اتفاقات تجارية مع دول القارة تمكن الأخيرة من تحقيق أرباح بصورة تفوق المنافع التي سيحصل عليها الاتحاد السوفييتي من الاتفاقية، وهو ما يعود إلى فلسفة الاتحاد السوفييتي آنذاك، والتي كانت تعطي الأولوية للأرباح السياسية طويلة الأجل عن المنافع الاقتصادية قصيرة الأجل.

واستمرت هذه السياسة الاقتصادية "غير المربحة" لاتحاد السوفييتي بعد تولى "ليونيد بريجنيف" منصبه في عام 1964، بل وعمد إلى مساعدة دول القارة من خال مساعدتها في تطوير بنيتها التحتية، وسعى إلى تعميق التعاون السياسي معها.

ونتيجة لهذه الإجراءات، زاد حجم التبادل التجاري مع دول رئيسية في أمريكا الاتينية بحلول منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيا­ت. فقد تضاعف حجم التبادل التجاري بين موسكو وكل من الأرجنتين والبرازيل بحوالي 300% خال الفترة الممتدة من 1975 وحتى 1985. وذلك على الرغم من أن هاتين الدولتين كانتا آنذاك تحت رئاسة حكومات عسكرية يمينية، وهو ما يدل على أن العاقات بين الاتحاد السوفييتي ودول القارة كانت أقل أيديولوجية وأكثر برجماتية عن ذي قبل.

ومن جهة ثانية، أحجم بريجنيف عن التدخل في الأوضاع السياسية الداخلية، وهو ما وضح في عدم تدخله لمساندة الرئيس التشيلي سلفادور أليندي في عام 1973، عندما تمت الإطاحة به في انقاب عسكري مدعوم أمريكياً، أو لدعم ثورة "الجبهة الساندينية للتحرير الوطني" في نيكاراجوا ضد النظام الموالي للولايات المتحدة في الستينيات والسبعينيا­ت. وقد ترتب على هذه السياسة تراجع حدة التوتر في العاقة بين موسكو وواشنطن، نظراً لإحجام موسكو عن دعم النفوذ السياسي لها في الفناء الخلفي للولايات المتحدة.

وشهدت السياسة الروسية تغيراً مرة أخرى مع تولي الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف الحكم )1985 – 1991(، فقد قرر إيقاف الاتفاقات التجارية غير مربحة مع دول أمريكا الاتينية للحد من العجز الداخلي، نظراً للأزمة الاقتصادية التي كان يمر بها الاتحاد، وذلك قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي مباشرة، وهو ما ترتب عليه انتكاسة العاقات السوفييتية – الاتينية.

وعندما تولى "بوريس يلتسين"، أول رئيس لاتحاد الروسي، الحكم في الفترة من 1991 وحتى 1999، عمل على تحويل الاقتصاد الروسي من النظام الاشتراكي إلى اقتصاد السوق، وهو ما أدى إلى استمرار تدهور العاقات مع أمريكا الاتينية خال هذه الفترة، خاصة مع التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهتها موسكو خال فترة التحول تلك.

وكان وصول فاديمير بوتين إلى الكرملين بمنزلة بداية حقبة جديدة في العاقات الروسية – الاتينية، إذ حرصت موسكو على تطوير عاقاتها بدول أمريكا الاتينية، وهو ما يتضح في العديد من المؤشرات، أبرزها الإشارة إلى أمريكا الاتينية في "مفهوم السياسة الخارجية الروسية" الصادرة في الأعوام 2000 و2008 و2013 و2016. ويعد ال "مفهوم" الوثيقة الحكومية التي توضح تطلعات وأهداف وأولويات السياسة الخارجية الروسية) .) أما ثاني هذه المؤشرات فيتعلق بالاجتماعا­ت الرسمية التي عقدها رئيس الاتحاد الروسي، وكذلك رئيس الوزراء، مع زعماء أمريكا الاتينية منذ عام 2000 حتى الآن، وهو مؤشر كاشف عن أن تطوير العاقات مع دول القارة هو نهج استراتيجي.

ولعل من أبرز هذه الزيارات، ذلك اللقاء الذي جمع بين الرئيس الروسي فاديمير بوتين في عام 2014 ورؤساء كل من الأرجنتين والبرازيل ونيكاراغوا وكوبا. وياحظ أنه خال تلك الجولة، قرر الرئيس بوتين التنازل عن 90% من ديون كوبا )بقيمة 35 مليار دولار(، كما وافقت روسيا على المطلب الفنزويلي بإعادة جدولة ديونها.

تركزت الصادرات الروسية إلى أمريكا اللاتينية في المنتجات الكيماوية، ومشتقات البرول، والمركبات والأسلحة. ولقد زادت صادرات الأسلحة بنسبة %900 بين عامي 2004 و2008 مقارنةً بنسبتها في الفرة بين عامي 1999 و 2003 .

ثانياً: الجوانب الجيوا�ستراتيجية للعلاقات الثنائية

يمكن في الوقت الحالي اعتبار العاقات الاقتصادية، خاصة التبادل التجاري، هو المحرك الرئيسي للعاقات الثنائية بين الجانبين. غير أن عاقات روسيا أقوى مع دول القارة التي تشاركها رؤيتها نفسها تجاه العاقات الدولية، والأقل انحيازاً للمصالح الأمريكية) .)

فقد ارتفعت معدلات التجارة ارتفاعاً كبيراً منذ بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما جعل روسيا أحد أكبر مستوردي السكر الخام والموالح ولحوم الخنازير) وياحظ أنه باستثناء فنزويا، فإن الميزان التجاري سلبي مع باقي دول أمريكا الاتينية، وهو ما يمكن إرجاعه إلى "نظام الأفضليات المعمم" لروسيا ‪Generalize­d System of(‬ Preference­s،) فضاً عن إرث الاتفاقيات التي عُقدت في الحقبة السوفييتية.

وعلى الجانب الآخر، تركزت الصادرات الروسية إلى أمريكا الاتينية في المنتجات الكيماوية، ومشتقات البترول،

والمركبات والأسلحة. ولقد زادت صادرات الأسلحة بنسبة 900% بين عامي 2004 و2008 مقارنةً بنسبتها في الفترة بين عامي 1999 و2003. كما سعت موسكو لتعزيز التعاون مع دول القارة في نقل التكنولوجي­ا في مجالات، مثل التعدين والطاقة الكهرومائي­ة والطاقة الذرية والبنية التحتية.

وتجدر الإشارة هنا إلى عدم تغير الشركاء التجاريين لموسكو مع أمريكا الاتينية، سواء في ظل الاتحاد السوفييتي أو الاتحاد الروسي. ففي الفترة التالية على الحرب العالمية الثانية، كانت الغالبية العظمى من التبادل التجاري بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا الاتينية مع الأرجنتين والبرازيل وكوبا، وقد استحوذت الأرجنتين والبرازيل وحدهما على حوالي 94% من الصادرات السوفييتية إلى أمريكا الاتينية في عام 1960 و86% من وارداتها) وفي نهاية السبعينيات، ارتفعت صادرات الاتحاد السوفييتي إلى بوليفيا وكولومبيا وبيرو والمكسيك، وانخفض نصيب الأرجنتين والبرازيل إلى 60% من إجمالي الصادرات السوفييتية إلى المنطقة.

وفي الوقت الحاضر، تمثل التجارة بين روسيا وشركائها الرئيسيين الثاثة في أمريكا الاتينية )الأرجنتين والبرازيل والمكسيك( أقل من 60% من إجمالي حجم التجارة مع قارة أمريكا الاتينية.

وقد زاد حجم التبادل التجاري بين روسيا وشركائها الرئيسيين في أمريكا الاتينية زيادة ملحوظة في النصف الأول من عام 2017 تحديداً، مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2016، فلقد زادت حجم التبادل التجاري مع بيرو إلى 41،% والمكسيك إلى 38.3%، وشيلي إلى 37.3%، والبرازيل إلى 28.8%، والأرجنتين إلى 10.3 .)

وعلى الرغم من وجود عاقات تكاملية واضحة بين الاقتصادات الروسية والاتينية، بما يطرح إمكانية زيادة معدلات التبادل التجاري بينهما مستقباً، فإن حجم التبادل التجاري بينهما لايزال منخفضاً نسبياً، فلم تمثل نسبة التبادل التجاري مع بلدان أمريكا الاتينية بالنسبة لاقتصاد الروسي سوى 1.2% في عام 2000، و1.4% في عام 2009، وحوالي 2% في عام 2017.

وكان للعاقات الاقتصادية بين الجانبين أبعاد استراتيجية مهمة، فقد لجأت روسيا إلى أمريكا الاتينية لاستيراد المنتجات الغذائية في صيف 2014، وهو ما ساعدها على تحدي العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة عليها بسبب تدخلها في الصراع الأوكراني، وضمها لشبه جزيرة القرم) .)

ومن جهة ثانية، فإن أغلب دول أمريكا الاتينية تبنت مواقف داعمة ضمنياً لضم موسكو لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، وهو ما يتضح عند رصد موقف هذه الدول من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 68 / 626، والخاص ب "السامة الإقليمية لأوكرانيا"، والصادر في مارس 2014، والذي كان ينص على عدم الاعتراف بضم موسكو للقرم، عقب إجرائها استفتاء هناك) فقد عارضته 4 دول، وامتنعت 14 دولة عن التصويت، في حين أيدته 12 دولة) أي أن مجموع الدول التي لم تتبن مواقف مناوئة لموسكو كان حوالي 18 دولة.

وقد مثّلت اتجاهات التصويت السابقة جرس إنذار إلى الولايات المتحدة، خاصة في ضوء الحرص الروسي على استرداد مكانته في النظام الدولي كقطب دولي، وفي ضوء تنامي حدة التوترات مع الولايات المتحدة، ومخاوف واشنطن من أن تمتد موسكو هناك، ما هو إلا رد على المحاولات الأمريكية للتمدد في الجوار المباشر لموسكو على غرار الحالة الأوكرانية.

وفي الختام، يمكن القول إن العاقات الروسية – الاتينية لا تنحصر في أبعادها الاقتصادية، وإن هناك جوانب جيواستراتي­جية لهذه العاقة، خاصة في ضوء اللقاءات والزيارات الثنائية ومتعددة الأطراف، والتنسيق بين الجانبين في المنتديات الدولية. ومن جهة أخرى، فإنه يتوقع أن تتطور هذه العاقات مستقباً، خاصة في ضوء الحرص الروسي على تعزيز العاقات الثقافية بين الجانبين، كما يتضح في بث موسكو قنوات روسية ناطقة باللغة الإسبانية، فضاً عن لقاء البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكي­ة، وبطريرك الأرثوذكس الروسي كيريل، في كوبا، وهي كلها مؤشرات على أن "روسيا قد عادت"، كما قال الرئيس الروسي السابق "ديمتري ميدفيديف" في زيارته لبوينس آيرس في عام 2010.

 ??  ??
 ??  ?? سانتياجو فيار باحث بمركز برشلونة للشؤون الدولية ) إسبانيا ‪– CIDOB(‬
سانتياجو فيار باحث بمركز برشلونة للشؤون الدولية ) إسبانيا ‪– CIDOB(‬

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates