كيف تتخذ الصين قراراتها الاستثمارية الخارجية؟
د. أحمد رشاد الصفتي
مع تصاعد دور الصين في الاقتصاد العالمي، وانتهاجها استراتيجيات نمو مدفوعة بالتصدير، نجحت بكين في تحقيق فوائض ضخمة في ميزان المدفوعات، وتوجيهها في استثمارات خارجية.
تصاعدت الاستثمارات الصينية الخارجية في السنوات الأخيرة، سواء كانت استثمارات مباشرة في مشروعات وأصول حقيقية ملموسة )تقدر بنحو 1.28 تريليون دولار في عام 2016،) أو في استثمارات الحافظة التي تُوظَّف في أصول مالية، وفي صورة تراكم للاحتياطيات الأجنبية التي تفوق حالياً ثلاثة تريليونات دولار.
وقد أثارت الاستثمارات الصينية في الخارج مؤخراً نوعاً من الجدل خارجياً وداخلياً. فخارجياً، ظهرت تخوفات في الدول المستقبلة لهذه الاستثمارات من الدور السياسي الذي تلعبه بكين، ونوعية المستثمر الصيني الذي رؤي في العديد من الحالات أنه ذراع للحكومة الصينية يدعم نفوذها في الخارج. وقد قامت السلطات الصينية مؤخراً بتعديل قواعد استثمارات الشركات الصينية بالخارج، وذلك في ظل اتهامات للشركات التابعة للقطاع الخاص بأنها تستغل الحرية النسبية للاستثمار في الخارج من أجل نقل فوائضها من العملات الأجنبية لخارج الصين، ومخاوف من تكرار التجربة اليابانية السلبية في الاستثمار الأجنبي خلال الثمانينيات من القرن الماضي، حيث قامت العديد من هذه الاستثمارات على مضاربة خاسرة في قطاعات العقارات والترفيه والإنتاج السينمائي..
ولتحليل الكيفية التي تتخذ بها قرارات الاستثمار في الصين، فإن مدخل هذا التحليل هو تحليل الدوافع وراء الاستثمارات الأجنبية الصينية بالخارج، وسيتم اعتماد التفرقة بين الاستثمارات الصينية الخارجية التي تتم عن طريق الشركات، وتلك التي تتم عن طريق صناديق حكومية. كذلك، ستتم التفرقة في الاستثمارات التي تتم عن طريق الشركات بين تلك التي تتم عن طريق شركات القطاع العام المملوكة للدولة، وتلك التابعة للقطاع الخاص.
دوافع ا�ستثمارات ال�سين الخارجية
تتباين دوافع الاستثمارات الخارجية الصينية وفقاً لطبيعة الجهة المستثمرة. فوفقاً للتقسيم المذكور أعلاه، تتم الاستثمارات الخارجية الصينية عبر أحد الأدوات التالية: 1- استثمارات من خلال صناديق مملوكة للدولة، وأهمها مؤسسة الاستثمار الصينية، وهي تمثل صندوق الثروة السيادية للدولة وأنشئت في عام 2007، وتدير أصولاً بحجم 900 مليار دولار، بما يجعلها ثاني أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم. ومن بين هذه الأصول ما يزيد على 200 مليار دولار من الأصول الخارجية. ومن أهداف المؤسسة إدارة الاحتياطيات النقدية الصينية، وهي تستثمر وفق أسس السوق وتسعى إلى تعظيم الأرباح وتقليص المخاطر، لكنَّ لهذا الصندوق أهدافاً سياسية أيضاً. وتستثمر الحكومة الصينية كذلك عبر صندوق طريق الحرير الذي أُنشئ عام 2014 بحجم يبلغ 40 مليار دولار، من أجل الاستثمار في مشروعات للبنية التحتية القائمة في دول داخلة في نطاق الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد في أوروآسيا.
وتستثمر الصين رسمياً من خلال عمليات إدارة الاحتياطيات الأجنبية التي
تزيد على 3 تريليونات دولار، في أدوات الديون الحكومية الأجنبية، وعلى رأسها أذون وسندات الخزانة الأمريكية، حيث بلغت استثماراتها في يناير 2018 في هذه الأدوات الأمريكية نحو 1.168 تريليون دولار. 2- استثمارات أجنبية مباشرة عبر شركات مملوكة للدولة، وهي تمثل نحو ثلاثة أرباع حجم الاستثمار الصيني الخارجي المباشر، وتدعمها الحكومة بعدّة صور أهمها منحها قروضاً من دون فوائد أو بفوائد مخفضة من أجل تمويل عمليات استحواذ على أصول خارجية. وبالتالي، تعمل هذه الشركات بصورة تتسق مع استراتيجية الحكومة الصينية، حيث تتمثل الدوافع الرئيسية لها فيما يلي: • تحقيق الأمن الوطني الصيني في توفير مدخلات الإنتاج من الطاقة والمواد الأولية، حيث تستثمر هذه الشركات بصورة كبيرة في دول أفريقية وآسيوية وفي أستراليا من أجل تقليص مخاطر توفير امدادات الطاقة في حال حدوث اضطرابات في الأسواق العالمية. • التوسع في النفوذ الجيوسياسي وتوفير مجال لاستيعاب الطاقة الصناعية الفائضة في الصين، حيث يتم الاستثمار في مجالات مثل الموانئ وخطوط السكك الحديدية ومحطات الطاقة، التي تستخدم منتجات صينية في بناء وتشغيل هذه الاستثمارات، وتدعم العلاقات مع الدول المستقبلة لهذه الاستثمارات. • الوصول للمعرفة التقنية المتقدمة Know-how(،) وذلك لتحقيق الهدف الاقتصادي التنموي الرئيسي المتمثل في التحول من مرحلة "صنع في الصين" إلى الوصول لمرحلة "صُمِّم في الصين". 3- استثمارات أجنبية مباشرة عبر شركات القطاع الخاص الصينية والأفراد، وتختلف دوافعها بدرجة كبيرة عن تلك التي تحرك استثمارات الشركات المملوكة للدولة، وتأخذ صوراً مضاربية أحياناً، في مجالات كالاستثمار العقاري، وفي الترفيه والإنتاج السينمائي، وتتمثل الدوافع الرئيسية فيما يلي: • استثمار الفوائض النقدية لدى الشركات الصينية، فالكثير من الشركات الصينية التي انفتحت على العالم وتوجهت للتصدير أصبح لديها فوائض نقدية لا يقابلها فرص مربحة للاستثمار داخل الصين، لأن القطاع الصناعي لم يعد يحقق الربحية المرتفعة التي كانت تتحقق فيما مضى. • إيجاد منفذ لإخراج النقد الأجنبي للخارج، حيث لاحظت الحكومة الصينية أن بعض الشركات الصينية الخاصة تدفع أحياناً قيماً مبالغاً فيها في حيازة الأصول الأجنبية، بما يشير إلى أن الدافع الرئيسي هو استغلال مثل هذه الاستثمارات في نقل الأموال للخارج، وتفادي قيود الصرف الأجنبي الصينية. • تقليص المخاطر بالتنويع الجغرافي في الاستثمارات، حيث تسعى هذه الشركات إلى تنويع محافظها الاستثمارية بصورة تجنِّبها تركز المخاطر إذا ما اقتصرت استثماراتها على الداخل الصيني. • نقل التقنية، حيث تسعى هذه الشركات للصعود في المراحل الإنتاجية وصولاً إلى الإنتاج ذي القيمة المضافة الأعلى المتحققة من الابتكار.
وقد تعرضت الاستثمارات التي تقوم بها شركات القطاع الخاص مؤخراً لتشديد في القيود من قبل الحكومة الصينية التي بدأت تقلق من النفوذ المتزايد لشركات القطاع الخاص. وفي هذا الإطار، بدأت الحكومة الصينية تطبيق سياسة جديدة للاستثمارات الخارجية، تصنفها تحت ثلاث فئات: 1- استثمارات ممنوعة، وتتمثل في الاستثمار في الصناعات العسكرية، وفي المجالات غير الأخلاقية كالمقامرة وغيرها، والاستثمار في مجالات تعتبر سلبية على الأمن القومي الصيني. 2- استثمارات مقيدة، وهي الاستثمارات في مجالات العقارات، والفنادق، والإنتاج الإعلامي، والصناعات الترفيهية، والرياضة. 3- استثمارات مُشَجَعة، وهي المرتبطة بإطار النطاق الاقتصادي لطريق الحرير الجديد البرّي والبحري، وبتحسين المعايير الفنية للصناعة الصينية، والبحث والتطوير.
روؤية م�ستقبلية للا�ستثمارات ال�سينية
ستسعى الحكومة الصينية إلى إحداث المزيد من التغييرات في السياسات الحاكمة للاستثمارات الصينية بالخارج، سواء من قبل الشركات المملوكة للدولة أو شركات القطاع الخاص، وذلك من أجل زيادة الاتساق فيما بينها، ولمواجهة تبعات الحرب التجارية الأمريكية على الصين، والتي قد تتوسع لتغطي جوانب أخرى من العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، مثل الاستثمارات المباشرة والمالية، إضافة إلى مواجهة تبعات تزايد الاضطرابات السياسية في مناطق إمدادات الطاقة.
والعداء الأمريكي الواضح لاستراتيجية "صنع في الصين 2025" يعني أن واشنطن ترى في هذه الاستراتيجية تهديداً لهيمنتها على الاقتصاد العالمي، وذلك باستهداف هذه الاستراتيجية زيادة المكون المحلي الصيني في أساس العمليات التصنيعية إلى 40% عام 2020، ثم إلى 70% عام 2025، بما يعني تجاوزها عمليات التصنيع الأساسية ودخولها في جوانب الابتكار. وبناء على ذلك، من المنتظر أن تعمل واشنطن على التقييد المتزايد لأي استثمارات صينية بها تعمل على دعم الاستراتيجية المذكورة.
ومن جانب آخر، يُنتظر أن تركِّز الصين بصورة أكبر على الاستثمارات الداعمة لها اقتصادياً وجيوسياسياً وفي أمن الطاقة في نطاق طريق الحرير الجديد، الذي يُعتبر الآن أكثر حيوية بعد العداء الأمريكي المتزايد، ولإمكانية أن يكون نواة لدعم العلاقات الصينية الآسيوية الأوروبية في مواجهة التحديات الناجمة لجميع هذه الأطراف عن السياسة التجارية الحمائية الأمريكية تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب. وأخيراً، قد تجد الصين أن هناك حاجة لإعادة هيكل محافظ استثماراتها المالية الخارجية بتقليل الأهمية النسبية لأوراق الدين الحكومي الأمريكي، من أجل تحقيق المزيد من التنويع وتقليص المخاطر، بما يعني إمكانية تقليل الطلب على أدوات الدين الأمريكي، وهو الأمر الذي قد يؤثر سلباً على تكلفة الدين الأمريكي، وقد يؤدي لمزيد من الحدة في النزاعات الاقتصادية الأمريكية الصينية مستقبلاً.