Trending Events

مسارات متباينة:

تأثير الاحتجاجات على التحولات السياسية في أمريكا اللاتينية

- كارلوس خوسيه جونزاليز باحث متخصص في شؤون أمريكا اللاتينية، حاصل على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة غرناطة بإسبانيا

ضربت موجة من الاحتجاجات عدة دول في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، بدءاً من الأرجنتين إلى المكسيك، ومروراً بهاييتي وفنزويلا، بحيث يمكن القول إن الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي سيكونان الملمحين الأساسيين للمنطقة خلال الفترة المقبلة.

تفاوت نجاح الحركات الاحتجاجية في التأثير على النظام السياسي من دول لأخرى في أمريكا اللاتينية، ويسعى هذا التحليل للتركيز على مسببات هذه الموجة الاحتجاجية، ومدى قدرتها على التأثير على السلطة السياسية القائمة لدفعها لإدخال تغييرات تتجاوب معها، وأخيراً، توضيح المسارات المحتملة للتحول السياسي في هذه النظم.

اأولً: دورات ال�شتقرار والأزمات

تشهد العديد من الدول في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. ويمكن القول إن هناك قواسم مشتركة للمشاكل والأزمات التي تشهدها هذه الدول، على الرغم من خصوصية كل بلد. ويمكن إيجاز أبرز أسباب الاضطرابات في العوامل التالية: 1- تراجع دور الحكومات: ازداد الغضب الشعبي في دول أمريكا اللاتينية من المشاكل المجتمعية المزمنة، وعجز الحكومات المتعاقبة عن مواجهتها، مثل عدم المساواة والفساد، فضلاً عن فقدان الأمل في النخب السياسية الحاكمة، وقدرتها على علاج هذه المشكلات، وهو ما انعكس في استطلاعات الرأي، حيث أشار "مشروع الرأي العام في أمريكا اللاتينية" LAPOP() إلى أن "دعم الديمقراطي­ة قد انخفض من 67% إلى 56% من عام 2014 إلى 1( 2017.)

ومن جهة ثانية، تعاني العديد من دول أمريكا اللاتينية استشراء الفساد. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك قضية شركة "أوديبريشت" البرازيلية، والتي تورطت في دفع رشى لمسؤولين في عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية. وكانت من بين عواقبها إجبار رئيس بيرو، بيدرو بابلو كوتشينسكي، على الاستقالة في مارس 2018، وذلك بعد اتهامه بالحصول على رشى من هذه الشركة. 2- تدهور الأوضاع الاقتصادية: تعاني اقتصادات الإقليم أزمات اقتصادية تتكرر بشكل دوري. ويشير "مويسيس نايم"، الكاتب الفنزويلي، في هذا الصدد إلى أنه "لطالما عُرفت هذه المنطقة بأنها صاحبة الاقتصادات الأكثر تقلباً في العالم، فهي تتحول، بصورة دورية، من مراحل تتسم بالنمو الاقتصادي والازدهار، إلى مراحل أخرى من الركود والبؤس. وعادة ما تحكم هذه الدورات المتقلبة من الازدهار والكساد الأسعار الدولية للمواد الخام التي تصدرها المنطقة، وكذلك مدى توفر القروض والاستثمار­ات الأجنبية")2.)

وتعاني أغلب دول أمريكا اللاتينية تراجع النمو الاقتصادي في الفترة الحالية، إذ حذر صندوق النقد الدولي من أن توقعات النمو على المدى المتوسط في المنطقة لا تزال ضعيفة، كما أن توقعات النمو على المدى الطويل لاتزال متوسطة. وقد ترتب على هذا الوضع تراجع معدلات النمو المتوقعة لنصيب

الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بدول الأسواق الناشئة الأخرى، وهو الأمر الذي يعني استمرار التفاوت الواضح في الدخول. وعلى الرغم من نجاح أمريكا اللاتينية في تحقيق تقدم ملموس في الحد من عدم المساواة والفقر منذ بداية القرن الواحد والعشرين، فإنها تظل المنطقة الأولى على مستوى العالم من حيث التفاوت الكبير في الدخول)3.)

ثانياً: حدود نجاح الحتجاجات

تفاوت نجاح الاحتجاجات في التأثير على الأوضاع السياسية من دولة لأخرى في دول أمريكا اللاتينية، ففي بعض الحالات، نجحت المجتمعات في إحداث تغييرات سياسية بارزة، كما في حالة بيرو، وفي بعض الحالات لا يزال من العسير التنبؤ بالمسار السياسي للبلاد جراء هذه الاحتجاجات، كما في حالة البرازيل، بينما هناك مجموعة من الدول، مثل فنزويلا ونيكاراجوا، والتي تمكنت فيهما السلطات الحاكمة من القضاء على أي معارضة سياسية في البلاد. ويمكن تفصيل ما سبق في المسارات الثلاثة التالية: 1- تغيير النظم الحاكمة: تم إقصاء عدد من الحكومات في أمريكا اللاتينية عن الحكم، وقد تم هذا التغيير من خلال إدراك النخب حتمية التغيير، واستحالة استمرار الأوضاع على ما هي عليه، ففي كوبا، عقدت "الجمعية الوطنية الكوبية" )البرلمان( جلسة طارئة لتنازل الرئيس "راؤول كاسترو"، شقيق زعيم الثورة الكوبية "فيدل كاسترو"، عن منصبه لنائبه الأول "ميجيل دياز كانيل" في أبريل 2018، في خطوة تهدف إلى إجراء إصلاحات سياسية، والانتقال التدريجي إلى اقتصاد السوق، إذ يتوقع أن يبدأ الإعداد لانتخابات ديمقراطية يتولاها شخص آخر غير الأخوين كاسترو لأول مرة منذ عام .1959

أما بيرو، فقد استقال الرئيس "بيدرو بابلو كوتشينسكي" في مارس 2018، كما سبقت الإشارة، وتولى "مارتن فيزكارا"، نائب الرئيس، الحكم خلفاً لكوتشينسكي، وهو ما يرجع إلى تبلور رأي عام قوي في بيرو يرفض التسامح مع الفساد، ولعل منع الرئيس السابق من السفر، والتحقيق معه بادرة على حدوث تغيير جدي في محاربة الفساد في هذا البلد، الذي طالما عانى هذه الظاهرة. 2- استمرار العجز الحكومي: تشهد كل من كولومبيا والبرازيل والمكسيك حالة الغموض السياسي، خاصة مع صعوبة توقع نتائج الانتخابات، أو قدرة الحكومات المنتخبة على التعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعي­ة. وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي: أ- تحدي تحقيق السلام في كولومبيا: يواجه الرئيس الجديد، "إيفان دوكي"، تحدي تحقيق المصالحة في مجتمع يتسم بالاستقطاب الشديد، وذلك بسبب رفض أغلبية الشعب الكولومبي اتفاق السلام المبرم مع حركة "فارك" المتمردة، بل ومن الملاحظ أن أحد أسباب فوز "دوكي" في الانتخابات الرئاسية في يونيو 2018 هو إعلانه رفض اتفاق السلام الذي وقعه الرئيس السابق.

وفي هذا الإطار، يثار التساؤل حول فرص تنفيذ الرئيس الجديد اتفاق السلام الموقع في عام 2016، فضلاً عن التوصل للسلام مع الحركات المتمردة الأخرى، وذلك في ظل تراجع النمو الاقتصادي. ب- غموض السياسات الحكومية في المكسيك: تمكن المرشح اليساري "أندريس مانويل لوبيز أوبرادور" من الفوز بالانتخابا­ت الرئاسية في يوليو 2018، ليتولى المنصب في ديسمبر 2018، في احتجاج شعبي واضح على سياسات سابقيه. وتثار الأسئلة حول فرص نجاحه في الحكم، ومدى قدرته على تحقيق الإصلاحات الاجتماعية التي وعد بها، وعن كيفية إدارته للاقتصاد، خاصة بعد إلغاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتفاقية "التجارة الحرة لأمريكا الشمالية" )نافتا(. ومن جهة ثانية، تشعر قطاعات مجتمعية بالخوف من أن يقيم أوبرادور حكومة شعبوية على غرار الحكومة الفنزويلية، والتي أغرقت البلاد في حالة انهيار اقتصادي، أو أن يسير الرئيس الجديد على نهج سابقيه من دون أي يحدث أي تغيير سياسي في البلاد)4.) ج- غموض هوية الرئيس القادم: تعد البرازيل أكبر دول المنطقة وأكثرها نفوذاً، ولذلك تكتسب الانتخابات الرئاسية بها أهمية كبرى، في ضوء صعوبة التنبؤ بهوية الرئيس القادم.

وقد تم منع الرئيس السابق "لولا دا سيلفا" من المشاركة في انتخابات أكتوبر 2018، بسبب الحكم الصادر ضده بالسجن لمدة 12 عاماً بتهمة الفساد وغسيل الأموال)5(، وذلك على الرغم من تصدره جميع استطلاعات الرأي)6(، ولذلك فإن دعوته للتصويت لصالح مرشح حزب العمال البرازيلي، فرناندو حداد، قد يعزز فرصه في الفوز.

ويأتي ضمن المرشحين المحتمل فوزهم في الانتخابات مرشح الحزب الليبرالي الاجتماعي "جير بولسونارو"، وهو شعبوي محافظ، ونجح في الحصول على المركز الثاني في استطلاعات الرأي بعد لولا )22%(، وقد تتعزز فرصه في الفوز إذا ما نجح في إقامة تحالفات سياسية. وتليه "مارينا سيلفا" عن حزب "شبكة الاستدامة" )بنسبة 16%(، والتي تبدو أنها الوحيدة القادرة على أن تكون منافساً حقيقياً لبولسونارو.

ويلاحظ أن انعدام ثقة المواطن البرازيلي في السياسيين، وعدم تصديقه لهم، سوف يكون متغيراً مهماً في الانتخابات القادمة، فقد يمثل فرصة كبيرة لاختيار رئيس جديد من خارج النخبة السياسة البرازيلية التقليدية، أو أن يتم انتخاب شخص

من هذه النخبة، ومن ثم تستمر حالة الركود السياسي التي تعانيها البلاد. 3- غلبة الاستبداد السياسي: تشهد بعض الدول في أمريكا اللاتينية حركات احتجاجية تهدف إلى الإصلاح السياسي، غير أن فرص نجاح هذه الاحتجاجات لا تزال محدودة، وهو ما يتضح بصورة واضحة في حالتي فنزويلا ونيكاراجوا، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي: أ- تراجع فرص التغيير السياسي في فنزويلا: يزداد الوضع السياسي في فنزويلا اضطراباً مع تعزيز "نيكولاس مادورو" سيطرته على الحكم في مواجهة باقي المؤسسات، خاصة البرلمان، ومن دون وجود أي أفق لحدوث تغيير سياسي في البلاد، بينما واصل الاقتصاد الفنزويلي انهياره، غير المسبوق، مع بلوغ معدلات التضخم لمستويات قياسية بلغت مليون في المائة سنوياً، الأمر الذي أدى إلى لجوء المواطنين إلى دول الجوار، وبلغ عددهم في كولومبيا وحدها حوالي مليون مواطن)7(، ولا يبدو أن هناك حلاً لهذه الأزمة، سوى بضغط من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإن كان فرص هذا السيناريو تكاد تكون معدومة. ب- انتهاج أسلوب القمع الأمني في نيكاراجوا: يلخص الوضع في نيكاراجوا حالة التناقض داخل أمريكا اللاتينية، والمتمثلة في عبارة "كل شيء يتغير لكي تبقى الأوضاع على حالها"، وهذا هو السبب الرئيس وراء تنامي الغضب الشعبي من حكومة "دانيال أورتيجا"، والذي تولى ثلاث فترات رئاسية من عام 2006، وحتى الآن.

ويعد أورتيجا زعيماً ثورياً سابقاً وأطاح بنظام "أناستاسيو سوموزا" في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وحكم نيكاراجوا في السابق في الفترة من 1984 وحتى عام 1990. وعندما عاد أورتيجا إلى السلطة من جديد بدءاً من عام 2007، عادت بعض الوجوه السياسية التي ارتبطت بنظام سوموزا على الساحة من جديد، والتي اعتادت على ممارسة القمع والاستبداد، وهو ما بدا جلياً مع القمع الدموي للاحتاجات التي اندلعت في البلاد منذ أبريل 8( 2018.)

وكما هي الحال في فنزويلا، لا يبدو أن هناك فرصة لانتقال سياسي سلس، بل ومن المتوقع أن تزداد حدة القمع الأمني، نظراً لامتلاك الحكومة الموارد الكافية للتشبث بالسلطة، ومن ثم فإن أورتيجا سوف يسلك مسلك الرئيس مادورو نفسه.

ثالثاً: البدائل المتاحة للمجتمعات

لا تعد ظاهرة الاضطرابات الاجتماعية التي تعانيها بعض دول أمريكا اللاتينية سمة مميزة للقارة وحدها، ولكنها في الواقع جزء من تطور أكبر تعانيه العديد من الدول، فهناك الملايين حول العالم ممن يشعرون بأنهم تعرضوا للإقصاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ويتمثل السبب الأساسي للاحتجاجات في النخب، التي لا تدرك رغبة المجتمعات في تحسين الأوضاع الاقتصادية، خاصة مع تراجع الثقة في المؤسسات في جميع أنحاء العالم على مدار العقد الماضي. فقد تحولت السياسة في العديد من البلدان إلى منافسة بين "النخب" التي لا تهتم سوى بمصالحها. ومع تزايد قناعة المجتمعات بأن "النخب" لا تمثلها، ظهر خياران بديلان: أحدهما يتمثل في السياسات الشعبوية، التي تنادي ببناء الجدران، المادية والمعنوية بين الشعوب، أما الآخر فيركز على تبني سياسات تعاونية، ويهدف إلى استعادة الثقة المفقودة من المجتمعات) .)

وتمثل الشعبوية تهديداً للقيم والمؤسسات الديمقراطي­ة. فصحيح أنها تطرح سياسات مغايرة لسياسات الأحزاب والنخب التقليدية، إلا أن هذه السياسات تتسم بالاختزال الشديد، ومن ثم فإنها تهدد بتعميق المشكلات التي وعدوا بإصلاحها.

ويبقي هناك أمل في بروز نخبة سياسية بديلة غير شعبوية، قادرة على التعبير عن إحباط المواطنين وطرح حلول جدية لمواجهتها، غير أن حالة الغموض السياسي التي تعانيها بعض الدول مثل البرازيل، تجعل هذا الاحتمال ضعيفاً نسبياً. وعلى الرغم مما سبق، فإن هناك بعض التجارب الناجحة في أمريكا اللاتينية، مثل بيرو، والتي يصر فيها المجتمع على تعزيز الديمقراطي­ة ومكافحة الفساد)10.)

وفي الختام، يمكن القول إن تعزيز القيم الديمقراطي­ة تعتمد بالأساس على وعي الشعوب والمجتمعات، وتوظيفها للاحتجاجات لإعادة تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة، غير أنه، وكما سبقت الإشارة، فإن تداعيات الاحتجاجات السياسية لا تزال غير مؤكدة، كما في حالة البرازيل، أو حتى غير مرشحة للنجاح، كما في حالتي فنزويلا ونيكارجوا.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates